لم يكن حدث انفجار عبوة ناسفة على شارع 65 عند مفرق مجدو الواقعة شمال فلسطين المحتلة حدثاً عاديا، فمنذ اللحظات الأولى التي جمعت فيها أجهزة أمن الاحتلال تفاصيل الحدث كان واضحاً أنّ المشهد ليس مرتبطاً بحدث جنائي، ولا بمحاولة بدائية لصنع عبوة ناسفة على غرار محاولات مجموعات المقاومة بالضفة المحتلة.
أولى المعلومات التي كانت مُتاحة قبل رفع الحظر عن النشر، هي أنّ أجهزة أمن الاحتلال تعتبر أنّ اللغم الذي انفجر شبيه بألغام نصبها حزب الله ضد قوات الاحتلال قبل الانسحاب من الجنوب اللبناني، وهي عبوات قوية ومتطورة، وهذا ما عكسه حجم الضرر في السيارة التي كانت تبعد عن العبوة مسافة 30 مترا، والتي تضررت بشدة وسائقها بحالة الخطر الشديد.
حالة الغموض والاستنفار التي شغلت الرأي العام الصهيوني، وكل المتابعين والمختصين بالشأن العبري حول “حدث مجدو” وما تبعه من عمليات إغلاق للطرق ومداهمات نفّذتها أجهزة الأمن الصهيونية والجيش، دفعت إلى حالة كبيرة من التكهنات حول طبيعة الحدث، الذي أدّى إلى أن يُقصّر رئيس وزراء الاحتلال مدة زيارته لألمانيا، وانعقاد دائم للجان الأمن والاستخبارات في الكيان.
الإعلان الرسمي والعديد من النواقص
في بيان مشترك صدر عن جيش الاحتلال، وجهاز الأمن العام “الشاباك”، وشرطة الاحتلال، أعلن أنّ منفّذ تفجير لغم كبير عند مفترق مجدو، هو شخص تسلَّل من لبنان إلى “إسرائيل”، وبعد تفجير اللغم عاد إلى منطقة الحدود حاملاً حزاماً ناسفا، وهناك قتله الجيش “الإسرائيلي”، واحتجز جثته، في ما أُطلق سراح سائق مركبة من سكان الشمال، كان قد أقلّ اللبناني، بعد أن تبيّن أنّ لا علاقة له بالتفجير، مضيفاً أنّه “يتمّ فحص مدى تورّط منظمة “حزب الله” في التفجير”.
لم يقدّم البيان الرسمي الإجابات الشافية، بل زاد التساؤل حول العديد من النواقص الواردة فيه، فلا هوية المنفّذ واضحة، ولا ملابسات استشهاده، ولا مدة بقائه على الأراضي المحتلة، في ما لم تكن رواية أنّه كان متجهاً نحو الحدود مقنعة لأحد؟، مما فتح الباب العديد من التحليلات والتكهنات حول حدث غير اعتيادي.
التحليلات الإسرائيلية، وسياسة “استفزاز النوايا”
ضجّت مواقع وشبكات الإعلام العبري بسيل كبير من التحليلات للحدث، تضمّنت تكهناتٍ واستحضاراً للعديد من المعلومات وخلطاً للأوراق وتوزيعاً للاتهامات وتحميلاً للمسؤوليات، تركز جُلّها على اتهام حزب الله بدرجة أساسية، واتهامات لحركة حماس وبنيتها المُسلحة في لبنان بالمسؤولية عن الحدث، وصولاً للتكهن بمسؤولية مشتركة لـ”حماس” وحزب الله.
القناة (13) العبرية أشارت إلى أنّه على الرغم من عدم وجود أدلة قاطعة على أنّ حزب الله هو الذي يقف خلف “تفجير مجدو”، إلا أنّه في الوقت ذاته لا يمكن لأحد أن يعبر الحدود “بدون علمه ومباركته”. وتحدّثت القناة عن أنّ الأجهزة الأمنية لدى الاحتلال لا تعرف حتى الآن المسار الذي سلكه الشاب، خلال عبوره الحدود وحتى وصوله إلى مفترق مجدو وكيفية عبوره.
وأشارت إلى أنّ جيش الاحتلال لا يستبعد تماماً إمكانية استخدام الشاب نفقاً لضمان وصوله إلى داخل فلسطين المحتلة، مشيرةً إلى أنّ قيادة المنطقة الشمالية في جيش الاحتلال مطالبةً حالياً “بقلب كل حجر حتى تعرف المسار الذي سلكه الشاب، على اعتبار أنّ آخرين بإمكانهم سلوك هذا المسار لدخول “إسرائيل” في المستقبل”.
