شبكة قدس الإخبارية

المراسلون العسكريون الإسرائيليون.. أدوات حرب 

photo_2024-10-13_19-45-45

خاص - شبكة قُدس: تعد ظاهرة الإعلام الإسرائيلي من أندر الظواهر الإعلامية في العالم، إلى الحد الذي لا يمكن تصنيف الإعلام الإسرائيلي في إطار النظريات الإعلامية التقليدية، وهذا مرده في الأساس لطبيعة الكيان الحاضن لهذا الإعلام، فهو من جهة؛ كيان يمارس الديمقراطية عندما يتعلق الأمر بالمكوّن اليهودي، فيما يسقط مختلف الأساليب الاستعمارية على سكان الأرض الأصليين، منها ما ورثه من ظواهر استعمارية سابقة، ومنها ما هو خاص فيه ومن ابتكاره واختراعه. إن هذا التناقض الذي يتسم فيه كيان الاحتلال، يسقط نفسه على كافة مؤسساته، بين كونه متبنيا للديمقراطية على مستوطنيه اليهود وبين حقيقته كاستعمار يمارس جرائم يومية بحق الفلسطينيين وشعوب المنطقة ويحاول تبرير وشرعنة ذلك باسم "الديمقراطية".

وانطلاقا من هذا التفكيك البسيط والسريع لحقيقة الكيان الحاضن للإعلام الإسرائيلي، يمكن تفسير الأخير، فهو مستعد لكشف الحقائق المتعلقة بالحياة السياسية الداخلية والاجتماعية والاقتصادية داخل كيان الاحتلال، ويمارس نشاطه بحرية في هذه الأطر، لكنه يتجنّد لخدمة المؤسسة الأمنية عندما يتعلق الأمر بالصراع مع الفلسطينيين أو جهات أخرى معادية تحت مفهوم الحفاظ على الأمن القومي وعدم المساس فيه.

 لكن حتى وإن بدت العلاقة في طابعها الخارجي مريحة بين الإعلام والمؤسسة الأمنية لدى الاحتلال، إلا أنها مرّت بمراحل عدة، تمكنت فيه هذه المؤسسة من السيطرة على الإعلام بشكل مطلق، وقد ساهم في ذلك عوامل عدة من بينها؛ تعريف كيان الاحتلال لنفسه كـ"دولة في مواجهة مستمرة ووجودية في محيط معادٍ"، وأيضا كون المراسلين العسكريين في غالبيتهم العظمى من خريجي وحدات الاستخبارات والجيش وبالتالي تربطهم علاقة تاريخية ووجدانية ومعرفية بالمؤسسة الأمنية للاحتلال.

ومن المهم في تفسير العلاقة بين الطرفين، فهم بعض المراحل التاريخية وسياقاتها. إذ أنه بعد احتلال عام 1948 وحتى حرب أكتوبر 1973 اتسمت العلاقة بانصهار الإعلام الإسرائيلي في البوتقة الأمنية نظرا لطبيعة المرحلة التاريخية، التي حققت فيه مؤسسة الاحتلال الأمنية انتصارات كبيرة على العرب سواء في عام 1948 أو 1967، وكان العسكري الإسرائيلي من أقدس المقدسات لدى ما يسمى بالمجتمع الإسرائيلي، لكونه صاحب الإنجازات الكبرى وبالتالي فهو فوق النقد، وفي تلك الفترة انشغل الإعلام الإسرائيلي في بناء السرديات الأمنية التي تتوافق مع هذه النظرة المجتمعية، وفي أسطرة المكون الأمني لكيان الاحتلال والتعامل معه كحيز رئيسي لصهر الشتات الثقافي والاجتماعي والأخلاقي والقيمي.

لكن حرب أكتوبر 1973 أفقدت المؤسسة الأمنية لدى الاحتلال رصيدها التاريخي لدى ما يسمى بالمجتمع الإسرائيلي، نظرا للفشل الذي تحملت مسؤوليته في الحرب، وقد ساهم في ذلك لاحقا ما أطلق عليه بـ"حرب الجنرالات" والتي عكست ترديا قيميا داخل هذه المؤسسة وصراعا يتجاوز أهدافها. انعكست هذه الخلخلة أو الهزة في صورة المؤسسة الأمنية على كافة مؤسسات ما يسمى المجتمع الإسرائيلي ومن ضمنها الإعلام؛ الذي وجد نفسه متحررا نسبيا من قيود "اللانقد". 

ومنذ بداية الثمانينات اتسعت الفجوة بين المجتمعين الأمني والمدني لدى الاحتلال، وقد انسحب ذلك على علاقة الإعلام بالمؤسسة الأمنية للاحتلال رغم وجود أحداث كبيرة مثل اجتياح لبنان والصراع مع منظمة التحرير. وهو ما استدعى من مؤسسة الاحتلال الأمنية إعادة ترسيم العلاقة من خلال تفعيل هيئات إعلامية ـــ أمنية كانت قد أنشأتها في السابق من بينها هيئة المحررين التي تدار من قبل الرقابة العسكرية وتحدد ما يمنع نشره حول القضايا الأمنية والصراع مع الجهات المعادية؛ فلسطينية كانت أو عربية. 

