اشتباكات كبيرة ومعارك ملحمية تخوضها المقاومة متصدية للقوات الغازية التي أعادت اجتياح مخيم جباليا وحي الزيتون (الذي انسحبت منه قبل أيام)، في نمط عمليات سبق ونفَّذه جيش الاحتلال في كل من بيت حانون وحي الزيتون وحيي الرمال وتل الهوا، ومستشفى الشفاء ومناطق غربي غزة ضمن نمط عملياتي أقرَّه إثر عملية إعادة التموضع لجيش الاحتلال خارج المناطق المأهولة.
تصمِّم المقاومةُ، التي تخوض عمليات قتالية على امتداد أراضي القطاع منذ أكثر من ثمانية شهور، استراتيجيتَها الدفاعيةَ بما يُفشِل أهداف الاحتلال وفق تكتيكات تستند إلى تحقيق أقصى استنزاف ممكن لآليات وجنود جيش الاحتلال، بأقل استنزاف ممكن لقدراتها البشرية والتسليحية، مع الحفاظ على تماسُك منظومات القيادة والسيطرة وشبكات الاتصال الأرضي المؤمنة، وهي مهمة شاقة جدًّا في مواجهة حجم النيران والإطباق الاستخباراتي بشتى أنواع التجسس التي تجاوزت قدرات الاحتلال بعد المشاركة البريطانية الأمريكية المباشرة في الطلعات الجوية الاستخباراتية في سماء القطاع.
المرحلة الثالثة ما بين الأهداف والواقع
يَستَهدِف الاحتلالُ مناطق قطاع غزة بعمليات عسكرية مركَّزة على جولات، كجزء من نمط العمليات الموجود ضمن استراتيجية المرحلة الثالثة من الحرب الذي أعلن جيش الاحتلال بدءَ العمل فيها، وفي سياقها جاءت عملية إعادة التموضع الواسعة لجيش الاحتلال خارج المناطق المأهولة وتسريح جزء من وحدات الاحتياط. يكمن صلب أهداف عمليات المرحلة الثالثة في الاستنزاف الأقصى لقدرات المقاومة من جانب، ومن جانب آخر في تثبيت مبدأ حرية الحركة لجيش الاحتلال، ما يسمح بتنفيذ عمليات "المطارَدة الساخنة" لقيادات وكوادر المقاومة الفلسطينية، وفي صلبه تأكيد إمكانية فرض جيش الاحتلال لسيطرته الأمنية على القطاع حتى دون تواجُد جيش الاحتلال على الأرض في الأحياء والمدن، بل الحفاظ على حرية الحركة للجيش وقتما استدعت الحاجة العملياتية ذلك.
على أرضِ الواقعِ الأمرُ مغايرٌ تمامًا، فقد بات واضحًا أنَّ رهان الاحتلال بعد نحو ثمانية شهور على استنزاف قدرات المقاومة التسليحية، وتفكيك البنية الرئيسية للمقاومة في المناطق التي نفَّذ فيها عدوانًا واسعًا في خلال المراحل الأولى من الحرب وتحويل عمليات المرحلة الثالثة إلى "ملاحقة لجيوب المقاومة المتبقية"، رهانٌ بعيدٌ كل البعد عن التحقق وفق المعطيات الميدانية، فكل عمليات الاقتحام المستجدة لمناطق سبق وأنهى جيش الاحتلال عملياته فيها جوبهت بمقاومة أكثر تماسكًا وشراسة واستبسال حتى من المقاومة في المراحل الأولى للحرب، وهذا يعطي إشعارًا حول الآلية الدفاعية التي اعتمدتها المقاومة وارتكازها إلى تكتيكات "حرب المدن" التي لا تعمل وفق استراتيجية الخطوط الدفاعية ومحاولة منع الجيش من التقدم، بل تعمَد إلى حفظ قدراتها وإدارة مواردها إدارةً ذكيةً بما يسمح لعقدها القتالية بتوجيه ضربات مباغِتة للقوات الصهيونية المتوغلة واستنزافها طوال فترة تواجدها على الأرض، ما يسمح للمقاومة بالحفاظ على سلامة بنيتها ومواردها وبنيتها التحتية.
الواقع الميداني
ميدانيًّا، يَستَهدِف الاحتلالُ في اقتحاماته للمناطق المستهدَفة ما استجدَّ في بنك أهدافه في خلال فترة الانسحاب، إذ يرصد الاحتلال عن كثب تحركاتِ المقاومةِ في هذه المناطق وعمليات ترميم البنى التحتية وترتيب الصفوف وتجاوز أثر الضربات، ما يوفِّر للاحتلال تحديثًا لبنك أهدافه بعد فشله في المرة/المرات السابقة من الوصول إلى أهداف نوعية للمقاومة داخل المناطق المستهدَفة، سواءٌ على صعيد تفكيك منظومات القيادة والسيطرة، أو اغتيال/اعتقال قادة كتائب وألوية المقاومة في المناطق المستهدَفة، إضافةً إلى إمكانية الوصول إلى أي من أسرى الاحتلال.
تتعامل المقاومة مع هذا النمط باقتدارٍ يَعكس قراءةً دقيقةً لأهداف الاحتلال، وحتى تقديرًا للمناطق المستهدفة، ما تعكسه المعطيات الميدانية وقدرة المقاومة على استهداف القوات المهاجمة بالجهود الهندسية والكمائن المُعدَّة مسبقًا وتحويل ما ظنَّ الاحتلال أنه بنك أهداف إلى أفخاخ تُستدرَج إليها قوات الاحتلال، ما يوقع قواته ما بين قتيل وجريح، فيما أسهَم تمكُّن المقاومة من تجاوُز الموجة الأولى من القصف المكثَّف والاجتياح الواسع واستنزاف الاحتلال لبنك أهدافه في ترتيب أوراقها الميدانية بشكل أكثر تماسكًا وقوة.
يهدف التصدي الكبير والواسع للمقاومة بدرجة أساسية إلى تحويل كل عملية اجتياح جديدة لمناطق القطاع إلى "مقتلة" لجيش الاحتلال، وبالتالي إفشال سعي الاحتلال إلى تثبيت مبدأ حرية الحركة، وتحويل هذا المبدأ إلى عنوان استنزاف لجيش الاحتلال وآلياته ورفع كلفة هذا التقدم قدر الإمكان، وبالتالي إسقاط هذا الخيار من مستقبل خطط جيش الاحتلال للبقاء في القطاع، ما يعكسه حجم التصدي، سواءٌ في حي الزيتون أو حي الرمال، أو مناطق غربي غزة أو بيت حانون، والنموذج الأكبر اليوم في مخيم جباليا، وهو في الغالب ما سيواجهه الجيش في كل العمليات القادمة.