لا يحتاج الأمر كثيرا حتى تتمكن من اعتقال معارض أو إغلاق قناة أو وسيلة إعلام لا تتوافق وأهواء السلطة. كل ما في الأمر، هو أن يتقدم شخص أو مجموعة أشخاص بشكوى ضد هذا المعارض أو تلك الوسيلة للقضاء. ثم يخرج القرار سريعا ومباشرا. كل ذلك من خلال مؤسسات القانون، لكن من المشكوك فيه أنه من خلال القانون نفسه، وهنا تكمن المفارقة المهمة، حينما تتحول مؤسسة القانون إلى سلاح ضد تعريفها وأداة في يد السلطة التنفيذية.
إن الاجتهاد القانوني في مثل هذه المسائل يتطلب خبراء في القانون. لكن السياق الذي تصدر فيه هذه القرارات يمكن لأي متابع عادي أن يكتشفه. تحريض وتخوين وهجوم ضد قناة الجزيرة من خلال أشخاص محسوبين على السلطة الفلسطينية وأجهزة أمنها. ثم حملة منظمة ضد القناة عبر المجموعات الإعلامية غير الرسمية ولاحقا عبر منصات ووسائل إعلام رسمية. وأخيرا يأتي القرار من مؤسسات القضاء بناء على شكوى أو أكثر.
هذه محاولة يائسة لتضليل الناس بأن المسار الذي تم اتخاذ فيه القرار كان قانونيا مهنيا. الكل الفلسطيني مدرك لحجم التحريض الذي تعرضت له القناة على مدار الأسابيع الماضية عبر صفحات أقاليم حركة على مواقع التواصل الاجتماعي وقرارات الحظر غير الرسمي الذي تعرضت له القناة عبر هذه القرارات التنظيمية التي قرر فصيل واحد في فلسطين أن يتخذها ويعممها ويتعامل على أساسها في الجغرافيا التي يحكمها ضابط إسرائيلي برتبة ميجر جنرال، وهي رتبة بالمناسبة لدى أجهزة أمن السلطة منها العشرات وهناك رتب أعلى منها أيضا.
لكنها أيضا محاولة بائسة في زمن تتدفق فيه المعلومات بطرق لا تستطيع الأنظمة الدكتاتورية حجبها. في زمن التقنيات والتكنولوجيا، لا يمكن للأنظمة السياسية حجب المعلومة، ولكن النظريات التي ما زالت هذه الأنظمة تتبعها محكومة بعقدتي الانتقام والتاريخ. ولذلك، يمكن القول إن التأثير الفعلي والمباشر لمثل هذه القرارات لا يشبه ذات التأثير لو تم اتخاذها قبل عشرين عاما، لكنه هوس الضبط والسيطرة حتى وإن كانت النتيجة تساوي الصفر.
هذه القرارات ورغم فعاليتها الضئيلة، إلا أنها تكشف كذلك عن إرهاب من نوع خطير. "إرهاب التحكم في المعلومة" وهندسة العقل البشري عبر حجب مصادر وإبقاء أخرى. هذه من أقدم وأخطر نظريات القمع في التاريخ البشري. قاعدة اتبعها فرعون عندما قال: ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبل الرشاد. لقد كان المنطق الذي يحكم سياسة فرعون هو: المعلومة ذات المصدر والاتجاه الواحد، وتنصيب ذاته كميزان للأخلاقيات والقيم والأفكار التي يجب أن تحكم المجتمع.
انطلاقا من هذا المنطق الذي لا يفنى مع مرور الوقت والأجيال البشرية، والذي تحكم كل قاعدة فيه الأخرى، يمكن تفسير قرار إغلاق قناة الجزيرة أو أي وسيلة إعلامية أخرى لا تتوافق وهوى السلطة. وليس بالضرورة أن تكون معارضة، فقد يكفي أن تكون مهنية. إن حجب مصدر المعلومة هو جزء من عملية التلاعب بالوعي وهندسته، لكن السؤال الذي يطرح نفسه في مثل هذه الحالة: هل وسائل الإعلام الإسرائيلية التي لم يصدر قرارا بحجبها لا تلوث وعينا وقيمنا؟!.
حينما تبقي السلطة على بث القنوات الإسرائيلية التي تخدم بخطابها مؤسسات الاحتلال الأمنية والسياسية ومجمل السياسات الاستعمارية، فإن الأمر لا يتعلق بخوف أو قلق على وعي الفلسطيني، وإنما موضعة السلطة لنفسها كمشروع لانهائي للفلسطيني على حساب نفسه. لكن هذه القرارات تمثل اعترافا ضمنيا من السلطة بنقدية العقل الفلسطيني وإيجابيته، وقلقها من فاعليته. وتكشف من ناحية أخرى هشاشة غير مسبوقة في وضع السلطة التي تعمّق أزمتها وأزمة الفلسطينيين جميعا.