خاص - شبكة قُدس: شكَّل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 اليوم الذي قدَّمت فيه المقاومةُ في قطاع غزة الفعلَ الأكثر نوعية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وأسقطت من خلاله نظريات الردع والإنذار المبكر ووحش التقنية الإسرائيلية، كما حيَّدت فرقة عسكرية كاملة في جيش الاحتلال (فرقة غزة) وأخرجتها عن الخدمة، وأوقعت جنودها وقادتها ما بين أسير وقتيل وجريح، أو هارب من المواجهة.
تفاعَل الشعب الفلسطيني مع "طوفان الأقصى"، الذي أسقط الحدود الفاصلة وداست فيه أقدام آلاف المقاومين الأراضي الفلسطينية المحتلة، بوصفِه التعبير الأوضح عن قدرة الفلسطيني على أن يكون، وأن يَضرب عدوَّه بقوة، وأن يُقدِّم نموذجًا عن التحرير وطرد الاحتلال من الأرض، وأن يجبي الثمن ممن اغتَصب الأرضَ وهجَّر الشعبَ وقَتل الأطفالَ والنساءَ والشيوخَ والشباب.
سنوات من الانفلات الإسرائيلي من العقاب، تمادى في خلالها قادة الاحتلال ومستوطنوه في التعدي على كل ثوابت الشعب الفلسطيني، انتهك فيها الاحتلال كل خط أحمر من خطوط الشعب الفلسطيني، بداية من القدس أم البدايات والنهايات، وليس انتهاءً بالتوسع الاستيطاني، وما بينهما من تصعيد الانتهاكات بحق الأسيرات والأسرى، والإمعان في تنفيذ شتى صنوف القتل والدمار، والتنكر لكل حقوق الشعب الفلسطيني، والإصرار على القتل البطيء لأهالي قطاع غزة وخنقهم بالحصار والإغلاقات والعزل عن العالم والحرمان من أبسط حقوق الحياة، شكَّل فيها انغلاق الأفق السمة السائدة التي يراها الشعب الفلسطيني في أي مستقبل منشود، كان لا بد فيها من أن تكون المقاومة أمام خيارين: إما السلبية الانتظارية، وإما المبادرة الثورية، وهو ما كان.
"صفقة القرن" و"مسِيرات العودة"
لم تكن السياسة التصعيدية الإسرائيلية وليدة اللحظة، ولا مرتبطة بالسنوات الأخيرة من عمر الشعب الفلسطيني وقضيته، إلا أن ما حملته السنوات العشر الأخيرة أنبأ بالتوجهات الأكثر خطورة لتصفية القضية الفلسطينية، كللها وصول "دونالد ترامب" إلى البيت الأبيض، والبدء في مسار فعلي للإجهاز على القضية الفلسطينية وضمان اندماج "إسرائيل" كمكون طبيعي في الشرق الأوسط.
قدَّم "ترامب" "صفقة القرن" بوصفها الحل الأجدى لإنهاء "الصراع" في الشرق الأوسط، وضمان موقع "إسرائيل" القيادي في المنطقة العربية، والإجهاز على كل الشواهد على النكبة الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في العودة إلى أرضه وتقرير مصيره، وهو ما ترجمه بخطوات عملية بدأت بمحاصرة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا"، وتدشين مسار التطبيع العلني بين "إسرائيل" والدول العربية فيما عُرف بـ"الاتفاقيات الإبراهيمية"، وصدمة الوعي الجمعي للشعب الفلسطيني والشعوب العربية، بنقل السفارة الأمريكية من "تل أبيب" إلى القدس المحتلة ضمن مظاهر احتفالية وصخب كبير.
عمل رئيس وزراء الاحتلال، "بنيامين نتنياهو"، على مواكبة الخطة الأمريكية التي تعبِّر في جوهرها عن رؤية اليمين الصهيوني للخطوات المطلوبة للإجهاز على القضية الفلسطينية، وعكف على اتخاذ كل خطوات التصعيد بحق الشعب الفلسطيني، وعزَّز من الاندفاعة الاستيطانية وبدأ في الضم التدريجي وابتلاع ما تبقَّى من أراضي القدس والضفة الغربية.
