بدا التدخل الأمريكي في الحرب الإسرائيلية على غزّة غريبا، ليس من حيث التدخل نفسه، ولكن من حيث درجته ومستواه الذي بلغ حد الانخراط المباشر، الأمر الذي جعل السؤال أكثر إلحاحا عن دوافع هذه الإدارة التي سحبت القوات الأمريكية من أفغانستان، والتي تُعدّ استمرارا لإدارة أوباما التي يُفترَض أنها امتلكت رؤية تصحيحية للأخطاء الكارثية لإدارة بوش، وتُضاف إلى ذلك التحديات الاستراتيجية التي تواجه مصالح الولايات المتحدة في العالم، بحيث يصير الدعم اللامحدود لعدوان الإبادة الإسرائيلي على غزة متعارضا بدرجة ما مع ضرورات تلك التحدّيات ومتطلباتها.
ينتمي هذا التحليل، الذي يستهجن هذا القدر من الانغماس المباشر في الحرب الإسرائيلية، للنظرية الواقعية التي روّج لها بإلحاح أمثال جون ميرشايمر وستيفين والت، وهما اللذان ألّفا كتاب "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية" (THE ISRAEL LOBBY AND U.S. FOREIGN POLICY). فقد عارض ميرشايمر الحرب على العراق، وحذر من الصدام مع روسيا من خلال أوكرانيا وانتقد باستمرار الدعم الأمريكي شبه المطلق لـ"إسرائيل"، وذلك باختصار لأنّ هذه السياسات تناقض المصالح الأمنية للولايات المتحدة الأمريكية بتعظيم المخاطر وتكثير الأعداء، وبكلمة أخرى تتعارض سياسات الولايات المتحدة مع متطلّبات الأمن والبقاء.
بقطع النظر عن أي اعتبارات أيديولوجية، متصلة برؤية الذات البيضاء الواحدة، أو بالجذور الثقافية والدينية، أو بالمسار الاستعماري التاريخي الغربي، فإنّه يمكن القول إنّ الهرم الإمبراطوري لا بدّ له من مركز، ثمّ تراتبية تالية في المركز، بحيث لا تتساوى دول من مثل اليابان وكوريا الجنوبية بدول من مثل أستراليا وبريطانيا و"إسرائيل" بل تأتي في مرتبة تالية بعدها، ومن ثمّ فإنّ دولا دون اليابان وكوريا الجنوبية، مهما ارتبطت بمصالح عميقة مع الولايات المتحدة، كدول الخليج العربي مثلا أو مصر، فإنها بالضرورة دون "إسرائيل" في مراتب الهرم الإمبراطوري
يُقدّم كلينتون فريندايز، ضابط الاستخبارات الأسترالي السابق، والذي يعمل حاليا أستاذا للدراسات الدولية والسياسية في جامعة نيو ساوث ويلز؛ أطروحة مختلفة لتفسير سياسات الولايات المتحدة وحلفائها، في كتابه "القوّة الإمبراطورية الفرعية: أستراليا على الساحة الدولية" (Sub-imperial Power: Australia in the International Arena)، تقوم على كون الدول الأكثر قربا من مركز السياسة الأمريكية في العالم، كالمملكة المتحدة وأستراليا وكندا و"إسرائيل"، امتدادات بالوكالة للمركز الإمبراطوري، أو قوى فرعية للإمبراطورية، لديها مساحة فعل وهيمنة واسعة في مجالها الحيوي. فمثلا إذا كنّا نتحدث عن "إسرائيل"، فهي جزء من الإمبراطورية الأمريكية، وهي بهذا الاعتبار ليست دولة عميلة، بقدر ما هي وكيل إمبراطوري بصلاحيات واسعة في مجال حيوي ضخم، هو، والحالة هذه، المنطقة المسماة في الخطاب الاستعماري الغربي "الشرق الأوسط"، وبهذا فإنّ الاستفادة متبادلة، من جهة تحفظ فيها الإمبراطورية هيمنتها في هذا المجال الحيوي، ومن جهة أخرى يُعظّم فيها الوكيل الإمبراطوري ("إسرائيل" في هذه الحالة) مكاسبه من المركز الإمبراطوري.