وعملت هيئة المحررين على استضافة مدراء تحرير الصحف العبرية باستمرار بشكل دوري وأحيانا طارئ، وإطلاعهم على أهداف المؤسسة الأمنية في تلك المرحلة على أن يكون الطرح الإعلامي متوافقا مع هذه الأهداف، وفي حالات خاصة كانت توزع تحذيرات وتعليمات بعدم نشر بعض القضايا، كما في قضية الحافلة 300 وإعدام اثنين من الفلسطينيين منفذي العملية على يد جهاز الشاباك، وقد وصل الأمر إلى إغلاق إحدى الصحف بسبب نشرها خبرا يتعلق بالقضية. 

لا يقتصر تأثير المؤسسة الأمنية لدى الاحتلال عبر هيئاتها المختلفة على "هيئة المحررين". إذ أن الأداة الأهم في هذا السياق هي ما يعرف بالرقابة العسكرية والتي تدار من مقر وزارة الحرب، ويرأسها الرقيب العسكري وقد أنشأها الاحتلال عام 1984، وتتبع شعبة الاستخبارات العسكرية في جيش الاحتلال، وهدفها تنفيذ الرقابة المبكرة على القضايا المتعلقة بأمن كيان الاحتلال، وصلاحياتها تشمل  منع نشر المواد التي يمكن أن تؤدي إلى الإضرار بأمن الاحتلال ومستوطنيه. 

ويتمتع الرقيب العسكري بسلطة إدارية تمنحه إمكانية إغلاق الصحف والمواقع في حال نشرت مواد إعلامية لم تخضع له أو أصدر أمرا بمنع نشرها أو تدخل في محتواها. وكما أشرنا سابقا، فإن الحالة الأكثر شهرة لإغلاق إحدى الصحف بأمر من الرقابة العسكرية كانت حالة إغلاق صحيفة إخبارية لمدة ثلاثة أيام في عام 1984 بعد نشر معلومات تتعلق بقضية الحافلة رقم 300.

في منتصف التسعينيات، توترت العلاقة بين المجتمعين الأمني والمدني لدى الاحتلال، نظرا لمتغيرات كثيرة، من بينها؛ تشبّع ما يسمى المجتمع الإسرائيلي بالأفكار النيوليبرالية التي تعلي من شأن رأس المال والمنفعة على الاعتبارات الأيدولوجية والقومية والثقافية والأخلاقية، ولكن السبب الأهم كان توقيع اتفاق أوسلو الذي فكك الشعور بالخطر الوجودي لدى المستوطنين، الذين رأوا في الاتفاق فرصة للخروج من اعتبارات المعارك إلى الاعتبارات الشخصية، وهو ما وسّع الفجوة بين الطرفين المذكورين وقد تخلّص المستوطنين من شعور الذنب بعدم تقديس الجيش فقد تحول من وجهة نظرهم من جيش معارك إلى جيش رواتب.

جاءت الانتفاضة الثانية عام 2000 لتعيد ترسيم العلاقة من جديد بين المجتمعين الأمني والمدني لدى الاحتلال لأسباب عدة، من بينها؛ عودة الشعور بالخطر الوجودي لدى المستوطنين، وبعض الإنجازات التكتيكية التي حققها الجيش كما في حالة حملة "السور الواقي"، وأيضا اختراق التيار الديني القومي - ابتداء من تسعينيات القرن الماضي - للجيش وتوسع قاعدة جمهور الجيش لتشمل تيارات ثقافية واجتماعية إضافية. لقد أعلت الانتفاضة الخطاب الأمني من جديد داخل ما يسمى بالمجتمع الإسرائيلي، وبالتالي أصبح سقف الخطاب: الأمن القومي، وتحت هذا السقف تنصهر الكتابات والأحلام والسياسات.

هذا السرد التاريخي للعلاقة بين المجتمعين الأمني والمدني (يشمل الإعلام) يثبت عدة افتراضات: في زمن المعارك والحروب تتوطد العلاقة بين الطرفين، ويحكم الطرف الأمني بخطابه وأهدافه الطرف الآخر بشكل مطلق. لكن من السطحية بمكان تفسير العلاقة أو تصويرها على أنها علاقة سيطرة وقهر من طرف المؤسسة الأمنية لدى الاحتلال على الإعلام الإسرائيلي فقط، فكما أوضحنا؛ هناك اعتبارات معيارية وأيديولوجية وتاريخية تحكم العلاقة بين المؤسسة الأمنية للاحتلال والمراسلين العسكريين الإسرائيليين وكذلك وسائل الإعلام.

