ليس جديدا على المتابع العربي أن ينظر للعلاقة بين إيران من جهة وأمريكا والاحتلال من جهة أخرى على أنها مسرحية، وقد ناقشنا هذا في مقال سابق وفندناه من وجهة نظرنا، فالمواطن العربي تعوّد أن يكون "متفرجا" لا فاعلا، ولهذا يسهل عليه أن يرى ما "يتفرج" عليه مسرحية هابطة!
ولكن طبيعة الرد الإيراني الذي ترقبه وشهده العالم يوم السبت، أعطى لأصحاب نظرية "المسرحية" مبررا جديدا لتأكيد نظريتهم، والقول؛ إن الصراع بين الطرفين وليس هذا الحدث فقط هو مجرد مسرحية.
هل هي مسرحية؟
إن السؤال الأول الذي يطرح نفسه في هذا النقاش هو: كيف تسمح دولة مثل دولة الاحتلال التي يقوم وجودها حرفيا على نظرية "الردع" و"الجدار الحديدي"، بأن تقصفها دولة أخرى (إيران أو غيرها) بمئات المسيرات والصواريخ -بغض النظر عن نتائج هذا القصف- لأجل إكمال مشاهد مسرحية ما؟ كيف تسمح دولة الاحتلال وحلفاؤها العالميون وعلى رأسهم أمريكا أن تتضرر "هيبة" وقوة ردع الاحتلال لأجل مسرحية؟
أما السؤال الثاني فهو: لماذا لا توافق دولة الاحتلال على مثل هذه المسرحية لصالح حلفاء عرب واضحي الصداقة معها، لرفع أسهمهم عند شعوبهم مثلا، وتقتصر مسرحياتها على إيران فقط؟
ومن جهة أخرى، كيف توافق دولة الاحتلال على مسرحية تكلفتها 1.3 مليار دولار كما ذكرت صحف عبرية؟ وما الهدف الذي يستحق مثل هذا الثمن؟
يمكننا بالتأكيد فتح قوس التساؤلات إلى آخره، ولكن هذا لن يقنع المؤمنين بنظرية "المسرحية"، والذين يمتلكون مبررات تاريخية بالتأكيد لرأيهم وتفسيرهم؛ لأنهم عاشوا مثلنا جميعا دور العربي "المتفرج" غير الفاعل لعقود طويلة!
الحب والتحليل السياسي!
يأخذنا صراع المسرحية والفرجة لزاوية أخرى في النقاش، هي أساليب التحليل السياسي وأسسه. فالكثير من المحللين العرب يبنون تحليلاتهم على "الحب والكراهية"، وهذا الأساس قد -نقول قد- يصلح لتحليل العلاقات العاطفية والزوجية، ولكنه لا يصلح بالتأكيد للتحليل السياسي. لا نتفق مع إيران بل نخاصمها وندينها في سياساتها ومساهمتها في ارتكاب جرائم في سوريا والعراق، ولكن هذا الموقف لا يجب أن يشكل أساسا لتحليل كل سياساتها، ولا للحكم على كل سلوكها الإقليمي. يجب الفصل بين تقييم السياسات والموقف "الأخلاقي" من بعض سياسات الطرف الذي يجري تقييمه أو تحليل سياساته. ما لم يتم الفصل بين الأمرين، فلن نستطيع أن نفهم السياسات الإقليمية، والحكم عليها، ومن ثم محاولة مواجهتها.
حتى عند تحليل سلوك الأعداء مثل كيان الاحتلال، فلا يمكن فهم سياساتهم والحكم عليهم، وبناء مشروع يناهضهم، إذا بني التحليل على الموقف الأخلاقي أو النفسي تجاههم، وإنما يحصل هذا فقط إذا بني التحليل على الحقائق والأحداث.
