نابلس - خاص قدس الإخبارية: في مخيم "عسكر" شرقي نابلس شمال الضفة الغربية ولدت صدقاتهما، فكبرا بين تلك الزقاق على معاناة اللجوء الفلسطيني وحياة المخيمات والتشرد، تعززت بمسجد المخيم وبين موائد القرآن، اتسعت قلوبهما لحب فلسطين، والثأر لحرائرها.
بصباحات الثورة أشرقا على ذاكرة أبناء شعبهم لتذكرهم أن هناكَ وطنًا يئن وجرحًا لم يندمل ودماء نازفة تضمد جراح الوطن، بإشراقة ممزوجة بطعم النصر موقعة بالرصاص.
عندما استصرخت حرة الأقصى المرابطة لارا معتوق بعد سحلها من قوات جيش الاحتلال وكشف جلبابها خلال أحداث شهدها المسجد الأقصى في رمضان، شاطرتها أحزانها رصاصات أبطال ملحمة "الثأر" لها وللأقصى معاذ المصري (36 عامًا) وحسن قطناني (35 عامًا) ، ليوقعا ثلاث قتيلات مستوطنات بينهم مجندتان بجيش الاحتلال في 7 إبريل/ نيسان الماضي بالقرب من مفترق "الحمرا" شمال الضفة، مؤكدين أن "العين بالعين".
بقايا رصاصات فارغة، ودماء متناثرة، وملابسٌ ارتدوها في يومهم الأخيرة تروي حكاية ملحمة بطولية خطها الشهيدان المصري وقطناني صباح 4 مايو/ أيار الجاري بعد شهر من المطاردة، وثالثهم الشهيد إبراهيم جبرين (45 عامًا) الذي فتح أبواب بيته في البلدة القديمة بمدينة نابلس ليتحصنا بداخله كما فتح أبوابه لمقاومين ومطاردين قبلهما.
كبر معاذ المصري وترعرع بين موائد القرآن وحلقات الذكر داخل مسجد مخيم عسكر شرقي مدينة نابلس، غرست فيه القيم النبيلة، ففي عامه التاسع استطاع حفظ خمسة عشر جزءً، وبعد خمس سنوات كانت جائزته الأولى من إدارة المسجد حصوله على رحلة عمرة.
تنبش "قدس" في ذاكرة ولدته لتبحث عن أحداث ميزت طفلها ولا زالت ملتصقة بها، تقول: "منذ سكني تلك المنطقة أرسلته للمسجد فالأطفال إن لم تشغلهم بشيء مفيد أشغلوكَ (..) عندما حصل على العمرة ترددت بإرساله لكننا أرسلناه، ثم واصل حفظ القرآن وحصل على رحلة عمرة ثلاث مرات أخرى".
مع صوت الآذان، كان معاذ يترك كل شيءٍ ويذهب للصلاة، تعلق قلبه في المسجد، وكان بارًا بوالديه، تعرض أمه صورة من البر، ومن طرف سماعة الهاتف، ينهش الحزن قلبها: "في فترة مرض والده كان يوميًا يرافقه للأطباء، الكل يشهد له بخلقه ودينه".
زعتر في المطر
تصفه أمه بأنه "محور البيت" لم يكن يرفضُ طلبًا لها حتى لو كانت السماء تسكب زخاتٍ غزيرة في ليلة باردة، تحتفظ أمه بمشهدٍ له، في ليلةٍ اشتهت زعترًا من رائحة البلاد، تستذكر بابتسامة بارزة: "لم أطلب منه أحضار الزعتر، لكنني كنت أتحدث عن ما اشتهيه، وهو يسكن بعيدًا عني، بعد لحظات طرق باب البيت ووجدته غارقًا بالمياه ومعه الزعتر دون أن أطلب، ولا زلت أذكر رده عندما عاتبته على قدومه بالمطر: "لو تطلبين عنيَّ بعطيكِ إياهم".
تخرج معاذ من تخصص تربية رياضية بجامعة النجاح الوطنية بنابلس، لكنه لم يدرس بتخصصه فعمل بشركة لأقمشة الكنب، وكان يتولى متابعة الشركة بشمال الضفة الغربية كجنين ونابلس وقلقيلية وطولكرم وطوباس لتحصيل الأموال من التجار، إضافة لتوزيع الأقمشة، وشقيقه كان يتولى متابعة محافظات جنوب الضفة كالخيل وبيت لحم.
مثل اعتداء جنود الاحتلال على المرابطة لارا معتوق "الشعرة التي قصمت ظهر البعير" كما تصفه أمه، تتباطأ صورة ردة فعله أمامها: "كان يتابع الأخبار جيدًا، طوال الوقت لم تذهب من ذهنه صورة الاعتداء على المرابطة، وسبقها تراكمات كثيرة تأثر بها".