قد يُقال، إنّ هذا التخادم يصلح لتفسير علاقات التابع المحض، أو العميل المطلق، لأي مركز قوّة آخر، فما الذي يجعل علاقة الولايات المتحدة مختلفة مع هذه الدول دون غيرها؟
وهذا الفارق في الرتبة، هو الفرق بين الوكيل الإمبراطوري (أو القوة الإمبراطورية الفرعية) وبين التابع المطلق، بحيث لا بدّ من ضمان هيمنة الوكيل الإمبراطوري على مجاله الحيوي، بضمان تفوقه.
وهذا، على أية حال، فيما تعلّق بـ"إسرائيل" مُعلن في الخطابين الأمريكي والإسرائيلي تجاه سياسات التسلّح في المنطقة، إذ إنّ شرطها الجوهري هو عدم الإخلال بالتوازن، الذي يُقصد به التميز العسكري النوعي لـ"إسرائيل"، ولم يكن التلكؤ الأمريكي الواضح في إنفاذ صفقة طائرات F35 مع الإمارات إلا في هذا السياق، مما يعني أنه لا يمكن استنساخ "إسرائيل" أخرى من خلال وكيل إمبراطوري إضافي في المجال الحيوي نفسه، فكلّ وكيل جديد في المجال نفسه هو في مرتبة دنيا من "إسرائيل"، وهذا في جانب ما يُفسّر الحالة العربية المزرية إزاء العدوان الإسرائيلي على غزّة، لأنّ الأمر هو محض مراتب، بين تابع ووكيل إمبراطوري.
فالدول التابعة، والتي هي في الرتبة دون الوكيل الإمبراطوري؛ قد تحظى بحماية المركز الإمبراطوري، لكنها دائما في موضع الاستغلال والابتزاز، والفائدة المرجوّة من تبعيتها للمركز الإمبراطوري مقتصرة على نخبها الحاكمة، بينما تدفع الثمن من مجتمعاتها وعلى حساب استقلالها في تطوير سياسات خاصة ببلادها وتنمية مواردها. وفي المنطقة العربية؛ لا بدّ وأن يُدفع الثمن أيضا من الكيس الفلسطيني، ومن ثمّ فأحسن تفسير لسياسات الدول العربية بخصوص فلسطين؛ هو موقعها من هذا الهرم الإمبراطوري الذي تأتي فيه في آخر الذيل، وفي مرتبة تابعة للوكيل الإمبراطوري، والذي هو، وللمفارقة، عدوّ الأمّة!
يبقى لماذا تغامر الإمبراطورية بأمنها لصالح سياسات الهيمنة؟ والجواب المباشر لأنّها إمبراطورية، ثمّ وفي الحالة الأمريكية، ينبغي النظر في المكون الاقتصادي والاجتماعي الذي يرفع بدوره النخب السياسية، إذ سوف يتضح تماما أن الثروات في الولايات المتحدة مركّزة في يد أقلية صغيرة للغاية، فبحسب تقرير نشرته في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر إدارة أبحاث "ستاتيستا" (وهي شركة ألمانية متخصصة في بيانات السوق والمستهلكين)، فإن 69 في المئة من إجمالي الثروة في الولايات المتحدة في الربع الثاني من العام 2023 مملوك لأعلى 10 في المئة من أصحاب الدخل، وفي المقابل فإنّ أقلّ 50 في المئة من أصحاب الدخل يملكون فقط 2.5 في المئة من إجمالي الثروة.
إنّ هذه النخبة الاقتصادية تدفع الإمبراطورية لتكريس سياسات الهيمنة على حساب سياسات الأمن التي تقتضيها النظرية الواقعية، وهو ما يميّز مراكمة القوّة لأجل الأمن كما تفعل الصين، ومراكمتها لأجل هيمنة النخب الاقتصادية العليا كما تفعل الولايات المتحدة، وإذا أخذنا بعين الاعتبار التأثير السيكولوجي للثراء الفاحش والشعور الرهيب بالتفوق، فإنّ العجرفة هي السمة الأساسية في تأثير النخبة الاقتصادية على الطبقة السياسية، وبعد ذلك السمة الأساسية للسياسات الإمبراطورية الخارجية.