على المقلب الآخر، اتخذت المقاومة الفلسطينية خطواتٍ متعددةً للمواجهة، والتعبير عن الرفض الفلسطيني لخطوات التصفية و"صفقة القرن" الأمريكية، ودشَّنت التعبير الشعبي الأكبر عن الرفض المُعمَّد بالتضحيات والدماء التي قدمها الشعب الفلسطيني من خلال "مسِيرات العودة الكبرى" في قطاع غزة، التي تظاهر في خلالها مئات الآلاف من سكان قطاع غزة لأكثر من عامين على الشريط الفاصل بين قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة.
حشدت الفصائل الفلسطيني قدها وقديدها على الشريط الفاصل، واندفعت الجماهير سلميًّا في اتجاه الأراضي المحتلة في يوم الأرض الفلسطيني 30 آذار/مارس لتتالي الفعاليات، ويكون اليوم ذاته الذي قررت فيه الولايات المتحدة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة في 14 حزيران/يونيو أحد أكبرها وأكثرها زخمًا، ليُنفِّذ الاحتلال مجزرةً بحق المتظاهرين، الذين ارتقى منهم نحو 90 شهيدًا، ومئات الجرحى الذين تعرضوا لإصابات باترة سترافق أصحابها مدى الحياة.
في عامين من التظاهر الضخم، حَملَ مئاتُ الآلاف من أهالي قطاع غزة عنوانًا رئيسيًّا بأن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة لا يرى في نفسه إلا امتدادًا للشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، وردًّا بالمشاركة الأوسع جماهيريًّا على محاولة فصل قطاع غزة عن الهم الوطني العام، سواءٌ بالحصار والعدوان، أو المغريات والعروض، ما حمَّلَ المسِيراتِ الشعبيةَ شعارًا سياسيًّا مركزيًّا يُحمِّل فيه قطاعُ غزة نفسَه مسؤوليةَ كونه القلب النابض للفعل السياسي الفلسطيني.
لم يُلقِ العالَم بالًا تجاه التعنت الإسرائيلي، والدعم الأمريكي المطلق، الذي تجاهل إطلاق النار بغرض القتل على المئات من المتظاهرين السلميين في القطاع، ومسلسل القتل اليومي في الضفة الغربية والقدس، والانتهاكات المستمرة لمقدسات الشعب الفلسطيني، ولم تَلقَ مئات آلاف الحناجر الغاضبة في قطاع غزة أيةَ آذان صاغية.
"سيف القدس" وتراكُم استحقاقاتِ المواجهةِ الكبرى
لم يتوانَ قادة الاحتلال عن تصعيد الانتهاكات والجرائم بحق الشعب الفلسطيني، وشكَّلت الاعتداءات المستمرة على المسجد الأقصى، والتهويد المتصاعد للقدس المحتلة، الذي وصل إلى ذروته مع محاولة المستوطنين السيطرة على منازل الفلسطينيين في الشيخ جراح، وتجاهُل العالَم كلَّ أشكال الرفض المقدسي، وثبات أهالي القدس وتمسكهم بأرضهم، وسط تمادي إجرامي من قطاع المستوطنين بحماية الشرطة الإسرائيلية.
رافقت المواجهةَ في الشيخ جراح في العام 2021 تعدياتٌ كبرى من المستوطنين على المسجد الأقصى، وتصعيد الاقتحامات لباحات المسجد وتدنيسه، بمشاركة من أعضاء بالكنيست الإسرائيلي، وضوء أخضر من الحكومة الإسرائيلية، التي وافقت على تنظيم التعبير الاحتفالي الأبرز بالسيطرة على القدس وتهويدها المتمثل بمسِيرة الأعلام الصهيونية التي كان مسارها الطواف في أحياء القدس المحتلة مرورًا من بوابات المسجد الأقصى وحائط البراق.
وضعَ المشهدُ في القدس المقاومةَ في قطاع غزة أمام استحقاقات تاريخية، فإما أن يكون سلاحها مذخرًا للدفاع عن الشعب الفلسطيني وثوابته، وإما أن يُحصر في قطاع غزة والدفاع عنه وقبول مسار فصل الشعب الفلسطيني إلى معازل مفصولة عن بعضها البعض دون فعل تكاملي ما بينها.
كان قرار المقاومة واضحًا وحاسمًا بمواجهة التصعيد الإسرائيلي التصعيد، ووجَّهت تحذيرًا مسقوفًا زمنيًّا للاحتلال بإيقاف اعتداءاته بالمهلة الصادرة عن قائد أركان كتائب القسام، محمد الضيف، ودعم غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة في قطاع غزة.
