خاص - شبكة قدس الإخبارية: أعادت المطالبات الإسرائيلية من جانب مستوطنين أو قادة في الأحزاب السياسية والحكومة أو ضباط سابقين أو في الخدمة العسكرية حالياً للسيطرة على مناطق، في جنوب لبنان، وإقامة (حزام أمني) فيها يمنع حزب الله وبقية قوى المقاومة اللبنانية والفصائل الفلسطينية التي نشطت في الحرب الحالية من هذه المناطق، من الاستمرار في تشكيل خطر على الحزام الاستيطاني والعسكري في شمال فلسطين المحتلة، تزامناً مع إعلان رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، عن نيته بناء حالة عسكرية مستمرة في ما يعرف بــ"محور نتساريم" و"فيلادلفيا" في قطاع غزة، تنشيط الذاكرة والتذكير بتجارب سابقة في مناطق صنفت إسرائيلياً على أنها مناطق أمنية "عازلة".
خط "بارليف"... من أسطورة إلى كارثة
بعد احتلال سيناء في حرب حزيران/ يونيو 1967، توجهت المؤسسة العسكرية في دولة الاحتلال نحو خيار بناء خط دفاع ثابت لصد أي عملية عسكرية أو تقدم من جانب الجيش المصري. في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر 1968 قدم رئيس أركان جيش الاحتلال حينها، حاييم بارليف، خطة لبناء سور دفاعي سيحمل اسمه لاحقاً.
امتد "خط بارليف" على طول 170 كيلو مترا شرق قناة السويس، ابتداء من البحر الأبيض المتوسط شمالاً وحتى خليج السويس جنوباً، واتسع داخل سيناء نحو 12 كيلو مترا، وأقيمت فيه 20 مركز مراقبة وعدداً من التحصينات مع زراعة محيطها بالألغام والأفخاخ لصد القوات المقتحمة مع نقاط ثابتة للدبابات التي تنطلق في حالات الطوارئ.
عارض الجنرال أرئيل شارون الذي كان حينها ما زال في جيش الاحتلال مع الجنرال يسرائيل طال الفكرة، واعتبرا أن إقامة خط دفاعي ثابت يوفر للقوات المصرية أهدافاً دائمة وثابتة ويفرض على القوات الإسرائيلية حرب استنزاف مريرة، واعتبرا أن الخيار الأفضل هو الدفاع المتحرك الذي لا يتلزم بموقع محدد، لكن هذه المعارضة لم يأخذ بها في المؤسسة العسكرية في دولة الاحتلال ومضت الخطة إلى آخرها.
في الفترة من الاحتلال إلى بداية السبعينات خاض جيش الاحتلال حرب استنزاف قاسية مع القوات المصرية خلفت أعداداً كبيرة من القتلى والجرحى، وكتب يسرائيل طال إلى وزير الجيش حينها موشيه دايان: ""لقد حولت نقاط المراقبة المنطقة الإسرائيلية من منطقة فارغة من الأهداف إلى منطقة مليئة بالأهداف الثابتة…. ومن أجل الدفاع عن هذه المواقع سنضطر إلى تنفيذ أنشطة روتينية خارج نطاق مهماتنا النظامية، وبهذا تكون الوحدات المساندة كالعربات المصفحة والجنود والمدنيين أيضاً عرضة لنيران العدو، علماً بأن عدد الإصابات التي وقعت في صفوف لواء سيناء في الفترة الممتدة من يناير إلى يونيو 1970 بلغت 498 إصابة، منهم 69 قتيلا، قُتل 49 منهم وأصيب 200 آخرين داخل نقاط المراقبة".
في حرب أكتوبر 1973، كبدت القوات المصرية التي تقدمت عبر القناة نحو الخط في أفواج من المشاة المحملين بالأسلحة المضادة للدروع وتغطيهم الطائرات ومن خلفهم أسلحة الدفاع الجوي قوات الاحتلال المتحصنة في حصون خطة "بارليف" خسائر فادحة، وتحولت هذه المواقع إلى مصايد للدبابات الإسرائيلية.
جنوب لبنان… النسخة الإسرائيلية من "حرب فيتنام"
في سنوات السبعينات فتحت أجهزة استخبارات الاحتلال علاقات مع جماعات محسوبة على "اليمين"، في لبنان، وأخرى معادية لمنظمة التحرير الفلسطينية بهدف الاستفادة منها في بناء كيان منعزل في الجنوب يقيم علاقات أمنية واقتصادية مع "إسرائيل"، ويوفر لها حزاماً أمنياً يصد عمليات المقاومة التي كانت تعبر عبر الحدود إلى شمال فلسطين المحتلة.
هذه الجهود الإسرائيلية أثمرت عن مد جسور علاقة مع عدة مجموعات كانت تنتشر في قرى حدودية من جنوب لبنان، تزامناً مع علاقات أخرى مع قوى في "اليمين الانعزالي" الذي كان يقود الحرب في وجه القوات الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، حتى تحقق لدولة الاحتلال الحلم الذي كان يتمنى ديفيد بن غوريون تحققه وهو ضابط لبناني يقيم علاقات مع "إسرائيل" ويقيم دولة انعزالية تكون عملية وتابعة، وتحققت الأمنية مع الضابط سعد حداد الذي أقام دولة في جنوب لبنان بالعتاد والسلاح والتمويل الإسرائيلي.