 ومن الأمثلة على مراسلين عسكريين خدموا في مؤسسة الاحتلال الأمنية: المراسل العسكري لصحيفة يديعوت أحرونوت يوآف زيتون الذي خدم في كتيبة "لافيا" التي جرى دمجها في لواء كفير عام 2015. المراسل العسكري للقناة 13 العبرية ألون بن دافيد الذي خدم في سلاح المدفعية، وأنهى خدمته عام 1988 برتبة رقيب أول. المراسل العسكري لموقع والا أمير بحبوط والذي خدم في جهاز استخباراتي حسب بعض التقارير الإسرائيلية. المراسل العسكري للقناة 12 العبرية روني دانييل (متوفى) والذي كان قائد سرية في لواء الناحل. ولا تكاد السيرة الذاتية للمراسل العسكري تخلو من الخدمة العسكرية، وهنا لا يدور الحديث عن الخدمة الإجبارية. 

وضمن السياق السابق، يمكن تفسير وقراءة الدور الإعلامي للمراسلين العسكريين الإسرائيليين في طوفان الأقصى، والذي جاء متناسبا مع أهداف المؤسسة الأمنية للاحتلال، والتي يمكن تلخيص بعض أهدافها بالتالي: تعظيم إنجازات الجيش وأذرع الاستخبارات لترميم صورة المؤسسة الأمنية في الوعي الجمعي للمستوطنين الذين فقدوا الثقة فيها بعد 7 أكتوبر 2023، وهو ما يؤثر على شرعية الموازنات التي تتلقاها هذه المؤسسة من الضرائب المفروضة على المستوطنين على حساب قطاعات أخرى. معالجة شعور المستوطنين بالخوف من المستقبل في ضوء أحداث أكتوبر، وهو ما يؤثر على مسائل مهمة من بينها؛ الهجرة العسكية. ترميم صورة الجيش لضمان تدفق المجندين الجدد إليه خاصة وأنه يعاني في العقود الأخيرة من نقص في الكادر البشري. تقزيم الخصم لمعالجة أيضا مسألة الخوف المستقبلي الوجودي. 

الأهداف المشار إليها سابقا، تفرض طبيعة تغطية معينة، تتحدد معاييرها ضمن هذه الأهداف، ويمكن ملاحظة بعض مظاهرها، مثل: المبالغة في حقيقة الإنجازات، فمثلا ورغم أن جيش الاحتلال لم يتمكن من السيطرة الكاملة على أي من القرى في جنوب لبنان إلا أن المتابع لما يطرحه وينشره المراسلون العسكريون الإسرائيليون يتصور وكأن الجنوب قد سقط بيد الجيش، أو على الأقل قرى الخط الحدودي في الجنوب قد سقطت. يستخدم المراسلون العسكريون مواد بصرية ومكتوبة وأحيانا منشورات قصيرة للتأكيد على "قيمة وحجم الإنجازات" التي لا تتناسب والواقع في الميدان. 

ويظهر أيضا التبني الكامل للمراسلين العسكريين الإسرائيليين لرواية الجيش، فهم لا يكتفون بنشر كل ما ينشره الجيش، وإنما يشبعون طرحه تحليلا يصب في صالحه ولا يمنحون أي حيز للرواية المقابلة. فمثلا بعض إعلان جيش الاحتلال عن تفكيك كتائب القسام كمنظمة عسكرية، أغرق المراسلون العسكريون جمهور المستوطنين تحليلات وتفسيرات حول أهمية المسألة، لكنهم لم يجرؤوا على نقدها في ضوء أن القسام أثبتت بعدها زيف هذا الإدعاء من خلال بعض العمليات الميدانية التي تستدعي عمل عدة قطاعات تعمل بالتوازي وبالتنسيق، كما في حالة كمينيّ خانيونس وجباليا في أكتوبر الجاري، فلم يكن الكمينين مجرد عملين ميدانيين من إنتاج اللحظة، وإنما نتيجة تخطيط مسبق وتنفيذ (تشارك فيه عدة تخصصات) وفي النهاية إعلام عسكري. 

وكذلك يتبنى المراسلون العسكريون مصطلحات الجيش بشكل مطلق، سواء في توصيف الأحداث أو الأشخاص. وهذا يعني أن هناك أطرا حاكمة وناظمة للغة المراسل العسكري الإسرائيلي لا يتخطاها بالأساس لأنها مفروضة عليه أحيانا، ولكنه يتبناها بدوافع ذاتية. واللغة في الحرب جزء من معركة الوعي، وهذا يعني أن إدارة معركة الوعي سواء في البيئة الداخلية أو بيئة العدو تدار بالتنسيق الكامل بين المؤسسة الأمنية للاحتلال والمراسلين العسكريين، الذين كذلك يحاولون إغراق المستوطن الإسرائيلي بلغة مؤثرة حول البطولات المفترضة للجندي الإسرائيلي.