جبل فلسطين، هكذا يُلقب، صرخاته ما زالت يُسمع صداها على دوار المنارة، وسط مدينة رام الله، فقد قال يوماً: كلكم بتعيشوا بسبب الأسرى، الحرية المجزوءة اللي بتعيشوها أنتم بفضل الأسرى والشهداء، يا كل الناس لا استثني أحداً"، هذا هو أبو صالح "عمر البرغوثي"، الذي كان دائماً مُسانداً ومُشجعاً، بل وقائداً للصوت الفلسطيني، ولم يقتصر نضاله حد الاعتقال، حيثُ اُستشهد ابنه صالح، واُعتقل ابنه عاصف، والأهم كان دائم التواجد مع الشعب، ليخبرنا التاريخ أن علاقته مع القضية تمتد من سنوات طفولته إلى رحيله، مأسورا لا طليقاً.
لقد كان يؤمن أن الشهداء والأسرى هم فقط رمز الكرامة، وسط خذلان من القريب قبل الغريب لدوار المنارة، وكان أبو صالح رجل أبيض في حقبة سوداء، يرفع يديه ليتهم الجميع، ويُطلق الكلمات كأنها رصاص، فهو الفلاح الذي يؤمن أن الأرض لا يُمكن لها أن تمنحك الثمر قبل الفلاحة، وغير ذلك هو بث للهزيمة داخل هتافات الشعوب، ومحاولة لتحويل دوار المنارة الذي اغتالت عليه القوات الخاصة التابعة لجيش الاحتلال الشهيد القسامي "بسام لطفي الأشقر" خلال الانتفاضة الثانية، إلى حانة صغيرة.
من دوار المنارة إلى مدخل البيرة الشمالي " بيت آيل"، رام الله حركت شبابها إعجاباً بموافقه السياسية، وتحركت حجارتها كلها فرحاً لما هندسهُ أبو صالح، وكان هذا هو النزول من حلم انتفاضة الحجارة إلى واقع "عجل الكاوشوك" المشتعل على دوار "بيت آيل" في أرقى صورة الالتزام الوطني المقدس، حينها حتى لو غائباً، تشهد المواجهات فيما وعد، وتلك هي أجمل مشاهد الوفاء التي يبحث عنها دوار المنارة بعد "طوفان الأقصى".
إذن، يتشح دوار المنارة بالسواد، ويُفتش عن صرخات أبو صالح، الذي قال على عتباته وهو يُعاتب فكرة دوار المنارة: " وأحنا في الآسر عنا حرية أكثر من هان"، لربما كان يقصد أبو صالح أن الحرية هي المقابل كما قال الشهيد غسان كنفاني، ولذلك رفع دوار المنارة القبعة احتراماً لمن خلق الفروسية في المواقف، حينها بدء الدوار يبحث عن حقيقة وجودة، ولربما لو نطق لقال: أسمي دوار أبو صالح.
من بلدة كوبر في رام الله إلى سجن "عوفر"، أو لربما تحقيق "المسكوبية" في القدس المحتلة، كان يُفتش أبو صالح عن دوار المنارة، ولربما كان يحلم بهتافات الجماهير، وأكف القدح، ونبض الصرخات، وأم سعد، تلك المرأة التي حدثنا عنها غسان كنفاني في روايته أم سعد، والتي قال عنها كنفاني: "أم سعد تقف الآن تحت سقف البؤس الواطئ في الصف العالي من المعركة، وتدفع، وتظل تدفع أكثر من الجميع"، وبل يبحث أبو صالح عن رجال الشمس الذي يقرعون جدران الخزان، وأكثر كان يبحث عن حيفا التي تستحق الحرب.
تلك هي أدبيات الثوار، البحث عن المقاومة بصفتها جدوى مستمرة كما قال "باسل الاعرج"، وفي السياق كان أبو صالح يحلم بأن يكون دوار المنارة هو جدوى مستمرة، ونقطة انطلاق حيوية، ومركزية للاحتجاج والتظاهر ضد فكي الكماشة، وهنا يبحث الدوار ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 عن جدوى وجوده في الوعي الجمعي للمتظاهر الفلسطيني، ويفُتش من جديد عن صوت الرفض، والعصيان على عتباته، وصرخات الشهيد خضر عدنان، وهتافات الاسيرة ليان الكايد، وهديل شطارة...
إذن، شكّل دوار المنارة أبرز ميادين الرفض، وكان علامة واضحة على الصورة الرمزية للتظاهر لدى الشعب الفلسطيني، ولم يكن أبو صالح إلا أقوى تلك الصور، القصد صور الانتفاضة، والاشتباكات، وركض المطارد الذي لا يجوز أن يشبع، والذي يكون شعاره على حد وصف أبو صالح: "تقعد في زنزانة من صنع يدك ستين سنة ولا تقعد ست ساعات في زنزانة العدو"، وما بين أبو صالح ودوار المنارة يبقى الاثنان يبحثان عن حياة هذا المطارد بين فكرة الصوت العالي لرفض كي الوعي، وما بين الاستسلام، والسقوط في قوقعة الهزيمة.
يقول أبو صالح عن الذين يبحثون عن طريق آخر للتحرير: "العدو لا يعرف إلا لغة القوة، وأنا أحكي حقائق من ثورة اسبرتاتوس قبل 2000 عام وحتى اليوم، فش شعب كان محتل وتحرر، وتقدم له الاستقلال على طبق من فضة أو بمفاوضات. كل احتلالات العالم زالت بالقوة، وهذا الاحتلال ليس شاذاً عن الاحتلالات، وشعبنا ليس شاذاً عن الشعو، حيثُ فيتنام تحررت بالقوة، والجزائر وأمريكا الجنوبية، وفرنسا لما احتلت من النازية تحررت بالقوة، فش بقعة في العالم تحررت هدية، فعدونا لا يفهم إلا هذه اللغة، ولن يتزحزح عن هذه الأرض إلا بالقوة"، وعليه كان عمر البرغوثي يستند على يقين ثوري يدعوه دوماً إلى الاستمرار في المقاومة، والايمان بحتمية الانتصار، ولذلك كان دائم الصراخ على دوار المنارة، إذا لم يكن داخل المعتقلات.
ما بعد الكلمات السابقة، يبقى السؤال: هل تم تدوير فكرة دوار المنارة ما بعد السابع من أكتوبر؟، وأكثر هل تم تدجين الهتاف الصارخ على هذا الدوار؟