تدير وزارة التربية والتعليم، منذ سنوات طويلة، امتحان الثانوية العامة، والمفترض أنها تعلمت الكثير من تجربتها في هذا المجال- هذا على افتراض أننا نتفق أصلاً مع مبدأ وطبيعة هذا النوع من التقييم- إلا أن طول التجربة هذه لم يمنع الجدل الواسع بين التربويين والطلبة وذويهم والمؤسسات المختلفة حول طبيعة أسئلة الامتحانات وإدارة العملية والنتائج. ببساطة شديدة، يمكن استنتاج أن وزارة التربية والتعليم تعقد الامتحانات وتشرف عليها كل عام وكأنها تقوم بذلك لأول مرة فلا دروس متعلمة ولا خبرات متراكمة.
وعلى افتراض أننا لا نريد جيلاً منتجاً للمعرفة ولا نطمح لجيل يمتلك المهارات الحياتية والمواطنة، ولنفترض أننا نقبل حتى بأبسط أنواع المعرفة، وتأملنا أحد الاختبارات وليكن امتحان الفيزياء لعام 2022 على سبيل المثال فسنجد التالي: نسبة العلامات المتعلقة بمعرفة الحقائق (12%) ونسبة العلامات المتعلقة بالمعرفة النظرية (15%) ونسبة العلامات المتعلقة بالمعرفة الإجرائية (61%) وان نسبة العلامات المتعلقة بالمعرفة المفاهيمية (12%) فقط من العلامة الكلية.
بكلمات أخرى، لا يركز امتحان الفيزياء على المفاهيم الأساسية بالفيزياء ولا يهتم بتفسيرها وانما يركز على أسئلة تتطلب معرفة بالقوانين والمعادلات وتعويض الأرقام فيها بشكل من الاشكال. بكلمات أكثر قسوة، إن الطالب الحاصل على علامة عالية بالفيزياء لا يعني بالضرورة انه يمتلك المعرفة المفاهيمية الأساسية. وهذا ربما يفسر نسبة الرسوب العالية لطلبة السنة الأولى في الجامعات بالفيزياء لظنهم أن عملية النجاح فيها تتطلب معرفة بالقوانين وتطبيق على المعادلات وتعويض الأرقام بالمعادلة المناسبة دون إعطاء أي تفسير لمعنى الإجابة او منطقها الفيزيائي.
إن طبيعة الأسئلة الواردة في امتحان الثانوية العامة تشي بما يتعلمه طلبتنا في الغرفة الصفية ليس فقط بالصف الثاني عشر وانما على مدار كل السنوات الدراسية. هذا المقال دعوة للجميع لمحاولة الإجابة على السؤال التالي: إذا كان أهم فعل في أي نظام تربوي هو ما يفعله المعلم والطلبة في غرفة الصف، فما الذي قامت به وزارة التربية والتعليم في السنوات الأخيرة من أجل تطوير ذلك؟
أكاد أجزم أن معظم المهتمين في الشأن التربوي ستكون اجابتهم: لا شيء. ربما قامت الوزارة تحت إدارة وزير التربية والتعليم الحالي بالعمل على تطوير بعض السياسات (وهذا مهم) والكثير من المبادرات ولكني لا اعتقد أن أي منها ساهم في احداث تغيير جوهري في دعم المعلمين أو تحسين جودة ما يتعلمه الطلبة بشكل مباشر.
مبادرات وزارة التربية والتعليم لم توفر لا البيئة ولا الدعم المناسبين للمعلمين الفلسطينيين من أجل صنع المعاني ولا للطلبة من أجل إنتاج المعرفة وتطوير مهاراتهم الحياتية؛ ظلت المناهج كما هي وظلت منهجية تطوير أداء المعلمين كما هي وظل الطالب في الغرفة الصفية يعمل ما كان يعمله سابقا وظل نظام الثانوية العامة كما هو.
كنا نعول أن يحصل تغيير في الثلاث سنوات الأخيرة ولكن للأسف لم يتغير الكثير. العمل على تطوير السياسات في وزارة التربية والتعليم أمر مهم ولكن لماذا لم يصحبه تغيير في المناهج أو تطوير ودعم المعلمين. هل يعقل أن السنوات الثلاث الماضية لم تكن كافية لعمل التغيير اللازم؟ فكل ما نشهده في هذا السياق إما وعود لا تُنفذ أو سياسات تحتاج إلى عشرات السنوات لنرى أثرها على جودة التعليم هذا إن صمدت أمام التغييرات الوزارية المتعاقبة.
خلال جائحة كورونا احتفلت الوزارة، ونحن نعيش عصر الثورة الصناعية الرابعة، بتأسيس قناة فلسطين التعليمية، ووضعت الكثير من كوادرها ومصادرها المالية من أجل تأسيس هذه القناة وتشغيلها. برأيي استمرار تشغيل هذه القناة مضيعة للوقت وهدر للموارد المالية. لا شيء فيها مفيد على الإطلاق فهي ممعنة في تسطيح المحتوى التعلمي. اقترح على وزارة التربية والتعليم عمل دراسة حول جدوى هذه القناة وكم عدد المستفيدين منها ودراسة جودة ما يبث عليها. وإذا كانت الوزارة قد قامت بعمل هذه الدراسة، اعتقد ان من حق الجميع الاطلاع عليها وخاصة انها مكلفة وتكبد موازنة الوزارة مبالغ ليست بقليلة. عدا عن الجهد المبذول من القائمين على هذه القناة.
