خاص - شبكة قدس الإخبارية: بلغت الاشتباكات المسلحة بين الشبان الفلسطينيين وعناصر الأجهزة الأمنية ذروتها مساء أمس الجمعة بمدينة جنين، في أعقاب أجواء من التوتر سادت المحافظة منذ صباح يوم الخميس الماضي.
لم تكن اشتباكات جنين حدثاً طارئاً من بين الأحداث التي تعيشها الضفة الغربية في ظل وجود السلطة الفلسطينية، بل واحدة من عشرات الوقائع التي شهدتها الضفة الغربية خلال السنوات الأخيرة، في حين تصدرت السلطة بأجهزتها الأمنية حملات ملاحقة المقاومين وإحباط جهودهم، بينما تكللت هذه الجهود أخيراً بسخطٍ شعبي متصاعد ضد السلطة الفلسطينية، ومطالب إسرائيلية جدية بإزالة السلطة وإنهاء حكمها في الضفة الغربية، فكيف تصاعد ذلك؟
المفاوضات والمهمات الجديدة
منذ نهاية انتفاضة الأقصى، سعت الإدارة الأمريكية لهندسة واقعٍ جديد في الضفة الغربية، يرتكز على عدة عوامل أساسية، أبرزها نموذج "الفلسطيني الجديد" والذي استهدف بالدرجة الأولى برامج الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي انخرط العشرات من عناصرها في المقاومة أبان الانتفاضة، وخصصت الإدارة الأمريكية آنذاك جنرال من الجيش الأمريكي يدعى كيث دايتون، والذي أعاد بدوره هيكلية الأجهزة الأمنية الفلسطينية وفق رؤية تقوم على مسميات "السلام" و "نبذ العنف"، في حين حملت الأجهزة الأمنية وفق المفاوضات التي جرت بين الاحتلال والسلطة مسؤولية إحباط وتفكيك أي جهد مقاوم في الضفة الغربية، مع دعم أمريكي وأروبي واسع تخلل الدعم المالي والتقني للأجهزة، والإشراف على دوراتها التدريبية في أريحا والأردن وحتى بعض الدول الأوروبية.
وقد طبقت السلطة الفلسطينية ذلك بشكلٍ فعلي من خلال إزاحة رئيسها محمود عباس، لعدد من القيادات التاريخية للأجهزة الأمنية، فأصدر في أيلول/ سبتمبر 2009 سلسلة قراراتٍ برزت على إثرها وجوهٌ جديدة مقرّبة منه بات تحكم المشهد الأمني اليوم في الضفة الغربية.
فيما تزامنت هذه الترقيات مع تصاعدٍ جنوني في موجة الاعتقالات التي شنّتها أجهزة السلطة الأمنية على مئات الشباب بـ"تهمة" الانتماء لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، واعتقال عناصر كتائب الأقصى الذين رفضوا عروضات تسليم سلاحهم و "الحصول على العفو" بالقوة وفي حملات أمنية حقيقية.
وتجلى ذلك بعد مواقف كتصفية مجموعة من المطاردين في مدينة قلقيلية منتصف عام 2009، وحملة اعتقالات واسعة طالت مئات الأسرى المحررين في الضفة الغربية صيف عام 2010 بعد تنفيذ كتائب القسام لسلسة عمليات "سيل النار" التي قُتل بها 4 مستوطنين وأصيب مثلهم ب3 عمليات إطلاق نار متفرقة.
بعد ذلك بسنوات قليلة وتحديداً عام 2013 اقتحم جيش الاحتلال مخيم جنين واغتال القائد في سرايا القدس، الشهيد إسلام الطوباسي، في حينها شهدت جنين احتجاجات شعبية ضد السلطة على خلفية التنسيق الأمني مع الاحتلال، لينتشر أكثر من 800 عنصر أمني من الكتيبة الخاصة 101 والتي تتبع لجهاز الأمن الوطني، وقمعت الاحتجاجات بشدة.
تكثيف المهمات وتجديد الولاء
جاء عام 2021 حاملاً معه معركة سيف القدس والتي استمرت لنحو أسبوع، فيما ألقت بظلالها الأكبر على الضفة الغربية والواقع الراكد التي كانت تعيشه، فبرزت خلايا المقاومة بشكلٍ متسلسل في محافظات شمال الضفة الغربية.
