فلسطين المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: تتجاوز الخلافات بين قائد أركان جيش الاحتلال، هرتسي هليفي، وأقطاب ما يعرف بــ"اليمين" في حكومة نتنياهو وخاصة قادة "الصهيونية الدينية"، التراشقات الإعلامية أو الخلاف على التفاصيل التكتيكية إلى مسائل أكثر عمقاً تتعلق بمشاريع لتغيير عميق في المؤسسة العسكرية في دولة الاحتلال لتحقيق مشاريع ما يعرف بــ"حسم الصراع" مع الفلسطينيين كما يدعو ويعمل بتسلئيل سموتريتش.
بعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بدأ سموتريتش بوصفه الرجل الأكثر "خطورة" و"استراتيجية" في تيار "الصهيونية الدينية" الذي أمسك بملفات حكومية هامة في دولة الاحتلال، تمنحه عتبة تحقيق مشاريعه للسيطرة على الضفة المحتلة والمسجد الأقصى وتدمير أي طموح للفلسطينيين لإقامة دولة مستقلة وإدامة الاحتلال عليهم، بتوجيه انتقادات قاسية لقيادة الجيش التي فشلت في منع أو التصدي للهجوم من قطاع غزة.
انتقادات سموتريتش الدائمة لقيادة الجيش على رأسها رئيس الأركان هليفي لا تندرج حصراً في إطار الصراعات الداخلية في شكلها الحزبي، بل في سياق مشروع طويل لتغيير المؤسسة العسكرية ومنح تيارات "الصهيونية الدينية" السيطرة على قيادتها العليا، بعد عقود من سيطرة تيارات وأصحاب مشاريع أخرى في إطار "المشروع الصهيوني" الكبير الذي تتعدد فيه الأطروحات الاستراتيجية حول طريقة التعامل مع الشعب الفلسطيني والمحيط العربي والإسلامي، وقوى المقاومة.
صعود "الصهيونية الدينية"... الصراع مع "النخبة التقليدية"
خلال حرب النكبة وفي المرحلة التالية عليها، سعى ديفيد بن غوريون الشخصية الأكثر أهمية في تاريخ الحركة الصهيونية إلى بناء "مؤسسة عسكرية" تخرج من إطار طابع "الميلشيات" الذي كان عليه العمل العسكري الصهيوني ضد الفلسطينيين والعرب، في المرحلة الممتدة خلال الاحتلال البريطاني إلى حرب 1948، ورغم أن بعض المؤرخين والمحللين العسكريين في دولة الاحتلال يعتبرون أن جيش الاحتلال لم ينجح إلى الآن في بناء مؤسسة عسكرية متينة، لعوامل مختلفة بينها التأثر بمدارس عسكرية يرونها أقل جودة وطبيعة ترفيع الضباط ومدة الدورات العسكرية التي يحصل عليها كل قائد في الجيش وغيرها من الملاحظات، إلا أن النهج "القمعي" لمؤسس دولة الاحتلال، الذي كان يرى أن "بناء الدولة" في محيط معاد يحتاج إلى "ديكتاتورية ما" نجح في ترسيخ خط موال له في القيادة العسكرية إلى حد بعيد.
لسنوات من سيطرة حزب بن غوريون "مباي" على الحياة السياسية والعسكرية في دولة الاحتلال، كانت معظم القيادات العسكرية العليا محسوبة عليه، وكان الطريق مفتوحاً أمامها بعد التقاعد نحو المناصب العليا في الحكومة، وهو التقليد الذي بقي سائداً حتى اليوم، أن رئيس الأركان غالباً ما لا تنتهي خدمته الحكومية بتقاعده من الجيش، بل يدخل إلى المجال السياسي حين ينتهي المنع القانوني الذي يحظر عليه التصريح أو الانخراط في السياسة لمدة معينة بعد الانتهاء من منصبه.
التيارات الأخرى في دولة الاحتلال على مستوى الجيش أو التأريخ أو الأكاديميا وغيرها من المجالات كثيراً ما اشتكت في مختلف أدبياتها من احتكار لحزب "مباي" للجيش والسلطة والحكومة، وهو ما كان واضحاً في مذكرات أرييل شارون الذي يتحدث بوضوح أن ميوله إلى أفكار أخرى لا توافق في جوانب معينة الفكر الحكومي السائد هو ما جعله يصطدم مع بقية الجنرالات، وهي الوضعية التي تعرف في التاريخ الإسرائيلي باسم "حرب الجنرالات"، خاصة في فترة السبعينات.
