أكثر من عام مرّ ولم تهدأ الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي القلب منها الضفة الغربية، التي انتقلت تدريجياً منذ ما يقارب العام ونيّف من حيّز التحييد والسلبية، إلى حيّز الفعل المستمر والمتصاعد للمقاومة والمواجهة مع الاحتلال، في مشهد بدأ من جنين ولم يتوقف عندها، ولم يعد أيضاً محصوراً في شمال الضفة.
لم يتوقع الاحتلال ولا السلطة الفلسطينية أن تتدحرج الأوضاع في الضفة المحتلة بهذا الشكل، وبالرغم من أنّ جهاز الأمن العام الصهيوني (الشاباك) حذّر بالعام 2016 عبر رئيسه، في حينه، نداف أرغمان، من تفجّر الأوضاع في الضفة نتيجة حالة الإحتقان المتصاعد، غير أنّ التقديرات السياسية في كيان الاحتلال في ذلك الوقت ذهبت باتجاه اعتبار أنّ جهود “الإحباط” لأجهزة أمن وجيش الاحتلال قد نجحت في إنهاء موجة العمليات التي بلغت ذروتها مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2015.
اليوم، وبعد أكثر من 7 سنوات على تحذيرات رئيس الشاباك، وأيضاً على أبواب مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2022، تتجه المنطقة إلى المزيد من التصعيد، ولكن الكثير تغيّر في 7 سنوات، على كل الأصعدة، بالمشهدين الفلسطيني والصهيوني، مما يجعل احتمالات نجاح جهود الإحتواء والإحباط والردع الذي يسعى الاحتلال لتثبيتها في الضفة الغربية والقدس، ضئيلة جدا، مقارنة بمؤشرات التصعيد المتدحرجة.
وفي السبع سنوات، كان المشهد في المنطقة عرضة لمجموعة كبيرة من المتغيرات التي ألقت بظلالها على تطور الأوضاع بالأراضي الفلسطينية المحتلة، فهي سنوات شهدت تصاعد الإستيطان وصفقة القرن الأمريكية والإعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لكيان الاحتلال، وخلال آخر 4 سنوات نظّم الكيان الصهيوني 4 إنتخابات وذاهب للخامسة في أزمة سياسة مستمرة، وشهد جولات تصعيد عسكرية مع قطاع غزة أظهرت فيها المقاومة تطوراً ملموساً في قدراتها كان أبرزها معركة سيف القدس بالعام 2021، إضافة إلى أنّها سنوات شهدت تصاعد التهويد في القدس ومحاولات التهجير لأهلها وبشكل خاص في الشيخ جرّاح وسلوان اللذين أصبحا مثالاً في الصمود والمواجهة، وفيها أيضاً تصدّى أهالي النقب لمحاولات الإقتلاع والتهجير وأجبروا الحكومة الصهيونية على إيقاف مخططاتها التصعيدية في المنطقة وغيرها من الأحداث المزدحمة التي ترافقت مع تراجع مستمر في نشاط وفعل وتأثير السلطة الفلسطينية والقيادة الرسمية التي تهيمن على منظمة التحرير، والتي باتت بلا أفق سياسي حقيقي خصوصاً بعد سقوط كل رهاناتها على الإدارة الأمريكية الجديدة والتغيّر في المشهد السياسي الصهيوني بحثاً عن حكومة تقبل التفاوض معها، وسط غضب شعبي كبير من سلوك السلطة خصوصاً بعد إلغاء الإنتخابات واغتيال المعارض الفلسطيني نزار بنات، إضافة لاستعار معركة خلافة الرئيس بين أقطاب السلطة.
في زيارته لمصر أواخر آب/ أغسطس الماضي، وبعد انتهاء جولة الإشتباك الأخيرة مع قطاع غزة، أكد رئيس جهاز (الشاباك) الصهيوني رونين بار أنّ عمليات “جز العشب” (مصطلح تطلقه المستويات الأمنية على عمليات الإعتقال والإغتيال للمقاومين) في الضفة المحتلة ستستمر على قدم وساق إستعداداً لموسم الأعياد، حاملاً رسالة للوسيط المصري مفادها أنّ جيش الاحتلال سيذهب إلى نشاط “استباقي” خصوصاً في شمال الضفة، نابلس وجنين.
لم تتوقف عملية الاحتلال العسكرية- الأمنية التي تستهدف إجهاض جهود المقاومة المسلحة المتنامية في الضفة المحتلة والتي تحمل إسم (كاسر الأمواج) وينسب جيش الاحتلال عمليات الإعتقال اليومية التي ينفّذها في الضفة المحتلة إلى العملية المذكورة، في ما أعلن رئيس (الشاباك) “بار” أنّه منذ مطلع السنة الحالية 2022 تمّ إحباط أكثر من 130 عملية مسلحة في المناطق المحتلة، على خلفية “قومية”، مقارنةً بـ98 عملية في الفترة ذاتها من سنة 2021، و19 عملية فقط في الأشهر الثمانية الأولى من سنة 2020، مضيفاً أنّ جيش الاحتلال قد اعتقل أكثر من 2000 مطلوب منذ بداية السنة الحالية.
