فجّر استشهاد المقاوم الفلسطيني الشاب "إبراهيم النابلسي" في البلدة القديمة بمدينة نابلس النقاش من جديد حول الجيل الفلسطيني الجديد، الجيل الشاب الذي امتشق سلاحه ليواجه جيش الاحتلال، في حالة بدأت تتوسع بشكل متزايد في الأوساط التي تنشط فيها خلايا المقاومة، وبشكل خاص في شمال الضفة الغربية.
لم يلبث أنّ مرّ أسبوع على اغتيال المطارد النابلسي، حتى بادر الشاب الثائر أمير الصيداوي لامتشاق سلاحه وتنفيذ عملية بطولية في القدس المحتلة مستهدفاً باصاً يقلّ المستوطنين، موقعاً الإصابات بين ركّابه، ليعيدَ للأذهان مدى هشاشة منظومة الأمن الصهيونية في وجه عقيدة المقاومة الراسخة.
في واقع الأمر، ينتمي الصيداوي والنابلسي، ومن قبلهما العزيزي وصبح والسعدي وجرار والحصري والحازم وحمارشة وعموري والشيشاني والدخيل والمبسلط وغيرهم من قافلة شهداء العام المنصرم، إلى الجيل الفلسطيني الجديد، الجيل الذي يمثّل تحدياً صارخاً لم تتنبأ به كل مستشعرات أجهزة الأمن الصهيونية.
كيّ الوعي
مع اندلاع انتفاضة الأقصى في العام 2000، تصدّر الخطاب الأمني الصهيوني مصطلح "كيّ الوعي" الذي استخدمه "موشيه يعلون" رئيس أركان جيش الاحتلال (وزير الحرب الصهيوني في ما بعد)، في إشارة لسياسته في قمع النضال الوطني الفلسطيني، التي لا ترتبط فقط بالإجراءات الميدانية، بل هي إجراءات وجرائم تستهدف قمع وكيّ الوعي الفلسطيني المقاوم، وتستهدف قتل فكرة المقاومة في كل عقل فلسطيني.
اعتمدت سياسة كيّ الوعي على الإفراط الصهيوني الإجرامي في القمع والترويع والقتل، للمقاومين والسكان، بمن فيهم الأطفال والنساء، وصولاً لكيّ الوعي الفلسطيني بالنار، وتكريس الشعور بالعجز، وصولاً للاستسلام.
تترافق الإجراءات الإجرامية الميدانية، مع خطوات تهدف إلى تحطيم إرادة الشعب الفلسطيني ومعنوياته وضرب منظومات قيمه وثقافته وتاريخه، ومحو هويته، وإشعاره الدائم بضعفه وفشله أمام كيان الاحتلال "المتفوّق والمنتصر في النهاية"، إضافة لإحداث انشقاقات داخلية وزرع فئات مستفيدة (خلق طبقات جديدة) تعمل على نشر الروح الانهزامية.
سوّق الاحتلال كثيراً لمجتمعه فكرة نجاح سياسة "كيّ الوعي" التي تبنّتها كل الحكومات الصهيونية من يسارها إلى يمينها في التعامل مع الروح النضالية الفلسطينية، واعتبر أنّها حقّقت نجاحات ملموسة على إثر انتهاء إنتفاضة الأقصى وتراجع الفعل المقاوم في الضفة الغربية بشكل خاص.
الفلسطيني الجديد
تفاخر الجنرال "كيث دايتون" المنسّق الأمني الأمريكي بين الاحتلال والسلطة الفلسطينية خلال خطاب له في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط عام 2009، وهو يستعرض مهمته في صناعة جيل أمني فلسطيني جديد، لا يمكن أن يكون مبعث تهديد لكيان الاحتلال.
"ما فعلناه هو بناء رجال جدد" هكذا اختصر دايتون خلاصة عمله لسنوات مع السلطة الفلسطينية في بناء وتخليق "الفلسطيني الجديد" الذي لا يرى في الاحتلال مشكلته الرئيسية، ولا في تحرير فلسطين هدفاً سامياً يجب السعي لتحقيقه، بل يركز على تحقيق حلم أوسلو، بدولة فلسطينية منقوصة مسلوبة الإرادة والقرار وتابعة للاحتلال، يغرق فيها الفلسطيني بأوهام الرفاهية الإقتصادية والمعيشية على حساب أي بُعد وطني حقيقي أو كرامة تُرجى.
يتمّ تحويل الفلسطيني الجديد الذي عمل دايتون وشركاؤه على تخليقه إلى عدو غير مباشر للمقاومة، كفكرة وكفعل، على قاعدة أنّ الفعل المقاوم يمثّل تهديداً حقيقياً لمصالح هذا “الجديد” الذي ارتبط بالراتب والتسهيلات الاقتصادية والمعابر والتصاريح وبطاقات تسهيل الحركة التي يمنحها الاحتلال وفق سياسة الثواب والعقاب، فمن التزم بمحددات الاستسلام كان له الثواب، ومن لم يلتزم أصبح منبوذاً شعبيا، ملاحقاً أمنياً من أجهزة السلطة، ومستهدفاً من الاحتلال وجيشه.
