في شوارع "هرتسيليا" سارت سيارتي ذات صباح، كالغريبة أتلمس المكان، يبدو أنني في حيّ برجوازي هادئ، الألوان الزهريّ والأحمر والأخضر على جانبي الطريق تتدلى أزهاراً من وراء أسوار البيوت الفخمة، السيارات المركونة على أطراف الشارع تنبئُ عن غنى من يسكنه. شاب أسمر البشرة حادّ الملامح، يبدو من جنوب السودان أو ارتيريا، ينظف الشارع "النظيف"، و"سيدات مجتمع" شقراوات يعبرن الشارع باتجاه مقهى واسع الشرفات يطلّ على البحر.
12 كيلو متراً إلى الشمال من يافا المحتلة، على أنقاض قرى فلسطينية مُهجرة منها قريتي الحرم وإجليل، وُجِدت مدينة إسرائيلية تبدو عليها معالم الرخاء، تُدعي "هرتسيليا". يقابلك عند دخولها مُجسم لـ "ثيودور هرتزل"، النمساويّ المجريّ اليهوديّ، صاحب كتاب "الدولة اليهودية"، ومؤسس الصهيونية السياسية المعاصرة، على اسمه سُميت المدينة بطبيعة الحال. المجسم يقبض القلب، فصورة الرجل تُذكر بما جلبته "أفكاره" إلى هذه الأرض وأهلها.
[caption id="attachment_20601" align="aligncenter" width="432"] مجسم "هرتزل" في مدخل "هرتسيليا" - السهل الساحلي الفلسطيني[/caption]لو لم تكن هذه الشوارع هنا، فما الذي سيكون؟ في أي "الشوارع" يسكن أصحاب هذه الأراضي الآن؟ مخيم في نابلس؟ قرية في الداخل؟ مخيم في لبنان؟ لا ملامح عربية في المكان تؤنس وحدتي. لا يهمّ، سيعرض لي المكان فيما بعد ما يمتص بعض الألم. اللافتة أمامي تقول "جان لئيومي "Appolonia– أي حديقة وطنية، التعبير الذي يرتبط في ذهن الكثيرين بتزييف التاريخ، وسرقة الأرض، فصفة "الوطنية" تحيل إلى "وطن" ما وإلى أصحاب ما، ليسوا هم الوطن وليسوا هم الأصحاب.
لا أحد في المكان سوى الموظفة على الباب تتقاضى رسوم الدخول. بالكاد نظرتْ إلى وجهي، تحدثت مستعجلة تريد أن تنهي هذا الحديث الاضطراري مع "فلسطينية" ربما لم تعتاد رؤية أشباهها في المكان.
لم يكن "الجان الئيومي" إلا حديقة واسعة تحيط ببقايا حصن مشهور باسم المدينة القديم "ارسوف". يعود تاريخ المكان إلى الفترة الفارسية، القرن السادس قبل الميلاد، قيل إنه سمي "ارسوف نسبة إلى إله الحرب والعواصف عند الفينيقيين "رسف". عرف في العهد اليوناني باسم "أبولونيا" نسبة إلى آخر آلهة اليونان "آبولو".
[caption id="attachment_20607" align="aligncenter" width="411"] من داخل الحصن[/caption]يقع الحصن على رأس تلة مشرفة على البحر المتوسط، إلى الشمال قيسارية وعكا، وإلى الجنوب يافا، موقع استراتيجي للسيطرة على الساحل الفلسطيني. ومن هنا كانت مدينة "أرسوف" دائرة للمعارك بين الصليبيين والمسلمين. وكان صلاح الدين الأيوبي قد استردها بعد معركة حطين، ولكنها عادت للسقوط بأيدي الصليبيين بعد سقوط عكا في حملتهم الثالثة على بلاد الشام عام 1191. حررّها السلطان المملوكي الظاهر بيبرس عام 1265 خلال حملته الواسعة ضدّ الصليبيين والتي استعاد فيها مدنا عدة مثل قيسارية وعكا.
[caption id="attachment_20604" align="aligncenter" width="423"] الشاطىء من أعلى الحصن[/caption]تذكر مصادر تاريخية إسلامية أن بيبرس قام بعد انتصاره بهدم الحصن وإحراقه حتى لا يكون محطاً لأنظار الصليبيين بعد ذلك. وبما أنك في "جان لئيومي" عليك أن تأتي محملاً ببعض المعرفة حول تاريخ البلاد، فالمعلومات التي تتوفر هنا قد لا تلائمك. تقول المطوية التي تستلمها عند دخولك المكان إن بيبرس أعطى الأمن لحماة الحصن وتعهد لهم إن استسلموا أن يخرجوا سالمين أحراراً، ولكنه أخلف وعده وأجبرهم على إحراق وتدمير الحصن بأنفسهم، ومن ثم أخذهم أسرى. تتبع هذه القصة جملة:"وهكذا جاءت نهاية هذه القلعة التي استمرت 24 عاماً فقط!" كنوع من إشاعة الحزن المصطنع على ما فعله "هؤلاء المسلمون المُدمرون" بهذه البلاد.