التغييرات على مجتمع المستوطنين حملت معها تغييرات على الفئة المسيطرة على الحكم، وفي 1977 صعد حزب "الليكود" إلى السلطة حاملاً معه نهاية سيطرة حزب العمل الذي تأسس من اتحاد "المباي" مع أحزاب أخرى، وسعى أرئيل شارون أحد أقطاب الحزب من خلال الجيش والحكومة لترسيخ مخططاته حول توسيع الاستيطان وتدمير منظمة التحرير والقضية الفلسطينية وتوطين اللاجئين في الأردن وإقامة دولة فلسطينية هناك.
ورغم التغييرات والخلافات بين كبار الضباط والتعيينات التي تحمل أحياناً طابعاً شخصياً، بقيت المؤسسة العميقة في جيش الاحتلال والاستخبارات و"الشاباك" وغيرها من الأذرع الأمنية راسخة تحافظ على الطابع الذي بدأ منذ 1948 نسبياً، وتوافقت على محددات للتعامل مع الصراع ضد الشعب الفلسطيني، وإن تغيرت بعض المفاهيم في المراحل التي تقلبت فيها مقاومة الفلسطينيين، لكنها بقيت على محددات مثل إدامة السيطرة على الضفة الغربية والقدس وغزة قبل الانسحاب من القطاع، في 2005، ومنح الفلسطينيين هامش "حكم ذاتي"، والتعاون الأمني مع الجهة الحاكمة فلسطينياً التي تقبل بذلك.
منذ بدايات الثمانينات بدأ التيار المعروف بــ"الصهيونية الدينية" الصعود في الحياة السياسية في دولة الاحتلال، حاملاً أفكاراً تتعارض في الغالب العام منها في رؤية الصراع مع الشعب الفلسطيني والمحيط العربي والإسلامي، مع النخبة المتحكمة بالقرار وتقوم على أفكار توراتية ممزوجة بالفكر الصهيوني وتدعو إلى سحق الفلسطينيين وتدمير المسجد الأقصى ومنع إقامة أي دولة فلسطينية حتى لو على مساحات صغيرة وترسيخ "يهودية الدولة" التي لا ترى غير اليهود.
بقي هذا التيار الذي عارض رئيس حكومة الاحتلال السابق، اسحاق رابين، وحرض عليه وصولاً إلى اغتياله بسبب معارضته لأفكاره لحل الصراع مع الفلسطينيين والعرب وتعرض رموزه الذين وصلوا إلى الحكم اليوم (بن غفير، وسموتريتش) وغيرهم، إلى الاعتقال من قبل جهاز "الشاباك" بسبب انخراطهم في نشاطات ضد الدولة، وما زالت المواقع الإسرائيلية تحتفظ إلى اليوم بصورة لوزير المالية الحالي والمسيطر على شؤون الضفة المحتلة في وزارة الجيش وهو بلباس إدارة السجون بعد مشاركته في هجمات على طرقات إسرائيلية ومواقع حكومية، بسبب قرار شارون تفكيك الاستيطان في قطاع غزة ومناطق في شمال الضفة المحتلة.
التيار الصهيوني الديني الذي كان لا يتجاوز في 1990 نسبة 2.5% فقط من ضباط جيش الاحتلال، صعد بسرعة في المؤسسة العسكرية في السنوات الماضية، وأصبح نصف المتخرجين من دورات الضباط من أتباعه، ووصل عدد منهم إلى مناصب هامة في الوحدات القتالية المختلفة.
جانب آخر من الصراع بين التيار الصهيوني الديني والنخبة الحاكمة بمختلف تياراتها يدور حول الانقسامات العميقة، في مجتمع المستوطنين، تجمعات النخبة التقليدية والاقتصادية واليسارية وغيرها التي فضلت الانخراط في وحدات تضمن لها مستوى من الرفاه في عالم ما بعد الانتهاء من الخدمة العسكرية مثل "السايبر" والاستخبارات وغيرها، بدأت تتراجع أعدادها في الوحدات القتالية أمام أتباع حركات "الصهيونية الدينية".
العدوان على قطاع غزة الذي شهد مجازر وجرائم غير مسبوقة في تاريخ الصراع حمل معه ملامح صعود هذا التيار، في الحياة العسكرية في دولة الاحتلال، ومنح مشاركة المحسوبين عليه بقوة في الوحدات القتالية قادة "الصهيونية الدينية" في حكومة الاحتلال فرصة المباهاة والسعي بقوة نحو فرض تغيير على المؤسسة العسكرية.