وإذا كان ذلك يستدعي التذكير بكون "شركة الهند الشرقية" هي التي بدأت في نهب ثروات الهند لتستدعي تاليا القوّة الإمبراطورية البريطانية لإخماد التمرد حماية لسياسات نهب الثروات تلك، فربما لا تجوز الغفلة عن كون وزير الدفاع الأمريكي الحالي لويد أوستن؛ بعد تقاعده من منصبه قائدا للقيادة المركزية الأمريكية؛ انضمّ إلى مجلس إدارة شركة RTX (Raytheon Technologies سابقا)، وهي واحدة من أكبر شركات الطيران والفضاء والدفاع وتقديم الخدمات الاستخباراتية في العالم من حيث الإيرادات والقيمة السوقية، وتحصل على الجزء الأكبر من إيراداتها من الحكومة الأمريكية. وهو ما يعني أنّ وزير الدفاع الحالي هو أحد ممثلي المجمع الصناعي العسكري في قلب الحكومة الأمريكية (في تقرير لها نشرته في تموز/ يوليو 2020 قالت الشركة إن لديها تراكما من الطلبات المعلّقة مع الحكومة الأمريكية بلغ 73 مليار دولار!)، وقد جمع أوستن إلى ذلك شراكته في شركة استثمارية تتعاقد مع المورّدين العسكريين، وحظي بإدارة شركات في قطاعات خاصّة أخرى.
ولم يكن أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي الحالي، بعيدا عن هذا النوع من الأعمال في القطاع الخاصّ، وهو ما يوفّر الفرصة المناسبة لتخيّل حجم التأثير على رئيس ثمّة تشكيك دائم، ويبدو محقّا، في قدراته الذهنية!
يمكن تلخيص ذلك بأنّ "إسرائيل" وكيل إمبراطوري لديه مكانة خاصة لدى المركز الإمبراطوري. هذا الوكيل تعرّض لضربة هزّت توازنه بما استدعى تدخل المركز مباشرة، وذلك في حين أنّ المجمع الصناعي العسكري سيكون مهتمّا ببيع أسلحته لـ"إسرائيل" بواسطة تمويل الحكومة الأمريكية، وكذلك تجريب هذه الأسلحة وآخر تقنياتها على لحم الفلسطينيين الحيّ، لكن لا ينبغي في ختام هذه الرؤية، أن نغفل عن كون الهيبة الإمبراطورية لم يكن لها إلا أن تنتفض بهذا النحو الهائج بعد ضربة حماس لـ"إسرائيل"، بعدما تهشّمت الهيبة الإمبراطورية بانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان على يد هذه الإدارة نفسها، وتعثرها في مواجهة روسيا في الحرب الأوكرانية.
في سياق الهيبة، تحدث رأس الإمبراطورية بايدن؛ عن كون ضربة حماس استهدفت درة تاج المشروع التطبيعي الممثل في الصفقة السعودية/ الإسرائيلية بتدبير من المركز الإمبراطوري، أي تطبيع وظيفة الوكيل الإمبراطوري الذي يتسم بطبيعة خاصة من جهة افتقاده للكيانية الطبيعية في بيئة معادية، واستهدفت (أي ضربة حماس) بحسب بايدن؛ مشروع الخط التجاري الذي يبدأ بالهند ويمرّ بالإمارات والسعودية والأردن وينتهي برّيّا بالوكيل الإمبراطوري "إسرائيل" قبل أن تنطلق السفن من موانئه إلى أوروبا، وقد صار من نافلة القول إنّه مشروع أمريكي، يضمّ في جملة أهدافه حصار الصين اقتصاديّا وجيوسياسيّا، وتثبيت الهيمنة الأمريكية في "الشرق الأوسط" من خلال الوكيل الإمبراطوري "إسرائيل"، في بيئة أكثر قبولا وتبعية لهذا الوكيل من قبل، وبنحو يؤبّد هذه التبعية، وبما يقتضي تصفية القضية الفلسطينية.
بدرجة ما، لم يكن تدخل المركز إسنادا للوكيل الإمبراطوري المترنح فحسب، ولكن أيضا دفاعا عن الهيبة الآخذة في التآكل، ويمكن الاستعانة بمقولة للمتحدث باسم وزارة الدفاع الوطني الصينية ووتشيان، تلخّص ذلك كلّه، إذ يقول: "الولايات المتحدة مدمنة على الحرب".