وبما أننا على أنقاض قلعة صليبية تحاول جهة صهيونية نقل حكايتها، من المهم هنا أن نذكر الاهتمام الصهيوني بالدراسات الصليبية باعتبارها سابقة استعمارية في فلسطين يمكن الاستفادة منها في السيطرة على الأرض وتفادي أخطائها. الكاتب الفلسطيني زياد العسلي، شقيق المؤرخ المعروف كامل العسلي، كتب عام 1992 مقالاً بعنوان "الدراسات الصهيونية للحركة الصليبية" يقول فيه أن الكتاب المؤرخين الإسرائيليين حققوا حضوراً ملفتاً في الأوساط الأكاديمية العالمية فيما يتعلق بدراسات الحملات الصليبية، وأنه من بين 82 دراسة نشرت عن الصليبيين عام 1980 مثلاً هناك 12 دراسة أجراها إسرائيليون. فيما يرفض أكاديميون إسرائيليون المقارنة بين "إسرائيل" والصليبيين على اعتبار أن الفعل الصليبي هو "غزو" بينما ما قام به اليهود هو "العودة".
جامع سيدنا علي .. صامد وسط الغرباء
نترك عالم الأكاديميا قليلاً ونعود إلى المكان. على رأس ذلك الحصن المهدوم، وبالاتجاه جنوباً تطل عليك من بين البيوت اليهودية مئذنة جامع سيدنا عليّ. يمكن التوقف هنا عن الكلام، فماذا يقال بعد هذه المشاهد الثلاثة: يقابلني عند المدخل "هرتزل"، يتبعه حصن آرسوف الصليبي المدمر بعد انتصار الظاهر بيبرس، ختامها مسك، مئذنة جامع سيدنا علي، باقياً في مكانه صامداً بين كلّ مظاهر لا تنتمي له. ثلاثة مشاهد مجتمعة لا حاجة لك بعدها لكثير من الكلام، إذ تلخص لك تجليات مكر التاريخ وتقلباته. هذا ما قصدتُه بقولي أعلاه: هناك بعض ما يخفف الألم.
[caption id="attachment_21850" align="aligncenter" width="376"] سور الجامع كما يظهر من سطحه، وساحل البحر المتوسط[/caption]خروجاً من موقع حصن آرسوف، وفي محاولة للوصول إلى الجامع، تمر وسط بيوت يهودية بُنيت على أنقاض بيوت الفلسطينيين من قرية الحرم. إحدى الشوارع التي تؤدي إلى هناك شارع "جولدا مئير". هي رحلت وسمي الشارع باسمها .. وبقي جامع "سيدنا علي".
أما "سيدنا علي" الذي سُمي الجامع باسمه حيث يقع ضريحه في منتصف الجامع تقريبا، فهو أبو الحسن علي بن عليل المعروف بين الناس ابن عليم، ويمتد نسبه إلى الصحابي عمر بن الخطاب، فهو جدّه السابع. يقول عنه مجير الدين الحنبلي في كتابة الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل :" من الأولياء المشهورين بأرض فلسطين السيد الجليل الكبير وسلطان الأولياء وقدوة العارفين وسيد أهل الطريقة المحققين، صاحب المقامات والواهب والكرامات والخوارق الباهرات، المجاهد في سبيل الله الملازم لطاعة الله .. صاحب الكرامات المشهورة والمناقب الظاهرة، وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره والاستقصاء في ترجمته، فإن صيته كضوء النهار لا يخفى على أحد..".
[caption id="attachment_21834" align="aligncenter" width="269"] ضريح سيدنا علي في قلب الجامع[/caption]"وضريح السيد علي بن عليل بشاطىء البحر المالح بساحل ارسوف وعليه مشهد عظيم مأنوس وبه منارة مرتفعة وأهل تلك النواحي بأسرها في حفظه وبركته سره ومن مناقبه إن الإفرنج إذا اقبلوا على ضريحه وهم في البحر كشفوا روؤسهم ونكسوها نحوه رضي الله عنه وكانت وفاته يوم السبت لاثني عشرة خلت من ربيع الأول سنة أربع وسبعين وأربعمائة ولما نزل الملك الظاهر بيبرس يوم فتح يافا وارسوف زاره ونذر النذور والأوقاف ودعا قبلاه فيسر الله له فتح البلاد البعيدة والقريبة ويجتمع هناك خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى".
بني الجامع في عهد صلاح الدين الأيوبي، وكانت عمليات الترميم الاخيرة له في فترة الانتداب البريطاني عام 1926، ومن ثم هُجر أهل قرية الحرم، وترك مهملاً حتى رممته جمعية سيدنا علي بدءاً من العام 1988، بالاعتماد على تبرعات أهل الخير وبعض مُهجري القرية في الشتات.
ورغم مرور أكثر من ستين عاماً على تدمير قرية الحرم، إلا أن الخلق ما زال يجتمع هناك عند جامع سيدنا علي، فهو جامع نشيطٌ إذا ما نظرنا إلى الظروف التي تحيط به وأبرزها وجوده في "مدينة إسرائيلية" لا يعيش فيها فلسطينيون. وتؤدى في الجامع صلوات الجمع، وتمرّ به حافلات الرحلات الجماعية للاستراحة والصلاة، كما يداوم فيه موظف يقوم على عنايته وحراسته.
ترحل أممٌ وتقومُ أخرى، ومن أعظم ما تتركه وراءها ليس فقط روايات يتناقلها المؤرخون يتعلم منها اللاحقون، بل كذلك مشاهد حيّة تلهم من يراها إذا تأملها بنفس تاريخي عميق: قلعة أرسوف الصليبية، ومسجد سيدنا علي الوليّ المجاهد المرابط، وعلى مقربة منهما تمثال ثيودور هرتزل، تاريخ ماكر لعله يدور مرة أخرى فتكون الغلبة لنا.