وما أن انتهت المهلة، تجاوزت المقاومة كل تقديرات الاحتلال، وأطلقت رشقة صاروخية مُركَّزة تزامنت مع وصول مسِِيرة الأعلام الصهيونية إلى بوابات المسجد الأقصى، في مشهد حرَّك كل مكونات الفعل الفلسطيني، خاضت في خلاله المقاومةُ جولةً من الاشتباك، رافقتها تحركات فلسطينية وعربية واسعة، أعادت الاعتبار إلى فكرة ترابط ساحات الفعل الفلسطيني وتكاملها.
شكَّل المشهدُ في "سيف القدس" نموذجًا مربِكًا للاحتلال، الذي بدأ على إثره في حملة مضادة استهدفت ساحاتِ التفاعل الفلسطيني، تمثَّل بقمعٍ واسعٍ للفلسطينيين المشاركة في "هبَّة الكرامة" في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وإطلاق حملة كاسر الأمواج للقضاء على حالة المقاومة المسلحة المتصاعدة في شمالي الضفة الغربية، وتصعيد الإجراءات العدوانية بحق الشعب الفلسطيني.
مع وصول حكومة الحسم الصهيونية بقيادة "بنيامين نتنياهو" إلى سدة الحكم، باتت خطط تصفية القضية الفلسطينية تصل إلى أطوار متقدمة، عبَّر عنها شريكاه في الائتلاف "بتسلئيل سموتريتش" و"إيتمار بن غفير" بوضوح حَملَ في طياته إجراءاتٍ استيطانيةً موسَّعة، وخطواتٍ انتقاميةً ضد الشعب الفلسطيني، وتصعيد الانتهاكات، وتعزيز التهويد بدرجة غير مسبوقة للمسجد الأقصى ومدينة القدس، والضرب بكل إشارات الانفجار الفلسطينية عرضَ الحائط، في خطوات تراكمية تهدف إلى إتمام الإجهاز على مقدرات الصمود الفلسطينية.
عاش الشعب الفلسطيني ضغطًا مضاعفًا في كل أماكن تواجده، وأضحت حكومة "نتنياهو" التعبير الأكثر صراحة عما سيَحمله المستقبل للشعب الفلسطيني وقضيته، فيما لم يتوانَ الأخير عن التصريح بخططه لتصفية القضية الفلسطينية وتجاوز شعبها من منصة الأمم المتحدة، التي عرض فيها خريطته الشهيرة للشرق الأوسط الجديد دون دولة فلسطينية، ولا يكون فيه إلا "إسرائيل" والدول المطبعة، وسط مسار أمريكي ضاغط للوصول إلى صفقة تطبيع سعودية-إسرائيلية تُشكِّل بوابة لاندماج "إسرائيل" الواسع في المنطقة العربية وتجاوز كل حقوق الشعب الفلسطيني.
دنو الحرب
عكف الشعب الفلسطيني وقواه على تطوير وتوسيع حالة المواجهة مقابل تصاعد الإجراءات الإسرائيلية، وفي القلب من هذه المواجهة تصعيد الفعل المقاوم في الضفة الغربية، وتعزيز محفزات الانتفاضة الفلسطينية، مترافقًا مع إجراءات لتعزيز البنية التحتية للمقاومة في الشتات، والبدء في سياسة تنقيط من جبهات متعددة في مواجهة محاولات الاحتلال الاستفراد بكل ساحة فلسطينية على حدة.
في المقابل، لم تتوانَ حكومة "نتنياهو" عن اتخاذ إجراءات عدوانية متصاعدة، شملت حملات قمع كبرى في المسجد الأقصى، وتصعيد التهويد وقمع المصلين في رمضان، والاعتداء على المرابطات، وتصعيد التوسع الاستيطاني، والتصفية الصامتة لرموز الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال.
على الصعيد ذاته، صعَّدت حكومة الاحتلال من تهديداتها بتنفيذ اغتيالات بحق قادة المقاومة، والتجهز لنوايا عدوانية موسَّعة، كان نموذجها الأوَّلي الحملات العسكرية بحق كوادر وقادة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة، والتي شملت من بين أهدافها من اتهمه الاحتلال بتوجيه خلايا المقاومة في الضفة الغربية.