لم يكن ظهور الخلايا بشكلٍ علني ومنظم في مدينتي جنين ونابلس، بالأمر الذي يوافق السلطة الفلسطينية وبرنامجها الأمني والسياسي، فعلى الفور بدأت جهود الأجهزة الأمنية بإفشال محاولا نهوض المقاومة بوسائل غير معلنة "ناعمة" تطورت بعد شهور لملاحقات واقتحامات وإطلاق نار باتجاه المطاردين.
انعكس ذلك بشكلٍ واضح في محاولة اقتحام لمخيم جنين في شهر شباط/فبراير 2022، وسلسة اعتقالات في محافظة طوباس، أما الحدث الأبرز فكان اعتقال المطارد مصعب اشتية في مدينة نابلس، ثم حملة القمع الواسعة التي قامت بها الأجهزة الأمنية ضد الاحتجاجات وأسفرت عن استشهاد أحد الفلسطينيين في المدينة بعد إصابته برصاص الأجهزة الأمنية.
بعد ذلك تسلمت الأجهزة الأمنية مهمة تفكيك العبوات الناسفة التي تزرعها المقاومة مخيمات ومدن الضفة، وإطلاق النار على المقاومين ومصادرة سلاحهم وعتادهم وتعددت هذه الحوادث، كحادثة حصار الشهيد محمد جابر (أبو شجاع) ، في مشفى ثابت ثابت بمدينة طولكرم، ومحاولة اعتقاله في شهر تموز/يوليو الماضي، وغيرها الكثير من عمليات الملاحقة التي طالت أبو شجاع شخصياً، ومقاومي كتيبة طولكرم.
واغتالت الأجهزة الأمنية المطاردين معتصم العارف وأحمد أبو الفول بحادثتين منفصلتين في طولكرم، فضلاً عن قمعها المسيرات التضامنية مع غزة.
هل رضي الاحتلال بذلك؟
يؤكد وزراء الاحتلال وقادة اليمين الصهيوني المتطرف، عدم موافقتهم على إقامة كيان سياسي فلسطيني في الضفة الغربية، وإنهاء أي رؤوية سياسية تنادي بأحقية الفلسطينيين في الضفة الغربية، في حين يطرح هؤلاء وعلى رأسهم وزير مالية الاحتلال بتسلئيل سموتريتش فكرة ضرورة إنهاء وجود السلطة الفلسطينية وضم الضفة الغربية بشكلٍ كلي.
كما صرح وزير خارجية الاحتلال، غدعون ساعر، بأن إقامة دولة فلسطينية لم تعد أمراً "واقعياً"، في تصريحات تأتي في سياق تعزيز الحكومة الإسرائيلية خططها لتوسيع الاستيطان وفرض السيادة على الأراضي الفلسطينية، وهو ما يعني بشكلٍ ضمني إنهاء أي اعتبار سياسي للسلطة الفلسطينية.
ينحصر نفوذ السلطة الفلسطينية في مراكز المدن الفلسطينية وبعض مناطق ب التي يتم التحرك بها وفق تنسيق مسبق مع الارتباط وبموافقة جيش الاحتلال،فعلى سبيل المثال، تم طرد عناصر الدفاع المدني الفلسطيني من قبل جنود الاحتلال في إحدى المناطق بمدينة البيرة خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، لعدم وجود تنسيق يقضي بالسماح لعناصر الدفاع المدني الدخول للمنطقة كونها مصنفة ج.
في حين تبذل السلطة ما بوسعها لإثبات سيادتها الوهمية على الأرض، مع تأكيدها ولاءها التام للاحتلال وأهدافه الاستخباراتية في الضفة، تُقابل بإصرار إسرائيلي غير مسبوق يهدف لإنهاءها.
فضلاً عن ذلك يمارس الاحتلال منذ أعوام سياسة الحصار الاقتصادي ضد السلطة، ضمن ساسية المد والجزر باحتجاز أموال المقاصة، وابتزاز السلطة بمواقفها الدبلوماسية، الأمر الذي جعل وجودها على المحك عدة مرات خلال السنوات الأخيرة، فيما تتعد وسائل الاحتلال لمحاربة الوجود الفلسطيني ككل ومن ضمنه السلطة، تعمل الأخيرة على تعدد وسائلها للتضيق على الشعب الفلسطيني ومقاومته من جهة، والتعاون الكامل مع الاحتلال من جانب آخر.