فلسطين المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: في 18 مايو 2022، وخلال اجتماعه مع قائد القيادة المركزية الأمريكية مايكل كوريلا، أكد رئيس أركان جيش الاحتلال أفيف كوخافي أن التهديد الذي يواجهه الاحتلال الإسرائيلي في هذه المرحلة يمتد من جنين في الضفة الغربية إلى إيران. حمل هذا التصريح إشارة واضحة على حجم المخاوف الإسرائيلية من تنامي المقاومة الفلسطينية في الضفة، والتي أصبحت في السنة الأخيرة التحدي الأهم الذي يتعامل معه الاحتلال بمختلف أذرعه الاستخباراتية والعسكرية.
في غضون ذلك، تختلف التقييمات الإسرائيلية لحجم الخطر القادم والقائم في الضفة الغربية، إذ يميل جيش الاحتلال إلى توصيف ما يجري على أنه تصعيد مرحلي، ويحاول من خلال البيانات التي ينشرها حول عدد الشهداء والمعتقلين والاقتحامات التأكيد على أنه استطاع استنزاف الحالة إلى حد ما. بينما يرفض جهاز الشاباك هذا التوصيف، ويتعامل مع ما يجري على أنه انتفاضة من نوع جديد تختلف عن سابقاتها، ويرجع عدم قدرة الأطراف الأخرى على تحديد ماهيتها إلى عوامل ثقافية وتكنولوجية.
في ضوء هذا الاختلاف في التوصيف بين أذرع الاحتلال العسكرية والاستخباراتية، تظهر حجج وتفسير تبرر كل وصف أو مصطلح. الجيش يعتبر أن المقاومة المسلحة بطابعها شبه المنظم لا زالت محصورة في نابلس وجنين، والانخراط فيها محصور على فئات شبابية لم تتعرض لـ"كي الذاكرة" أي أنها لم تتعرض للاعتقال أو لمشاهد الدمار والاجتياحات في الانتفاضة السابقة. في المقابل يرى الشاباك أن هذه هي ميزة الانتفاضة الجديدة، والتي لا يبدو أنها تعتمد على التعبئة التنظيمية المباشرة التي تحتاج لكادر حركي، وإنما يمكن للتعبئة الشبكية أن تسد هذا الفراغ إذا توفرت الموارد اللازمة بشكل مباشر وبدون ممرات الماضي التي كان فيها دور الكادر التنظيمي مهما وجوهريا.
إذن، يتضح مما سبق أن انخراط الكادر التنظيمي التقليدي في حالة المقاومة بالضفة الغربية، هو واحد من المرتكزات التي يدور حولها السجال في توصيف ما يجري بالنسبة للإسرائيليين. قبل أيام نشر موقع والا العبري مقابلة مع مسؤول عسكري لم يكشف عن هويته، قال فيها إن التحدي الأخطر والأكبر هو انضمام الأسرى المحررين من ذوي الخبرة الأمنية والاعتقالية في ما يجري، لأن ذلك - من وجهة نظره - سينقل الحالة إلى مراحل متقدمة أكثر من حيث طبيعة العمليات وقوتها وتأثيرها وأساليبها.
وإذا كان الإسرائيليون بالفعل منشغلون بهذه المسألة، فإن المفترض أن يناقشها الفلسطينيون باهتمام، على مستوى الفصائل والنخب ووسائل الإعلام والمحللين. والمدخل لهذه المناقشة، هو عمل مقارنة بين الانتفاضة الثانية وما يجري الآن. تكشف مقاطع الفيديو النادرة للمطاردين والمقاومين في الانتفاضة الثانية، وأسماء الشهداء والمعتقلين، أن معتقلي ومقاتلي الانتفاضة الأولى هم الطرف الأهم في إدارة الثانية، وكان لهم دور بارز في تطوير الحالة وتصاعدها، وقد ساهموا بشكل أو بآخر في إعادة تشكيل الأذرع العسكرية لفصائلهم واستقطاب كوادر جديدة للعمل المسلح.
تجربة الاحتلال مع معتقلي الانتفاضة الأولى ودورهم في الثانية، دفعه للتعامل باستراتيجية ثابتة مع الأسرى المحررين تقوم على مبدأ العزل عن المحيط بالاعتقال كلما تصاعدت الأوضاع. ولذلك، في كل الهبات التي حدثت بعد انتهاء الانتفاضة الثانية، كانت حملات الاعتقال هي السمة البارزة الثابتة، والهدف منها محاصرة الهبة الجماهيرية ومنع تنظيمها وبالتالي تطويرها، وكانت هذه الحملات تستهدف ثلاث مستويات: القيادة السياسية أو الجماهيرية، القيادات المحلية، الكوادر التي تقدر مخابرات الاحتلال أنها يمكن أن تنخرط في الحالة. بهذه الاستراتيجية، يصبح التنظيم أو الفصيل نفسه حالة غير منظمة، وبالتالي فإن دوره في تنظيم الحالة الأوسع والأشمل يصبح شيئا من المعجزة.