في 1978 شن جيش الاحتلال عملية عدوانية في جنوب لبنان وسيطر على مساحات واسعة منه، وبعد انسحابه من قسم منها أقام حزاماً أمنياَ ضم عدة قرى قريبة من الحدود مع فلسطين المحتلة وسلم الإدارة المباشرة فيه إلى قوات سعد حداد، وفي حزيران/ يونيو 1982 اجتاح لبنان ووصل إلى العاصمة اللبنانية بيروت، وبعد معارك طاحنة مع قوات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية أعلن عن اتفاق لخروج منظمة التحرير إلى المنافي في الوطن العربي.
بقي جيش الاحتلال يسيطر على عدة مدن في جنوب لبنان ومساحة واسعة من القرى فيها، حتى 1985، حين انسحب مرغماً بعد العمليات الفتاكة التي تعرضت لها قواته وكبدتها خسائر فادحة خاصة مع العمليات التفجيرية في صور وغيرها التي أسفرت عن مقتل عشرات الضباط والجنود.
بعد الانسحاب من صور وصيدا والنبطية، في 1985، ومناطق مختلفة حولهما حافظ جيش الاحتلال على سيطرته في القرى الحدودية مع فلسطين المحتلة، وضم إليها منطقتين جديدتين في الشرق والوسط الغربي من جنوب لبنان، وأصبحت مواقعه توجه نيران رشاشاتها ومدفعيتها إلى قلب البقاع وأجزاء من جبل لبنان بالإضافة إلى مدن الجنوب والطرق الحيوية الساحلية.
سلم جيش الاحتلال ظاهريا السيطرة على الحزام الأمني إلى جيش العملاء الذي صار اسمه شعبياً (جيش لحد)، بعد تولي أنطوان لحد قيادته، ولكن في الواقع كان هو الذي يسيطر على كل التفاصيل الأمنية والعسكرية والمعيشية، وأقام (إدارة مدنية) فيه أظهرت أنه يخطط للبقاء طويلاً رغم مزاعم القادة الإسرائيليين حينها أنهم يريدون الانسحاب بعد التوصل إلى اتفاق تسوية مع لبنان وسوريا.
تحولت مواقع الاحتلال ومواكب قواته في جنوب لبنان إلى أهداف دائمة للمقاومة اللبنانية، وتحولت قوات الاحتلال في مناطق الحزام الأمني إلى وضع الدفاع الدائم الذي يغير في كل مرحلة أساليبه ثم تعود المقاومة للتكيف معها والخروج بتكتيكات جديدة تجبر القيادة العسكرية الإسرائيلية على العودة إلى بحث أساليب دفاعية جديدة، وهكذا كانت تتوالي مراحل حرب الاستنزاف المستمرة.
وأصبح مشهد مواكب الضباط والجنود القتلى شبه يومي، في دولة الاحتلال، بعد أن فعلت المقاومة وسائل فتاكة مثل العبوات التي حولت طرقات الجنوب إلى مصائد للموت، بالإضافة إلى عمليات اقتحام المواقع والضربات الصاروخية المركزة، وتحول الحزام الأمني من هدف حماية المستوطنات الشمالية إلى موقع استنزاف دائم.
بعد الخسائر الفادحة التي حلَت بجيش الاحتلال ظهرت حركات اجتماعية إسرائيلية، مثل حركة "الأمهات الأربع"، وضغطت على الحكومة للانسحاب من جنوب لبنان، وهو ما تحقق في أيار/ مايو 2000 ولكن على عجل وسط تقدم الأهالي والمقاومة وتحرير القرى وهروب جيش العملاء بعد أن ضحت بهم القيادة الإسرائيلية.
في مقابلة مع المؤرخ العسكري الإسرائيلي، أوري ميلشتاين، قال إيهود باراك الذي كان مسؤولاً عن فرقة مدرعة خلال اجتياح لبنان ثم تابع مسيرته العسكرية خلال فترة الاحتلال ووصل إلى منصب رئاسة الأركان وهو صاحب قرار الانسحاب، قال إنه عارض في 1985 عندما كان يتولى مسؤولية جهاز الاستخبارات العسكرية إقامة حزام أمني في جنوب لبنان، قائلاً: "كان واضحاً لديّ الدينامية التي ستنشأ وأنهم يبنون خط بارليف جديداً والنتائج التي ستترتب على ذلك مشابهة للثمن الباهظ (الذي دفعناه) في خط بارليف على قناة السويس ستجد نفسها بعد وقت قصير متورّطة في تصعيد مستمر ندافع فيه عن قوافل إمداد ومواقع وعن جنودنا من دون أن يساهم ذلك في أمن إسرائيل".