قبل الحدث بأسبوع دعا المصري والدته وعائلته على مائدة الإفطار، تستحضر والدته التفاصيل وفي صوتها نبرة عزة وفخر: "كان عاديًا وهادئًا، وعندما أردنا العودة لمنزلنا اتصل بصديقه حسن قطناني الذي ساعده في إنزال والده (مبتور القدم بسبب مرض السكري) ويمشي على كرسي متحرك".
حلوى الثأر
مساء الليلة التي سبقت "الثأر" زار والديه ووعدهم أن يحضر لهم "حلوى"، تعلق أمه بالربط بين العملية ووعده بلهجة عامية: "هي جابلنا أحلى حلو بالثأر".
على مدار شهرٍ تلا العملية، انقطعت أخبار المصري وقطناني عن عائلاتهما، مدة كانت كفيلة بتهيئة العائلة لأي نبأ حتى الاستشهاد: "توقعنا استشهاده، وكانت أمنيته وفضلت الشهادة على أسره لأجل تعلقه بها".
كانت كنيته "أبو حذيفة" تزوج منذ تسع سنوات ولم يرزق بأولاد لكنه رفض الزواج بزوجةٍ ثانية، رحل وليس عليه دينًا لأحد ولو "شيقلاً واحدً"، يتحشرج صوت أمه بالبكاء تختم: "كان كل شيء يدونه على الهاتف، يخاف الله كثيرا".
وإن سكن المصري بالقرب من المخيم، فإن حسن قطناني (36 عامًا) نشأ في قلب مخيم عسكر، عايش حياة الأزقة والاكتظاظ داخل مخيمات اللاجئين عن كثب، فصقلت شخصيته على حب الوطن والعودة والثورة على المحتل.
في مخيمات تفصل بين بيوتها ممراتٌ وأزقة ضيقة، ترعرع حسن في أماكن تخلو من الملاعب أو المتنزهات الترفيهية إلا بالحارات البعيدة، فكان المسجدُ متنفسًا روحيًا لجأ إليه منذ طفولته للهروب من واقع حياتي صعب، باحثًا عن السكينة والطمأنينة "في الصلوات ودورات التلاوة والتجويد" فحفظ قرابة نصف القرآن الكريم.
"كان قوي الشخصية، ونشيطا في المساجد وفي حركة حماس، يحب الشهداء ويشارك بمسيرات تشييعهم، تزامنت دراسته الثانوية مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000" يتحرك في عيني شقيقه رضوان لـ "قدس" عن تلك البدايات: "في أحد الأيام شارك بمواجهات عند شارع "القدس" بحوارة ولم يزد عمره عن ثلاثة عشر عامًا ومرت رصاصة بجانب رأسه أطلقها جنود الاحتلال".
عرف حسن أنه نشيط في الحركة الطلابية لحماس، يشارك في الأنشطة الدعوية والوطنية وفي إحياء ذكرى النكبة والنكسة وإحراق المسجد الأقصى، بهدف "رفع الوعي العام للطبة بالقضايا الوطنية" يقول شقيقه.
وقطناني متزوج ولديه طفلان محمد (4 أعوام) وصهيب (3 أعوام) ويعمل بمصنع للإسفنج، ورغم صغر سنهما إلا أن والدهما كان يصطحبهما للمسجد معه يورثهما الدين ويزرع فيهما حب الصلاة والقرآن.
وبالرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة في المخيم لم يقصر "معهما في شراء الملابس والترفيه عنهم، يزرع فيهم حب الوطن ومواجهة الاحتلال وظلمه" والكلام لشقيقه الذي كان شاهدًا على هذا الحب: "حتى أنك لو سألتهم أن ينشدوا للوطن سينشدون لكَ، فوالدهم زرع فيهم حب الوطن".
ثمن حب فلسطين
في سبيل حبه لفلسطين، دفع قطناني ثمنًا لذلك فاعتقل لدى أجهزة أمن السلطة ثماني مرات على خلفية نشاطه في حماس، وتعرض خلالها للتعذيب وللقسوة، فيما اعتقله الاحتلال ثلاث مرات أعوام (2010، 2015، 2017) بلغت مجموعها عامين ونصف.
ينتفضُ الألم بين ثنايا صوت شقيقه: "رغم الظروف القاسية والاعتقالات إلا أنه ظل محافظًا على مساره الرئيس وجذوة الحالة وطنية، حسن ومعاذ لم يكونا خارقين فكانا عاديين لكنهما استطاعا تجاوزا هذه العادية، عاشا رحلة حياة تشترك مع الألاف من هذه النماذج، وفي لحظة الحزن بالقلب منحتهم الإقبال والريادة".