وختاما لهذه الجزئية من النقاش، يحدث أحيانا خلط متعمد بين الملفات. فبعيدا عن اتهام من يرفض تحليل "المسرحية" بأنه "متأيرن" و"شعوبي" وغيرها من الصفات التي لا تقدم ولا تؤخر، يتم التدليس بأن أصحاب هذا الرأي يقولون؛ إن الرد الإيراني حصل نصرة لغزة، مع أن إيران نفسها لم تزعم ذلك. هذا الخلط المتعمد أحيانا أو الناتج عن قلة المعرفة أحيانا أخرى، يحرف النقاش عن مقاصده، ويتحول للحكم على دوافع البشر بدلا من قراءة مواقفهم.
كيف يقرأ الرد الإيراني؟
ثمة قراءات متباينة للرد الإيراني -حتى الآن-، بعضها إيجابي لإيران، وبعضها إيجابي لدولة الاحتلال.
النتيجة الرئيسية للرد الإيراني، هي أن طهران حتى الآن استطاعت تثبيت "قواعد الاشتباك" بينها وبين الاحتلال. كانت القواعد تقوم على أن الاحتلال لا يستهدف إيران بشكل مباشر في أراضيها، ويستهدف شخصيات عسكرية خارج الأراضي الإيرانية، وحتى إذا حصلت عمليات اغتيال داخل إيران فإن الاحتلال لا يتبناها أبدا، وبالمقابل ترد إيران على الاحتلال بشكل غير مباشر أيضا عبر وكلائها وحلفائها في المنطقة (حزب الله وقوى عراقية تحديدا).
ويعدّ قصف الاحتلال للقنصلية الإيرانية في دمشق كسرا لقواعد الاشتباك هذه من قبل "إسرائيل"؛ لأن القنصلية تعدّ أرضا إيرانية، ولأن الاحتلال أقر بأنه هو المسؤول عن القصف. وبالمقابل يعدّ الرد الإيراني المباشر على الاحتلال -بغض النظر عن الخسائر العملية التي تكبدتها تل أبيب- ردا خارج القواعد أيضا، وهو رد يحصل لأول مرة بهذا الشكل -حتى لو كان محددا ومبرمجا مسبقا-. استطاعت إيران أن تثبت -حتى الآن- قواعد الاشتباك، وهذا بحد ذاته أمر مهم في العلاقات الدولية بين الخصوم والأعداء.
إذا لم يرد الاحتلال على القصف الإيراني بطريقة تخرج عن قواعد الاشتباك مثل قصف مدن إيرانية مثلا، فهذا يعني أن إيران استطاعت أن تثبت هذه القواعد، وسيتوقف الأمر عند هذا الحد، وستعود الأمور إلى ما كانت عليه. أما إذا رد الاحتلال مباشرة داخل الأراضي الإيرانية، فهذا يعني أن دورة أوسع من الصراع ستندلع، وقد تتطور إلى احتمالات لا يمكن توقعها، تتراوح من مناوشات عسكرية بين الطرفين، إلى حرب إقليمية شاملة، بناء على طبيعة تصرف الطرفين.
إحدى النتائج الإيجابية الأخرى لإيران، هي أنها ثبتت نفسها كدولة إقليمية عبر هذا الرد، من خلال إثبات قدرتها على الرد على اعتداءات الدولة الأكثر تسليحا ودعما من القوى العالمية الكبرى.
بالمقابل، أظهر رد إيران قدرة الاحتلال على صد هجماتها بفعالية، وهذا يعني أن الأسلحة الإيرانية التي استخدمت في الهجوم في متناول القدرات الإسرائيلية. قد يشكل هذا ردعا لإيران، ولكنه قد يشكل فرصة لتقدير الموقف الإيراني لمعرفة طبيعة قدرات العدو، ومن ثم معرفة القدرات الضرورية لمواجهته مستقبلا.
يبقى القول إن غزة لم تكن سببا للهجوم الإيراني، ولكن طبيعة الرد الإسرائيلي عليه التي شملت وقف الحرب الجوية على غزة خلاله، وحالة الطوارئ والارتباك التي عاشها الاحتلال أثناء وقبل ساعات الهجوم، تظهر مقدار هشاهته، ويمكن أن تمثل قراءة -ولو مختزلة- لشكل المنطقة إذا حصلت حرب إقليمية وتبعات ذلك على العدوان الذي يشنه الاحتلال على غزة.