من ناحية أخرى، فإن الكوادر التنظيمية التقليدية هي أهداف سهلة مباشرة للمراقبة الاستخباراتية، ولذلك فإن جوهر بناء التصور الاستخباراتي الإسرائيلي حول ما يجري وقد يجري في الضفة، كان لسنوات، يجمع بين مستويين جمع وتحليل معلومات: الفصيل كجماعة سياسية لديها تصورات واستراتيجيات وتكتيكات متغيرة وثابتة. الفرد المؤثر في الفصيل كجهة مهمتها ترجمة توجهات الجماعة إلى سلوك عملي. وبناء على ذلك، يمكن تفسير الفشل الإسرائيلي في التنبؤ لمجموعة من الهبات الشعبية وموجات العمليات، والتي كان الإسرائيليون يقولون عنها إنها "اجتازت الرادار".
لكن ما سبق هو أقرب إلى مراجعة تاريخية ونظرية لدور الكوادر التنظيمية التقليدية، وقد لا يتناسب مع الحالة الحالية والعكس الصحيح. لهذا، من الضروري مناقشة الحالة الراهنة بمعطياتها ومن ثم إدخال إجراء تفاعل بينها وبين فكرة انخراط الكوادر التنظيمية التقليدية.
في جنين، والتي كانت الشرارة الأولى لبدء الحالة الحالية من المقاومة المسلحة، كانت النواة الأساسية والمبادرة الأولية، فردية واعتمدت على توجهات مجموعة من الشبان، قرروا تفعيل حالة الاشتباك. هؤلاء وإن كان بعضهم متأثر أو ينتمي إلى فصيل معين، إلا أنهم عملوا بطبيعة تجاوزت المستويات الثلاث التي أُشير إليها بأنها جوهر الاستهداف الإسرائيلي لأي هبة أو حالة مقاومة. وظلت الحالة بهذه الطبيعة غير التنظيمية عدة أشهر، وساهمت في النهاية في استقطاب الكادر التنظيمي لها، والحصول على الرعاية التنظيمية التقليدية، ومع ذلك فإن حجم انخراط هذا الكادر في الطبيعة العسكرية للحالة - حتى اللحظة - يبدو ضئيلا نسبيا مقارنة مع الانتفاضة الثانية.
في نابلس، كان الأمر في بداياته لا يختلف عن جنين. مجموعة من الشبان قرروا أن يشكلوا خلية إطلاق نار بموارد ذاتية، تطورت لاحقا إلى حالة شبه منظمة من المقاومة المسلحة خاصة بعد تشكيل مجموعة عرين الأسود التي شكلت نموذجا جديدا أبرز ملامحه انضواء مقاتلين من كل الفصائل في إطارها. وبعيدا عن خصوصية نابلس التي دفعت بتشكيل مجموعة عابرة للفصائل، إلا أن هذا الأمر يرتبط كذلك بعدم وجود قيادة وكادر تنظيمي مستعد لقيادة حالات ومجموعات ذات طابع فصائلي مع استثناءات نادرة كما في حالة كتيبة نابلس التي رغم أن نشاطها سبق عرين الأسود إلا أنها لم تستطع التمدد أكثر في بيئة نابلس كما في حالة جنين لأسباب عدة من بينها عزل الكادر التنظيمي التقليدي.
الحالتان السابقتان والوحيدتان، نابلس وجنين، أظهرتا مع مرور الوقت ضرورة وجود تمثيل حقيقي للكادر التنظيمي في مجموعات المقاومة. أحد الأسباب التي تدفع لهذا التوجه، هو أن الاحتلال الإسرائيلي يعتمد نسبيا على ذات الثغرات الأمنية في مواجهة المقاومين، والكادر التقليدي صاحب التجربة الأمنية والاعتقال لديه مخزون مهم من التجربة والذاكرة يستطيع من خلاله إغناء الحالة وتقليل المخاطر وإقناع المقاومين في هذه المجموعات بجدوى أو عدم جدوى بعض التفاصيل والمسلكيات التي أصبحت قاتلة ومؤثرة. إن تجربة هؤلاء، تمنحهم سلطة تأثير على المقاومين الأقل تجربة، وهذا من شأنه أن يعزز حالة المقاومة الموجودة ويطورها.