في واقع الأمر يُسابق الاحتلال الزمن من أجل إجهاض الوقائع الجديدة التي تتشكّل في الميدان وتتصاعد وتتوسع بقعتها وطبيعتها شيئاً فشيئا، فأجهزة الاحتلال الأمنية تعي تماماً أنّ الفترة القادمة “حُبلى” بالعديد من المحطات التي تدفع الأوضاع إلى تصعيد غير مسبوق، خصوصاً وأنّ المشهد مليء بالمحفّزات التي تعزز احتمالات التصعيد وأبرزها:
الأعياد الدينية الصهيونية واقتحامات المسجد الأقصى
بحلول نهاية شهر أيلول/ سبتمبر الحالي وبداية شهر تشرين الأول/ أكتوبر المقبل يدخل موسم الأعياد الدينية اليهودية الذي يعج بالأنشطة الإستفزازية من الصهاينة المتطرفين، ويستهدف بقلبها تعزيز إجراءات التهويد للقدس والمسجد الأقصى، فمنذ أيام بدأت منظمات “الهيكل” المزعوم حشد أنصارها لأوسع اقتحام للمسجد الأقصى نهاية الشهر الجاري في ما يُسمّى برأس السنة العبرية، وأعلنت عن توفر حافلات تقلّ المستوطنين من كافة المستوطنات والمدن المحتلة، تحضيراً لمجموعة من الأنشطة التهويدية واقتحام “الأقصى” المقرّر يومي الإثنين والثلاثاء 26 و27/9/2022، والذي يشمل: النفخ في البوق وذبح القرابين والرقص واستباحة ساحات المسجد.
يليه في الـ5 من أكتوبر القادم “عيد الغفران” العبري، والذي يستعد فيه المستوطنون لاقتحام المسجد الأقصى بأعداد كبيرة وأداء طقوس تلمودية تشمل أيضاً النفخ بالبوق والرقص في الكنيس القريب من المدرسة التنكزية في الرواق الغربي بالأقصى.
كما ستشهد الأيام من 10-17/ 10/2022 ما يُسمّى “عيد العُرُش” التوراتي، حيث يحرص المستوطنون خلاله على إدخال القرابين النباتية إلى “الأقصى”، وهي أغصان الصفصاف وسعف النخيل وثمار الحمضيات وغيرها.
تستهدف جماعات الهيكل واليمين الديني المتطرف الذي يتقدّمه أعضاء في الكنيست في كيان الاحتلال، القدس والمسجد الأقصى في أنشطتهم التهويدية في الأعياد والمناسبات الدينية، وهو ما يعيد القدس إلى قلب العاصفة، والتي يعي كل الأطراف أنّها دائماً ما تمثّل العنوان الأكثر تفجّراً في المشهد الفلسطيني، حيث يُجمع كل الفلسطينيين على أهمية القدس والدفاع عنها، وإنّ ترافُق هذه الفعاليات الإستفزازية في الأعياد اليهودية مع تصاعد حالة المقاومة الفلسطينية في الضفة المحتلة، سيعني بالتأكيد المزيد من الفعل المقاوم، والمزيد من المواجهة وتصاعد العمليات الفدائية، وهو ما رصدته وأعلنت عنه أجهزة الأمن الصهيونية التي تتحدث يومياً عن إنذارات ساخنة بشكل غير مسبوق حول نشاط مقاوم متوقع أن يضرب العمق الصهيوني.
الحكومة الإنتقالية وإنتخابات الكنيست في كيان الاحتلال
يدخل الكيان، بالتزامن مع دخول فترة الأعياد المرحلة الحرجة من الدعاية الإنتخابية وقرب بدء عملية التصويت مع مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، بوجود حكومة يرأسها يائير لابيد الذي يسابق الزمن من أجل تعويض نقص يريد أن يؤكد للجمهور الصهيوني أنّه قادر على ملئه، وهو غياب الخلفية الأمنية والعسكرية له بخلاف منافسيه، وبالتالي فهو يعمل على اتجاهين محددين: الأول، عدم محاولة كبح جماح المتدينين الصهاينة المتطرفين وفعالياتهم التهويدية لتجنُّب خسارة الجمهور الموالي لهم، والأمر سيان مع وزير دفاعه بيني غانتس الذي يسعى لاسترضاء جمهور اليمين والوسط على حد سواء.
أما الإتجاه الثاني الذي تسلكه هذه الحكومة الإنتقالية، هو حشد رصيد الدماء والقتل بين الفلسطينيين لاستخدامه كمادة في الدعاية الإنتخابية، وبشكل خاص “لابيد” الذي يريد أن يثبت أنّه ليس أقل إجراماً من أي رئيس وزراء آخر، وهذا المسلسل الذي بدأه بمغامرة العدوان على غزة، وتصعيد عمليات الإغتيالات والملاحقة في الضفة المحتلة، سيعني أنّ الأيام القادمة ستحمل المزيد من الدماء الفلسطينية وتصاعداً في فعل آلة البطش والإجرام الصهيونية.