في آخر يومٍ له في منزله قبل "الثأر" صلى الفجر في المسجد وبقي حتى طلعوا الشمس، وعاد لمنزله يشرق الفرح على ملامحه بأنه كتب له أجر "حج وعمرة".
تقول زوجته التي أثقل الفقد قلبها لـ "قدس": "حسن كان زوجاً خلوقاً صادقا وطيبا وحنونا" ترثيه مستمدةً حروفها مما وقر في قلبها عنه: " نعم الزوج ونعم الأب كان يجلس يحفظهم القرآن ويحدثهم عن الرسول والقصص الدينية، وكان يفرحهم بالهدايا والألعاب ويلعب معهم ويأخذهم للمنتزه لإسعادهم، وكان يسعى لإسعادنا جميعا".
تسترجع المولى عز وجل في مصابها: "الحمد لله ربنا اكرمه في الجنة".
بعد عملية "الثأر" عاشت هي وأطفالها فترة خوف وتوتر فلم تعرف شيئا عنه طوال فترة المطاردة حتى أطلت صورته واسمه أثناء تصفحها تطبيق تيلجرام كانت تتحسس جميع الأخبار تخشى الوقوف عند لحظة النعي والفقد، "كنت أدعو الله أن يحفظه، فشاء الله أن يكون شهيدًا وهذا فخرًا وكرمًا سجدت لله حامدة مسترجعة في مصابي".
أمين السر و"المأوى"
في منزل بالبلدة القديمة بنابس استشهد معاذ المصري وحسن قطناني بعد اشتباكات مع قوات جيش الاحتلال التي اقتحمت المدينة وحاصرت المنزل، ووجد معهما الشهيد إبراهيم جبرين.
رغم بساطته كان الشهيد جبرين شديد السرية والكتمان فلجأ إليه المصري وقطناني يؤمنانه على سرهما الكبير الذي لم يعرفه حتى أقرب المقربين منهما.
عمل جبرين في بيع أوراق "الحمص الأخضر" التي تعرف في فلسطين بـ"الحاملة" أو في بيع الخردة مفضلًا هذه الأعمال عن مد يده للناس، فكان عفيفًا يرفض أن يمن عليه أحد بالمساعدة، وتعرض قبل عام لجلطة.
ومع ذلك لم تخلو حياته من المقاومة، فمع بداية انتفاضة الأقصى أصيب إصابة خطيرة في بطنه ومكث ثمانية أشهر للعلاج وسافر إلى إيران، ورغم تعافيه ظل أثر الإصابة يرافقه.
كرس جبرين حياته في رعاية أمه عندما اشتد عليها مرض "السكري المزمن" فسخر حياته كاملة لخدمتها يطعمها ويشربها ويسهر على تغيير الضمادات الطبية على تقرحات أصابتها من الجلوس بسبب المرض خاصة بمنطقة القدم فلم تستطع المشي والتحرك بشكل طبيعي.
كان ابن شقيقته ناصر شاهدًا على هذا البر لوالدته، يعرض لـ "قدس" صورة أخرى منه قائلاً: "كان حنونًا جدًا عليها، ويراعي مشاعرها ولم يشعرها أنها أصبحت عبئا عليه، إضافة لأنه كان حنونا مع اخوته وكان يعاملنا كصديق وليس خالاً فقط".
أصواتٌ رصاصات واشتباكات دوى صداها في مدينة نابلس صباح الرابع من مايو/ أيار الجاري، أيقظت ابن شقيقته الذي يسكن في حارة "المخفية" على بعد مسافة كيلومتر مربع من الحدث.
"كنت من أول الواصلين للبيت المكون من طابقين في أسفله بعد المدخل فناء (حوش) ومطبخ وغرفة استشهد فيها، ودرج يوصل للطابق العلوي الذي آوى فيه المقاومين واستشهدا فيه" يروي بقايا مشهد لم يفارق ذاكرته.
يحرك صوته بقية التفاصيل: "لم يتعرف المسعفون على خالي من شدة تمزق جسده، رأيته يرفع إصبع السبابة، كان المشهد مؤلمًا لأنني لم أجد أي ملامح لكني تعرفتُ عليه، ورأيتُ رأس كلبٍ فخخه الاحتلال وفجروه بالمنزل، ومن شدة الانفجارات تشوهت أرضية المنزل المتينة، والجدران مليئة بالشظايا والكثير من الرصاصات الفارغة".
فلا أصدق من انتماء يوقعه الثائرون برصاصهم، ولا من تحدٍ استشهدوا به بنص قرآني كان آخر ما قرأه أحدهم ووجدت صفحاته مفتوحة وعليها بقع دماء: "إن موعدهم الصبح، أليس الصبحُ بقريبٍ".