الجيل الفلسطيني الجديد (جيل ما بعد انتفاضة الأقصى)
بعد سنوات من الاحتفاء الأمريكي – الصهيوني بنجاح مشاريع "كيّ الوعي" و"الفلسطيني الجديد" التي ترافقت مع تنامي مشاريع التهويد و"الأسرلة" التي تستهدف الفلسطينيين في الداخل المحتل، صُدمت كل هذه الأوهام بالواقع الفلسطيني، بالجيل الفلسطيني الجديد الذي فاجأ الجميع، وفي المقدمة منهم أجهزة الأمن الصهيونية.
يصف الكاتب الصهيوني "إليؤور ليفي" الجيل الفلسطيني الجديد الذي اعتبر أنّه يتمثّل في طبيعة شخصية الشهيد إبراهيم النابلسي، بأنّه الجيل الذي تمرّد على الجميع، الجيل الذي يُشكّل خطراً على الجميع، على الاحتلال، على منظومة التنسيق الأمني، على السلطة الفلسطينية، وعلى كل مخططات كيّ الوعي وثقافة الاستسلام، وهو جيل يتمتع بعدة صفات يعددها على الشكل التالي:
-جيل وُلد أثناء الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى).
-جيل لا يعرف اللغة العبرية ولا يرى بكيان الاحتلال سوى جنودهم وقطعان المستوطنين.
-جيل لا يعرف معنى القواعد العسكرية، ولا يرهق نفسه كثيراً بحسابات الربح والخسارة.
-جيل لا يرى بالسلطة وأجهزتها مستقبله ولا طموحه.
-جيل ليس لديه ما يخسره ويتوجّه بإقدام نحو القتال الإستشهادي.
-جيل لم يعايش مرحلة “كيّ الوعي” التي نتجت عن الاستخدام المفرط للعنف كرد على عمليات المقاومة في انتفاضة الأقصى.
يقول المحللون الصهاينة، إنّ هذا الجيل أنهى جهد 30 عاماً من إدخال ثقافة الهزيمة إلى عقول الفلسطينيين، و30 عاماً من التسهيلات الإقتصادية والحلول الأمنية القائمة على تحييد جموع الجماهير الفلسطينية وعزلهم عن المقاومين وتوجّهاتهم، وهو جيل يتحول شيئاً بعد شيء إلى جيل يوجّه بوصلته بشكل واضح نحو مشكلته الرئيسية المتمثّلة بوجود الكيان الصهيوني.
إنّ الجيل الصاعد لن يخضع لأي تأثير أبوي كان يعوّل الاحتلال أن ينتقل من جيل لآخر، بل على العكس، ساهم هؤلاء الشبان في التأثير على محيطهم الاجتماعي والجماهيري، وجذبهم نحو مربّع المقاومة، حيث بات يمثّل اليوم والد الشهيد رعد الحازم في مخيّم جنين أحد أهم رموز الحاضنة الشعبية للمقاومة، وبطل من أبطال الصمود في وجه المطاردة ويرفض تسليم نفسه للاحتلال وباتت والدة الشهيد إبراهيم النابلسي نموذجاً في الصبر والصمود والمعنويات التي تلامس عنان السماء.
والأمر سيّان على باقي الشهداء، الذين بات يشكّل آباؤهم وأمهاتهم حالات تضامنية تجوب الضفة المحتلة، وتنتقل من بيت عزاء إلى آخر لتعزّز من حالة التكافل الوطني، وترفع معنويات المقاومين وتزور الجرحى في المستشفيات وتعزّز من صمود ذويهم، في ما يبدو أنّه تأثير معاكس بات يشكّله الجيل الفلسطيني الجديد الذي انحاز لخيار المقاومة على باقي مكونات المجتمع من أجيال سابقة وأجيال صاعدة.
وعلى العكس، لم تفلح محاولات الاحتلال برفع وتيرة العنف في خلق ردع لدى الشبان المقاومين، إذ أنّ جريمة الإغتيال الوحشي للشهيد جميل العموري في مخيّم جنين، ساهمت في تفجّر الحالة المقاومة هناك وصولاً لتمدّدها وانتشارها في أنحاء مدينة جنين وقراها، والأمر ذاته بعد جريمة الاحتلال باغتيال الشيشاني والدخيل والمبسلط في نابلس، التي حفّزت العشرات من الشبان للالتحاق بركْب المقاومين المنطلقين من البلدة القديمة في مدينة نابلس.
من المؤكد أنّ الأمر عينه سينتج عن اغتيال الشهيد البطل النابلسي، الذي تحوّل إلى رمز خلال مطاردته ونموذج يعبّر عن الجيل الفلسطيني الجديد، وخُلّد اليوم مع رفاقه الشهداء في لوائح الشرف والبطولة، ليأخذ موقعه كـ"أيقونة" في حقبة جديدة من حقب نضال الشعب الفلسطيني وانتفاض شبابه على واقع الهزيمة والاستسلام.