هذا الوضع، الذي يتنافس فيه قادة الاحتلال في إظهار مدى إجرامهم ودمويتهم في استهداف الفلسطينيين ويسعون لتوظيف الدماء الفلسطينية في معادلة حشد الأصوات والإنتخابات والذي يترافق مع تزايد نشاط جماعات الهيكل واليمين الديني، سيحمل في طياته المزيد من بوادر التصعيد والإنفجار.
تراجع دور السلطة الفلسطينية
مع تصاعد حالة المقاومة وبشكل خاص في شمال الضفة الغربية، تراجع فعل وأداء أجهزة السلطة الأمنية التي من الواضح أنّها تتجنب الدخول في مواجهة مباشرة مع المقاومين لعدة حسابات، أهمها انشغال أقطاب السلطة على التنافس المحموم في مرحلة ما بعد “أبو مازن”، إضافة لاستياء المؤسسة الرسمية الفلسطينية من استمرار انسداد الأفق السياسي وبشكل خاص مع فشل كل الآمال التي عُوّلت على زيارة “بايدن” الأخيرة إذ لم تحمل أي جديد للفلسطينيين.
تعمل السلطة على تجنّب دخول مواجهة مع المقاومين في جنين بدرجة أساسية، وبدرجة أقل في نابلس، إلا أنّها لا تتعامل بوتيرة واحدة مع حالات المقاومة الجديدة في باقي المحافظات، وما زالت تنفّذ حملات اعتقال سياسية محددة تستهدف كوادر بالمقاومة والفصائل دون الإنزلاق لحملات موسعة، حيث تسعى السلطة إلى تحويل التطورات الميدانية الجديدة إلى ورقة ضغط على الاحتلال لتعيد تأكيد مدى قيمة وأهمية النشاط الأمني لأجهزة السلطة في إجهاض أنشطة المقاومة المسلحة.
من جهته، يحاول الاحتلال تكثيف الضغط على السلطة للإيفاء بالتزاماتها الأمنية، هذا الضغط يتنوع ما بين التحفيز عبر الحديث عن تدعيم السلطة وتقويتها وتعزيزها وبشكل خاص من رئيس وزراء الكيان ورئيس الشاباك، إضافة للضغط بالترهيب عبر التلويح بعمليات عسكرية كبرى على غرار (السور الواقي) وهو ما يعني فعلياً تحطيم منظومة السلطة القائمة وتجاوزها وإعادة احتلال المدن الفلسطينية في الضفة الغربية.
لا شك أنّ تراخي القبضة الأمنية للسلطة يعزز من توسع حالة المقاومة، بل ويشجع المزيد من الشبان، حتى المحسوبين على حركة فتح (هم الأقدر على الحصول على السلاح)، على الإنخراط في مجموعات وكتائب المقاومة التي توسعت بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة عددياً وجغرافيا، إلا أنّ هذا التراخي ليس مرتبطاً بتبدل في قناعات المؤسسة الأمنية في السلطة أو مرجعيتها السياسية، ولا أيضاً دليلاً على فقدانهم لأدوات السيطرة والقدرة على التأثير على فعل المقاومين وحصارهم وملاحقتهم، بل هو يعكس وجود تكتيك يترافق معه عجز وخلاف قيادي في منظومة السلطة ليس بالضرورة أن يستمر طويلاً لأنّ رهان السلطة وقادتها، إستراتيجي، على مشروع أوسلو وملحقاته وفي مقدمته الشق الأمني.
خلاصة:
تحمل الفترة القادمة وبشكل خاص شهري أكتوبر ونوفمبر محطات مهمة، يعمل جيش الاحتلال وأجهزة أمنه على السباق مع الزمن من أجل تداركها مسبقاً وحصار أي فعل كفاحي متوقع من ساحة باتت مليئة بالبارود وتنتظر مشاعل الإنفجار، وبشكل خاص مع عودة القدس إلى قلب الحدث في مواجهة قطعان المستوطنين وجماعات الهيكل وفعالياتهم التهويدية.
يترافق النشاط الأمني المتصاعد للاحتلال مع حالة مقاومة ناشئة تنمو وتتطور ولا تفلح حتى الآن الإجراءات الأمنية الصهيونية في إجهاضها، بل على العكس، أدّت عمليات الإغتيال لرموزها والإقتحامات المتكررة إلى المزيد من التوسع والإلتحاق لعشرات الشبان بركب تشكيلات المقاومة الجديدة التي باتت عابرة للإنتماءات ومتنوعة الدعم ولها هدف واحد وهو المقاومة، وبات الاحتلال يعي أنّه أمام جيل جديد لا يعمل وفق النمط ولا التنظيم ولا التشكيل المعتاد لفصائل المقاومة، بل له سماته الخاصة والفريدة التي لا يوجد وصفة جاهزة للتعامل معه، مما يعني أنّ الأيام القادمة ستحمل المزيد من تصاعد فعل المقاومة وتوسعه.