كان واضحًا للشعب الفلسطيني ومقاومته أن الاحتلال يراكم الخطوات تحضيرًا لعدوان واسع وشامل يستهدف قادة المقاومة، ويهدف في جوهره إلى تحييد المقاومة في قطاع غزة على نحو التحديد عن التفاعل مع ساحات الفعل الفلسطيني الأخرى، خصوصًا في الضفة الغربية والقدس، ووضع حد للتصاعد المستمر للفعل المقاوم والدور الرئيسي لقطاع غزة في تحريكه ودعمه.
ترافقت هذه التحضيرات مع خطوات كبرى لكيِّ وعيِ الشعب الفلسطيني، واستباحة متصاعدة لكل الخطوط الحمراء الفلسطينية، خصوصًا تلك التي تمس الكرامة الوطنية الفلسطينية مساسًا مباشرًا، وفي مقدمتها استباحة المقدسات وتهويد القدس.
"طوفان الأقصى" واللحظة التاريخية
في اللحظة التاريخية الأمثل، وجَّهت المقاومةُ الفلسطينيةُ ضربتَها الكبرى، التي جاءت بعد أن استنفدت كل الخطوات والوسائل الأخرى لردع الاحتلال وثنيه عن استباحة كل حقوق الشعب الفلسطيني، ووقف مضيه في مشروع حسم الصراع وتصفية القضية الفلسطينية.
لم يكن من أفق أمام الشعب الفلسطيني، لا داخليًّا ولا إقليميًّا ولا دوليًّا، سوى أن ينفِّذ القرع الأكبر في تاريخ القضية الفلسطينية لجدران العالَم، في تعبير صارخ عن الرفض والاستعداد للمواجهة، دفاعًا عن الحق في الحرية والحياة والكرامة.
وجد الشعب الفلسطيني في عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر تعبيرًا جليًّا عن قدرة الشعب الفلسطيني على عكس كل معادلات العالم، ووقف الزمن في لحظة تاريخية يكون فيها الفعلُ الفلسطيني الفعلَ السائد، وكلُّ العالَمِ المتأثرَ لا العكس، يتلقى فيها الاحتلال جزاءه عن عقود من القتل والدمار بلا حساب، ويدوس في خلالها المقاومُ الفلسطينيُّ كلَّ أساطير القوة الإسرائيلية.
حَملَ الشعبُ الفلسطينيُّ "طوفان الأقصى"، وانطلق مع مقاومته صوب الأراضي المحتلة، في اللحظة التاريخية التي شكَّلت نموذجًا مصغَّرًا مما يمكن أن تكون عليه مواجهة التحرير الكبرى، التي يندفع فيها كل الشعب الفلسطيني ليزيل كل حواجز الفصل الإسرائيلية ويستعيد أرضه المغتصَبة.
شكَّل السابع من تشرين الأول/أكتوبر صعقة الكهرباء للعالَم كلِّه، ولكل من اعتقد أنه يمكن الإجهاز على القضية الفلسطينية وببساطة، وأن الكيان المغتصِب للأرض الفلسطينية يمكن أن يكون دولة طبيعية في الشرق الأوسط والعالَم دون أن يكون ثمة مَن يذكِّر الجميع بحقيقته بصفته كيانًا غاصبًا.
قطعت المقاومة الطريق أمام كل المخططات العدوانية الإسرائيلية، وأمام تجاهل العالَم لحق الشعب الفلسطيني، وضربت ضربتَها ودشَّنت مسار مواجهة لم يتوقف عند حدود قطاع غزة، وحفز كل الأحرار في العالَم للعودة إلى زخم التفاعل مع الشعب الفلسطيني وحقوقه المسلوبة، وفتح حالة اشتباك مفتوحة في الشرق الأوسط مع الكيان الذي قدَّم نفسه قبل أقل من شهر من "طوفان الأقصى" على أنه الشريك الاستراتيجي الذي سيقود دول الشرق الأوسط بدعم من الولايات المتحدة.
لم ينتهِ "طوفان الأقصى"، ولا يمكن لأحد حصر موجاته المستمرة في الشرق الأوسط والعالَم، والتي حوَّلت الشعبَ الفلسطينيَّ من شعب وُضع على هامش الفعل والتأثير إلى جوهرِ التفاعلاتِ السياسيةِ العالَمية، والعنوانِ الحاضرِ في كل مَحفَل.