تتلبد سماء فلسطين المحتلة بسحب مواجهةٍ مقبلة على مختلف الجبهات: فالحركة الأسيرة تستعد للمرة الثانية هذا العام لإطلاق إضرابها الجماعي، وفي المسجد الأقصى يُرتقب العدوان الأعتى لهذا العام في موسم الأعياد العبرية الذي يمتد على مدى 22 يوماً، وفي قطاع غزة ما تزال المقاومة تراكم القوة وتعزز أسباب توحيد الساحات والاشتباك دفاعاً عن الأقصى فيما الإعمار مخنوق والحصار يتعزز بمنع تصدير بضائع القطاع إلى الضفة الغربية؛ أما في الأرض المحتلة عام 1948 فلم يعد خافياً أن أجهزة الاحتلال تنفذ فيها سياسة اغتيالٍ ممنهجة تحت ستار الجريمة، أدت إلى قتل أكثر من 160 فلسطينياً بينهم أئمة ومرابطون في الأقصى وصحفيون وناشطون يشكلون طليعةً رائدةً أبعد ما تكون عن الجريمة، علاوة على التضييق المعيشي المستمر والتهميش والطرد تحت عنوان "يهودية الدولة".
كل هذه العناصر التي توشك أن تتقاطع اليوم، تأتي لتبني على مسار ناهض يجترح المستحيل وينحت الصخر في الضفة الغربية، تمكن من الوصول بحالة السلاح العلني المقاوم من مستوى الاستكشاف مع إعلان كتيبة مخيم جنين في 6-9-2021 إلى مرحلة التجدد والانتشار؛ ليصل هذا السلاح العلني المتحدي خلال عامين فقط إلى جبع ومخيم نور شمس والبلدة القديمة لنابلس وإلى مخيمي بلاطة وعسكر ومخيم عقبة جبر وطوباس، لتزيد تلك البؤر المسلحة المتحدية عن ثمانية وليفشل الاحتلال في اجتثاثها بل وفي الحد من انتشارها رغم أنه دفع أكثر من 23 كتيبة إلى الضفة الغربية.
رافق هذا الصعود لبؤر المقاومة المتحدية سياق متصاعد من العمليات التي كبدت المحتل 35 قتيلاً اعترف بهم حتى الآن وهو الرقم الأعلى منذ انتفاضة الأقصى، فأفقدت مستوطنيه أمنهم في مختلف أنحاء فلسطين.
يدرك الاحتلال أن الحل الوحيد المتاح أمامه هو تفادي التقاطع، بأن يفاوض الحركة الأسيرة بشكلٍ أساس لثنيها عن الإضراب، فإضرابٌ لمدة أسابيع تخوضه الحركة الأسيرة بدءاً من يوم غدٍ الخميس 14-9 إذا ما تقاطع مع عدوانٍ لمدة أسابيع ستشنه بالتأكيد جماعات الهيكل المتطرفة على المسجد الأقصى بدءاً من الأحد القادم 17-9؛ فإن هذان العنصران معاً كفيلان بالتصعيد نحو معركة شاملة غير مسبوقة، خصوصاً وأن مدة أسابيع من الإضراب والعدوان كفيلة بالتسخين لزخم شعبي متفجر بوجود عناصر الاحتقان القائمة.
لقد كاد الاحتلال يواجه تقاطعاً كهذا في شهر رمضان الماضي، حين أعلنت الحركة الأسيرة استعدادها للإضراب الشامل في مواجهة إجراءات بن جفير في اليوم الأول من رمضان، وهو إضراب كان سيتقاطع مع عدوان الفصح العبري في الأقصى وما صاحبه من خوفٍ هستيري للاحتلال من رمضان، فلم يكن أمام المحتل إلا أن يتراجع أمام الحركة الأسيرة وينزل عند شروطها، ومع ذلك فقد وقف على حافة الانفجار متعدد الجبهات بعد ذلك بأسبوعين في معركة الاعتكاف قبل أن يتراجع من جديد ويفرض عليه الاعتكاف عنوةً.
يدرك الاحتلال جيداً أن عناصر التفجير مستمرة؛ بل إنها تعاظمت منذ رمضان وحتى اليوم، وأن ما يفعله هو مناورات تكتيكية لمنع تقاطعها بشكل يؤدي إلى انفجار كبير متعدد الجبهات يفرض عليه تراجعاً غير مسبوق، وهو يفضل في سبيل ذلك أن يقدم تراجعاتٍ صغيرة ليبتفادى تراجعاً أكبر، لكن المسار واحد في الحالتين.
منذ بداية السنة سجل الاحتلال ستة تراجعات ملموسة متفاوتة في الحجم: إذ تراجع أمام إعلان الإضراب الأول للحركة الأسيرة مطلع رمضان، وفُرض عليه الاعتكاف خارج العشر الأواخر، واضطر لإغلاق باب الاقتحامات في العشر الأواخر رغم أنه كان يمهد له، وتراجع في معركته الكبرى في مخيم جنين، وسجل تراجعين محدودين أمام المقاومة في مخيم نور شمس وفي طوباس، ولم ينفعه الصوت العالي ولا التطبيع المتزايد في تفادي تلك التراجعات.
لقد تأسس في القدس مسار من الهبات المتتالية شكّل إلى جانب إضرابات الحركة الأسيرة وتجارب مواجهة الاستيطان مسار تغيير تمكن من استعادة وعي المقاومة وحضورها في الضفة الغربية، فشهد هذا المسار سبع مواجهاتٍ على مدى عشر سنوات بدءاً من عام 2013، متوسط الفارق بين المواجهة والأخرى 18 شهراً، في نسقٍ صاعد أخذ يستدعي عناصر القوة واحدة تلو الأخرى، حتى بتنا أمام خمسة عناصر قوة لم يحصل أن اجتمعت في مواجهة واحدة حتى الآن: العملية ذات الطابع الفردي، والاشتباك الجماهيري، والتفاعل الخارجي، وانخراط المقاومة من قطاع غزة، وبؤر المقاومة العلنية المتحدية في الضفة.
ما يشغل تفكير الاحتلال اليوم هو كيفية منع هذه العناصر من أن تجتمع معاً، خصوصاً وأن الحدود الشمالية مع لبنان تشهد تسخيناً غير مسبوق منذ نهاية حرب 2006، ما يعني أن مواجهة مثل إن حصلت فلن يخرج الكيان الصهيوني منها كما كان من قبل، لا بِرَدعه ولا قوته ولا ازدهاره الاقتصادي ولا بقدرته على جذب المهاجرين، ولا حتى بجاذبيته للمنبطحين العرب؛ وما ينبغي أن يشغل أذهاننا وأن نسدِّد نحوه وأن نعمل من أجله بكل قوة هو كيف يمكن لهذه العناصر أن تتقاطع اليوم أو بعد أشهر، وأن تتحقق هذه المواجهة الشاملة بانخراط مختلف عناصر القوة وعلى مختلف الجبهات، لأن التغيير الذي ستحمله مواجهة كهذه سيكون مركزياً وشاملاً، تمتد آثاره إلى أمتنا ككل ولا تقتصر على القدس وفلسطين وحدها.