الصدام بين قوى اليمين عامة و"الصهيونية الدينية" خاصة مع قيادة جيش الاحتلال بدأ يتطور خلال سنوات، خاصة مع قرار الانسحاب من قطاع غزة ومناطق في شمال الضفة المحتلة، بعد سلسلة العمليات التي نفذتها المقاومة الفلسطينية ضد الوجود الاستيطاني والعسكري الإسرائيلي، وكانت صور المواجهات بين المستوطنين والجنود المكلفين بإخلائهم تشير إلى صراع بين تعريفين للصراع ضد الشعب الفلسطيني، بما يحمل من أدوات عسكرية وسياسية واستراتيجية.
وفي السنوات الماضية كانت "الصهيونية الدينية" تسعى للسيطرة على المراكز التي تتيح لها توسيع المشروع الاستيطاني، في الضفة المحتلة، ومنع جيش الاحتلال من تفكيك بعض ما يطلق عليه "البؤر الاستيطانية" التي يصنفها أنها "غير قانونية"، وهي التي أقامتها ميلشيات المستوطنين في مناطق فلسطينية مختلفة.
ورغم الأساطير التي تأسس عليها جيش الاحتلال حول "جيش الشعب" الذي يصهر داخله مختلف الجماعات في مجتمع المستوطنين، و"الجيش المقدس" الذي يجب عدم توجيه الهجوم عليه بسبب تكفله بمهمة الدفاع عن المشروع الصهيوني أمام الفلسطينيين والمحيط العربي والإسلامي المتربص به، إلا أن مكانة القيادة العسكرية ورئيس الأركان اهتزت بشكل أكبر في السنوات الماضية، كما في الهجوم على القائد السابق لجيش الاحتلال غادي آيزنكوت بعد قراره محاكمة الجندي الذي أعدم الشهيد عبد الفتاح الشريف في الخليل.
كما أن فشل جيش الاحتلال في حسم الصراع مع قوى المقاومة المختلفة التي تصدرت الصراع، في العقود الماضية، والذي كانت ذروته في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ساهم في تعزيز انعدام الثقة بالمؤسسة العسكرية بين المستوطنين، ومنح "الصهيونية الدينية" شهية التقدم نحو فرض رؤيتها على الجيش الذي يجب أن يتحلل من "قواعد عملية وعملانية" تعامل معها خلال الحرب على الفلسطينيين، منذ 1948، وأن يندمج مع ميلشيات المستوطنين ويمنحها حرية كاملة في الحرب على الوجود الفلسطيني.
طوال شهور الحرب على غزة لم ينفك سموتريتش عن المطالبة بإقالة قادة الجيش، وهو مطلب متفق عليه في دولة الاحتلال، لكنه يندرج ضمن مساعيه لتثبيت الضباط المحسوبين على تياره في الأجهزة العليا عسكرياً وسياسياً، ومنع رئيس الأركان الحالي من اختيار قيادات تخلف الضباط الكبار الحاليين.
تاريخياً لم تكن التعيينات في جيش الاحتلال لم تكن تاريخياً بريئة من الشوائب الشخصية والعلاقات بين الضباط والتنافسات. في حالة أهارون حاليفا رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الذي أعلن استقالته قبل أسابيع بعد فشله في توقع أو منع هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وصل إلى المنصب بعد تهديده لرئيس الأركان السابق كوخافي: "إما الاستخبارات أو المغادرة للبيت". رغم أن رأي بعض الضباط الكبار عارضوا التعيين لأن حاليفا من وجهة نظرهم "لا يتمتع بالحس الاستخباراي العسكري" رغم "قدراته الشخصية في مجالات أخرى والكاريزما التي يحملها".
صراع من نوع آخر بين سموتريتش وتياره وضباط الجيش على "الحدود والخطاب". بعد رسالة الاستقالة التي وجهها حاليفا إلى رئيس الأركان وطالب فيها بتشكيل لجنة تحقيق حكومية في أسباب الفشل والمسؤولين عنه، اعتبر زعيم "الصهيونية الدينية" أن هذا الخطاب "تدخل من المؤسسة العسكرية في الشؤون السياسية" و"يجب وضع حد له.
معركة "طوفان الأقصى" قد تحمل تغييرات عميقة في مجتمع المستوطنين وأهمها في الجيش الذي يعتبر المؤسسة الأهم في مجتمع يعيش على حالة الحرب ضد الشعب والمحيط الذي أقام دولته رغماً عنهم وعلى أرضهم.