نقلت قناة “كان” العبرية عن مصدر عسكري قوله إنّ نجاح الشاب في عبور الحدود، “وقطعه مسافة كبيرة، وتحرّكه بحرية في المكان، تُعدّ فشلاً كبيرا”، مضيفاً أنّه “لو نجح الشاب اللبناني في العودة من دون أن يتمّ المساس به، لكان هذا يُعدّ إنجازاً كبيراً على صعيد الوعي بالنسبة للجهة التي أرسلته”، وأشارت القناة إلى أنّ كل التقديرات تُفيد بأنّ “حزب الله” هو الذي يقف وراء التفجير، من منطلق أنّ منطقة الحدود تخضع لسيطرته المطلقة، إلى جانب أنّ العبوة التي استُخدمت في التفجير “نوعية”، فضلاً عن أنّ طريقة استخدامها والحزام الناسف والأسلحة التي كانت بحوزته، تدل على مسؤولية حزب الله. وأضافت: “على الرغم من أنّه لا يمكن استثناء أن تكون قاعدة “حماس” في لبنان هي المسؤولة عن التفجير، إلا أنّ كل الأصابع تشير إلى حزب الله”.
بقراءة سريعة، يتّضح أنّ غالب وسائل الإعلام العبرية تتمحور تحليلاتها حول محددات معينة، ترتكز بالأساس على فرضية اتهام حزب الله وحماس، وهي تحليلات لا تستند إلى معلومات استخباراتية، أو دلائل تمتلكها أجهزة أمن العدو، بل من فرضية سيطرة حزب الله على الحدود، وتنامي قوة حماس في الآونة الأخيرة في لبنان، في ما لم تنهِ أجهزة أمن الاحتلال التحقيقات ولم تتوصل لإجابات واضحة حول خلفية المنفّذ أو حتى حسم هويته بشكل واضح، والأهم هو كيف استطاع الوصول إلى الداخل المحتل، مما يفتح التكهنات حول الهدف من التحليلات المتسارعة في الإعلام العبري، وإن كانت مدفوعة بأهداف استخباراتية تهدف لاستفزاز الجهة المنفّذة أو دفع كلاً من حماس وحزب الله للبحث في خلفية الحدث (إن لم يكن ضمن مسؤوليتهم)، وهو ما سيخلق مادة لجمع معلومات ذهبية لأجهزة استخبارات العدو
إشارات سابقة حول تطور النشاط المقاوم والتعاون الاستراتيجي
صحيح أنّ “عملية مجدو” وتبعاتها تُعدّ حدثاً فارقاً ونوعيا، إلا أنّه ليس حدثاً منفصلاً عن جملة من التطورات التي تجري في ميادين المقاومة في شمال فلسطين المحتلة، بشكل خاص في كل من لبنان وسوريا، مضافاً إليه حالة تطوير البنى التحتية والتوسع في نشاط فصائل وقوى المقاومة الفلسطينية بتعاون مع حزب الله والحرس الثوري الإيراني.
شهدت جولات تصعيد سابقة ما بين المقاومة في قطاع غزة والاحتلال، عمليات إطلاق صواريخ من جنوب لبنان باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، إضافة لعملية مشابهة حدثت من الأراضي السورية باتجاه مستوطنات الشمال، واتهمت حكومة الاحتلال، في حينه، فصائل فلسطينية بالمسؤولية عن حوادث الإطلاق، وتناولت باستفاضة التطور النوعي والتحديث في بنى وقدرات فصائل المقاومة الفلسطينية.
مضافاً إلى الحوادث السابقة، شهدت الحدود مع الجولان السوري المحتل عدة حوادث استهدف فيها الاحتلال مجموعات محلية اتهمها بالصلة مع حزب الله، ونفّذ عدة غارات ادّعى فيها أنّها تستهدف محاولات إنشاء بنية تحية لحزب الله في المنطقة بغرض مهاجمة أهداف “إسرائيلية”، وفي هذا الإطار سبق أن نفّذ عدة محاولات اغتيال استهدفت قيادات مركزية وميدانية في المقاومة كان أبرزها: الشهيد سمير القنطار والشهيد جهاد مغنية، اللذين اتهمهما الاحتلال بالمسؤولية عن تجنيد وتدريب وتأهيل خلايا للمقاومة لتنشطَ في الجولان السوري المحتل.
في الثالث من آب/أغسطس 2020 أعلن جيش الاحتلال عن استهدافه لمجموعة من المقاومين كانت تعمل على زرع عبوات ناسفة قرب الجدار الحدودي مع الجولان السوري المحتل، وتضمّن الإعلان في حينه عن رصد الاحتلال لـ”نشاط فصائل مختلفة في الأراضي السورية”.