السبب الآخر الذي يؤكد على الضرورة الملحة لانخراط كادر تنظيمي تقليدي في الحالة الحالية، هو عدم تمددها خارج نابلس وجنين إلى محافظات أخرى. يبدو واضحا أن المبادرات الفردية انتهت عند حد معين، ولذلك فإن المراهنة إلى القدر لتوسيع دائرة المواجهة، لم يعد منطقا سليما إذا كان توسع الحالة هدفا لفصائل المقاومة، وبالتالي فإن المحافظات الأخرى أصبحت بحاجة ملحة لهذا الكادر الذي يأخذ زمام المبادرة هذه المرة. ولتجاوز المحاذير الأمنية والسياسية، فإن هذا الكادر قد يتوجب عليه تغيير شكل مبادرته، أي منحها الطابع الفردي في البداية، بمعنى استعارة البدايات من جنين ونابلس، ومن ثم في مرحلة لاحقة منحها طابعا مركزيا وحتى فصائليا إن توفرت البيئة المناسبة لذلك.
تبدو هذه الأفكار مثالية، لكن تطبيقها ممكن وواقعي، فمن كان يعتقد أن مجموعات كبيرة من المقاومة ستشكل عبئا كبيرا على أمن الاحتلال في 2022. لكن ذلك يحتاج إلى تغيير في خطاب الفصائل، بما يضمن منح كوادرها هامش المبادرة بعيدا وبدون اتصال مركزي فيها، مع التأكيد الدائم على أنها جاهزة على دعم كل المبادرات في هذا السياق على اختلاف خلفيات القائمين عليها. في الأسابيع الأخيرة مثلا، هناك تصاعد في عمليات إطلاق النار في بلدة بيت أمر شمال الخليل، والافتراض الأساسي أن يلفت هذا الفصائل الفلسطينية، التي يتوجب عليها دعم الحالة هناك عبر كوادر تنظيمية ولكن بما تقتضيه الحاجة، أي عدم تفعيل كل الكوادر التنظيمية للحفاظ على رصيد احتياطي، على أن تقوم الكوادر النشطة بقيادة مبادرات عابرة للفصائل وتمويلها وتثبيتها كأمر واقع ثم المساهمة في تمددها، كما في حالة مجموعات جبع التي قادها كادر تنظيمي، وتحولت لحالة ناجحة من حيث العمل ونجاح للحالة ككل كحالة توسع.
تطرح محاولة الفهم والاستنتاج السابقة، مسؤوليات متعددة، فالفصيل أو التنظيم يشتمل على أربع مكونات: القيادة، الموارد، الكوادر، الأفكار.. في حالة الضفة الغربية، تبدو الأفكار عنصرا بالغ الأهمية، بسبب بيئة العمل المعقدة، والتي تحتاج دراسة من الواقع، وهو ما يسمى في عالم البحث المنهج الاستقرائي، أي تفكيك الواقع إلى أجزاء، وهذا المنهج يعتمد نجاحه في هذه الحالة على معايشة الواقع، ومن ثم تجميع الصورة وترتيبها بما يراعي التعقيدات الموجودة والتي يدركها من يعايشها أكثر من غيره وصولا للخروج باستنتاجات وتقديم الحلول.
إن مركزية الأفكار، تعني مركزية الكادر الموجود في بيئة العمل، إذ أنه ورغم أهمية القيادة التي هي جزء من مصنع الأفكار، لكنها ليست الأساس خاصة في الحالة الفلسطينية، لأن قيادة الفصائل وتحديدا المقاومة تتواجد في الخارج وهذا يحجب عنها متغيرات وتفاصيل دقيقة تتعلق بالواقع حتى ولو كانت تحاول مواكبته بشكل دقيق، وبالتالي فإن مهمة الكادر على الأرض أن يساهم في بناء الجزء الأكبر من المدخلات التي تساهم في إنتاج الفكرة أو ابتكار الحل.
الموارد هي عامل مهم في سياق تطوير الحالة، لكن السؤال الذي يطرح دائما كيف يمكن للموارد أن تصبح متاحة في بيئة العمل. هذا يعيدنا أيضا إلى مركزية الأفكار ومركزية الكادر الموجود في بيئة العمل، فالمنطق هنا ليس في توفر الموارد من حيث المبدأ، وإنما في كيفية توفيرها. هل تمضي القيادة في طرقها التقليدية رغم المخاطر التي أصبحت تتهددها؟ أم يصبح الكادر أهم ما في المعادلة فيدرس بيئته ويقدم الحلول؟!. يعيدنا هذا السؤال الإشكالي لمبادرة الكادر ليس فقط في العمل، وإنما بالأفكار، بحيث يصبح العنصر المركزي في المعادلة، إلا إذا اختار أقصر الطرق: لنبقى في الظلام حتى يأذن الله بطرق النور. يشبه هذا المثل قول أحد مفكري الصهيونية الدينية، حينما قال: إن الله لا يطعم الجائع، لكنه خلق له عقلا ليفكر به كي يستفيد مما هو متاح، بغير ذلك، سيبقى الجائع يشكو الحلول حتى يموت.. مثل هذه المقولات هي التي حولت الصهيونية من فكرة إلى دولة.