شبكة قدس الإخبارية

الهجوم الإسرائيلي على لبنان: بين التضليل والاضطراب

1-1737578
ياسر مناع

في صباح اليوم، قامت وسائل الإعلام الإسرائيلية بنشر رواية رسمية حول الهجوم الجوي الذي شنته إسرائيل على لبنان. قدمت الرواية الأولى الحدث على أنه جزء من استراتيجية أمنية تهدف إلى "الردع"، الذي تلاشى في السابع من أكتوبر 2023. وقد ركزت الرواية على تقديم الهجوم كعملية معقدة وذات أهداف متعددة، بما يعكس محاولة لتعزيز الثقة في قوة الردع الإسرائيلية.

 وفقًا لهذه الرواية، يتكون الهجوم من أربعة عناصر رئيسية:

أولًا: الضربة الاستباقية

تضمنت الرواية الإسرائيلية تفاصيل عن استخدام 100 طائرة لضرب آلاف الصواريخ والطائرات المسيّرة في لبنان. الهدف هنا كان تعزيز فكرة الضربة الاستباقية، وهو مفهوم أمني تسعى إسرائيل لتكريسه في وعي الجمهور، بأن الهجوم جاء كتحرك وقائي لضمان أمنها.

ثانيًا: المعركة بين الحروب

أشارت الرواية إلى أن هذا الهجوم يندرج ضمن إطار "المعركة بين الحروب"، وهو مصطلح يشير إلى عمليات عسكرية محدودة وسريعة تهدف إلى تحقيق أهداف تكتيكية دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة. الهدف هو توجيه رسالة قوية للخصم دون الوصول إلى مرحلة الحرب المفتوحة.

ثالثًا: القتال على أرض العدو

تفاخر الإعلام الإسرائيلي بأن الهجوم نُفّذ على أرض لبنانية، مما يحاول إظهار أن إسرائيل لا زالت قادرة على نقل المعركة إلى أراضي خصومها. هذه الرسالة تهدف إلى ترسيخ صورة التفوق العسكري الإسرائيلي وقدرته على تحقيق أهدافه في عمق أراضي العدو.

رابعًا: الإنذار والتحذير

تم تقديم الهجوم على أنه جاء بعد رصد تحركات مشبوهة وتوافر معلومات استخباراتية حول هجوم محتمل ضد إسرائيل. هذا الجزء من الرواية يُعزز فكرة أن الهجوم كان ضروريًا لدرء خطر وشيك، وبالتالي فهو مشروع ضمن إطار الدفاع عن النفس.

رسم حدود الجبهة الشمالية: من ردع إلى إسقاط

بدأت تظهر تناقضات واضحة في الرواية الرسمية. ففي حين تحدث الجيش في البداية عن تدمير آلاف الصواريخ، تراجع لاحقًا عن هذا الرقم ليشير إلى مئات قليلة فقط من المقذوفات التي تم استهدافها. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل بدأ الجيش في التلميح إلى أن حزب الله هو من بدأ بالهجوم، مما يثير تساؤلات حول مدى صدقية الرواية الإسرائيلية الأولية.

ضربة استباقية أم تلاعب بالرأي العام؟

إذا ما تمعّنا في التفاصيل، نجد أن الادعاء بأن ما حدث كان ضربة استباقية يفتقر إلى المقومات الأساسية التي تجعل من أي ضربة وقائية ناجحة. فالشرط الأساسي في أي ضربة استباقية هو عنصر المفاجأة، وهو ما كان غائبًا بشكل واضح في هذا الهجوم. الأوضاع على الجبهة الشمالية كانت مشحونة منذ فترة طويلة، مما يجعل من الصعب تصديق أن الهجوم كان مفاجئًا لأي من الأطراف.

من الواضح أن الجيش الإسرائيلي كان يسعى إلى خلق صورة ذهنية معينة لدى جمهوره من خلال البيانات الأولى للهجوم. هذه الصورة حاولت إظهار الجيش الإسرائيلي كقوة لا تُقهر، قادرة على تنفيذ هجوم واسع ومدمر باستخدام مئات الطائرات الحربية. ولكن مع تراجع الجيش عن أرقامه وبياناته الأولى، بدأت تتكشف حقيقة أن الهدف من هذه الرواية كان بالأساس تلاعبًا بالرأي العام، أكثر من كونه نقلًا أمينًا للحقائق على الأرض.

الصورة الذهنية الثانية: مخاطبة جمهور حزب الله

الرواية الإسرائيلية لم تكن موجهة فقط للجمهور الإسرائيلي، بل كانت تستهدف أيضًا جمهور حزب الله والجمهور اللبناني بشكل عام. من خلال تضخيم حجم الهجوم وأثره، كانت إسرائيل تسعى إلى إشعال جدل داخلي في لبنان، بهدف إضعاف الثقة في قدرات حزب الله وزعزعة استقرار المجتمع اللبناني.

الأكاذيب والتضليل: صورة مقلقة لصانع القرار الإسرائيلي

لكن، مع تراجع الجيش الإسرائيلي عن روايته الأولية ومحاولاته لتصحيح هذه الرواية أمام الجمهور، أصبح واضحًا أن هناك أزمة أعمق داخل إسرائيل. الجيش الإسرائيلي بات مضطرًا لتعديل روايته بعد انتشار الشكوك حول مصداقيتها، وهذا يعكس حالة من التردد والاضطراب في دوائر صنع القرار الأمني والسياسي في إسرائيل.

النتيجة الأبرز التي يمكن استنتاجها من هذا الهجوم هو أن إسرائيل لا ترغب في تصعيد الأمور إلى حرب شاملة على الجبهة الشمالية. التصريحات المتناقضة والبيانات المضللة تشير إلى أن إسرائيل تحاول أن توازن بين الضغوط العسكرية والسياسية دون الانجرار إلى مواجهة واسعة.

إسرائيل بين فكي كماشة

الهجوم الإسرائيلي على لبنان اليوم يمكن أن يُقرأ على أنه جزء من معركة أكبر تدور في ساحة الوعي العام، معركة تحاول فيها إسرائيل ترسيخ صورة قوتها وتماسكها أمام جمهورها وفي مواجهة خصومها. لكن التناقضات التي شابت الرواية الرسمية تُظهر أن هذه الصورة ليست ثابتة كما يُراد لها أن تكون.

يبدو أن إسرائيل تجد نفسها اليوم أمام خيارات صعبة على الجبهة الشمالية، حيث تتراوح بين الرغبة في تحقيق أهدافها الأمنية دون تصعيد، وبين واقع معقد يفرض عليها حسابات دقيقة وتوازنات معقدة. ومع ذلك، فإن اضطراب الرواية الرسمية يُشير إلى أن إسرائيل ليست في وضع يسمح لها باتخاذ قرارات حاسمة، وهو ما قد يكون انعكاسًا لأزمة أعمق داخل القيادة الإسرائيلية نفسها.

ختامًأ، منذ الهجوم الكبير الذي وقع في 7 أكتوبر، قامت إسرائيل برسم حدود واضحة للجبهة الشمالية، والتي باتت تُعرف بجبهة الإسناد. ورغم تعدد الأحداث والتطورات على هذه الجبهة، إلا أن إسرائيل حرصت على إبقائها ضمن هذا الإطار المحدد، محاولًة التحكم في مسار الأمور ومنعها من الانزلاق نحو تصعيد غير مرغوب فيه.