في الـ27 من كانون الثاني/يناير 2023، أعلن جيش الاحتلال اعتقال شخصين بزعم “اجتيازهما الحدود من الأراضي السورية إلى الأراضي المحتلة”، وادّعى أنّ أحدهما وهو مواطن سوري، ناشط بما يُسمّيه “ملف الجولان”، كان يعمل على “جمع المعلومات الاستخباراتية حول قوات الجيش في المنطقة الحدودية” لغرض تنفيذ أنشطة مقاومة مستقبلية للبنية التحتية المذكورة.
إلى جانب الحوادث المذكورة، شهدت المنطقة الحدودية بين لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة، وبين الجولان والأراضي الفلسطينية المحتلة مجموعة كبيرة من حوادث التسلل الناجحة من فوق الأرض، والتي ربما تكون قد حفّزت التفكير المقاوم حول إمكانية استثمار الثغرات الأمنية في الجدار الحدودي لتمرير مقاومين عبر الحدود، ضمن استراتيجية توسيع الاشتباك والمواجهة مع الاحتلال.
في وقت سابق، وخلال مقابلة متلفزة، أعلن قيادي في المقاومة الفلسطينية عن وجود غرفة عمليات مشتركة للمقاومة الفلسطينية مع حزب الله والحرس الثوري الإيراني، تتولى مهمة تعزيز التنسيق والتعاون وتبادل المعلومات الاستخباراتية والخبرات العملياتية، وتعزيز التنسيق والتكامل في الفعل، وقد كان لها دور مهم ومركزي في إطار دعم وتعزيز معركة “سيف القدس” وأسندت المقاومة بالفعل والجهد الاستخباراتي.
في ما سبق، أعلن السيد حسن نصر الله، رداً على تهديدات إسرائيلية باستهداف قادة المقاومة الفلسطينية في الخارج، أنّ أي استهداف على الأراضي اللبنانية سيرد عليه حزب الله بقوة، في ما التقى بكل من الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي ونائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس على التوالي خلال اليومين المنصرمين، تأكيداً على وحدة قوى المقاومة وتكاملها في فلسطين ولبنان والمنطقة في مواجهة العدوان الصهيوني، في إشارات مستمرة حول حجم وعمق التعاون.
اغتيال في سوريا لقائد بالمقاومة الفلسطينية وتساؤلات برسم الإجابة
تبقى الأبواب مفتوحة على التكهنات حول حدث “مجدو” والمسؤولية عنه، في ما يبرز في الحدث بشكل ساخن عملية اغتيال نُفّذت في دمشق استُشهد فيها القيادي في سرايا القدس “علي الأسود” إثر استهدافه بالرصاص، في عملية تحمل بصمات الموساد الصهيوني وفق بيان “السرايا”.
حيث سارع رئيس وزراء الاحتلال "بنيامين نتنياهو" الى التلميح شبه المحسوم حول حادثة الاغتيال، وأكملت وسائل الاعلام العبرية المهمة، بالربط الضمني ما بين اغتيال المهندس علي الأسود في دمشق، وما بين ملاحقة المسؤولين عن “حادثة مجدو”، وهو ما يؤكد أنّ الإعلام الصهيوني وجّه كل الأنظار إلى لبنان بينما سعى لتوجيه ضربة أمنية في سوريا
يفتح الاغتيال وباقي التفاصيل التي مازالت مستترة حول العملية، الأبواب أمام العديد من التساؤلات التي تبقى بلا إجابات، أهمها، هل تمكّن المنفّذ من العبور وحيدا؟ أم برفقة مجموعة؟، ما سبب اختياره لـ”مجدو” كهدف؟، علماً أنّه يبعد عن الحدود ما يقارب الـ60 إلى 70 كيلو مترا، ولماذا؟، وهل للأمر علاقة بقربها من جنين؟، وهل هذه هي محاولة التسلل الأولى الناجحة؟ أم سبقتها محاولات أخرى؟، وهل تأتي كجزء من سياق عملياتي جديد لتفعيل ساحة جديدة من ساحات الاشتباك والمواجهة؟، وهل يأتي توقيتها قبل أيام من حلول شهر رمضان كإشارة لجبهة جديدة ستكون حاضرة في أي معركة قادمة مع الاحتلال خلال الموسم المتفجر الذي تُقبل عليه المنطقة؟، وهل المسؤول عن الفعل هو فلسطيني، أم لبناني؟، أم يأتي في إطار أوسع من الشراكة الاستراتيجية بين قوى محور المقاومة؟.
كلها تساؤلات ستبقى برسم الإجابة حول حدث، قد يعني تحولاً نوعياً جديداً في ساحة الصراع والمواجهة المستمرة مع الاحتلال الذي يعاني من أشد مراحله تفككاً وضعفا، في وقت يتصاعد فيه الفعل المقاوم على كل الأراضي الفلسطينية المحتلة مبشّراً بمرحلة جديدة من مراحل النضال والمواجهة مع الاحتلال.