وخلال السنوات الماضية، أطل وزير التربية والتعليم أكثر من مرة على منصات الاعلام يتحدث عن تغيير نظام الثانوية العامة. الإنجاز الوحيد الذي تم في هذا الموضوع حتى اللحظة هو تغيير اسم الثانوية العامة من "إنجاز" الى "التوجيهي". وللأسف، بدأ نظام الثانوية العامة يفقد مصداقيته لدى الجامعات المحلية والعالمية. ألم تكن ثلاثة سنوات كافية من أجل رؤية او ملامسة تغييرات حقيقية على أرض الواقع؟ هل يجب أن ينتظر الشعب الفلسطيني عشر سنوات أخرى من أجل هذا التغيير؟
وخلال السنة الماضية أيضاً، انشغلت وزارة التربية والتعليم بموضوع المشاركة في أحد الاختبارات العالمية "بيزا". وقامت بتدريب المعلمين على كيفية تحضير الطلبة على هذا الاختبار. الغريب أن هذا الاختبار وُجد لقياس مستوى جودة النظم التربوية، فإذا تم تدريب الطلبة على الإجابة على مثل هذه الاختبارات ولنفرض انهم سيتفوقون في الاختبار الرسمي، هل هذا يعني بالضرورة أن النظام التربوي جيد؟ الأصل أن يتم النهوض بالعملية التعليمية التعلمية برمتها لا الاكتفاء بتدريب الطلبة على أسئلة مشابهة لما هو متوقع في اختبارات "بيزا". والسؤال يبقى: لماذا تشغل الوزارة نفسها بكل شيء ما عدا الاهتمام بما يحصل بالغرف الصفية بشكل مباشر.
ومجدداً، أعلن وزير التربية والتعليم عبر وسائل الاعلام خلال جائحة كورونا إطلاق برنامج " استكشاف العلوم". هذا البرنامج يستضيف بعض المختصين من دول مختلفة لإلقاء محاضرات علمية الكترونية يتم دعوة الطلبة لحضورها. بذلت الوزارة، وما زالت، الجهود من أجل تنظيم هذه المحاضرات. برأيي هذه المحاضرات (وان كانت بعض المواضيع جيدة) إلا انها منزوعة من سياقها وغير مرتبطة بما يتعلمه الطلبة ولا تؤسس لشيء فهي اشبه بحاطب الليل. برأيي هذا تشتيت لجهود الوزارة وطاقمها في وقت مطلوب منها التركيز على الأمور الجوهرية في التعليم والتعلم.
وخلال الربع الأخير من هذه السنة الدراسية، انقطع طلبة المدارس الحكومية عن مدارسهم بسبب اضراب المعلمين المطالبين بحقوقهم. ولم ينتظم التعليم في معظم المدارس لأكثر من شهر. لكم أن تتخيلوا حجم ما فقده طلبتنا خلال هذه الفترة. والغريب أنى لم اشهد موقف واضح من المسؤولين في وزارة التربية والتعليم ساهم في التعامل مع اضراب المعلمين بإيجابية وبالسرعة المتوقعة من أجل إعطاء المعلمين حقوقهم وإعطاء الطلبة حقهم في التعلم. كيف لأي مسؤول في الوزارة "أن ينام قرير العين" وطلبة المدارس لا يذهبون الى مدارسهم لأكثر من شهر؟ لماذا لم يصرخوا؟ لماذا لم يعترضوا؟ لماذا لم يقدموا استقالاتهم الجماعية احتجاجا على عدم دعم المعلمين والمعلمات؟
تتوجه الوزارة حاليا الى تطبيق منحى STEM في المدارس الحكومية. أرى ان هذا التوجه يحتاج مزيدا من التفكير وعمل الدراسات التربوية الجدية من أجل التأكد من مناسبة هذا النموذج للسياق الفلسطيني. المطلوب حوار جدي على مستوى كل الوطن وليس قرار فردي يتفرد به وزير او مسؤول في الوزارة. نريد لفلسطين ان تخلق نموذجها التربوي الخاص بها وتصنع قصتها بنفسها لا أن تقوم باستيراد نماذج من دول أخرى ربما لا تكون مناسبة لقصة شعبها واطفالها.
هذا المقال دعوة للقائمين على وزارة التربية والتعليم للتوقف عن إرهاق وتشتيت جهود طاقمها بمبادرات او مشاريع لا تساهم في تغيير ما يحدث في الغرف الصفية ولا تحدث تطويرا مباشرا في العملية التعليمية التعلمية. المطلوب تطوير خطة شاملة ومتكاملة لا مبادرات متفرقة مجتزأة هدفها الظهور الإعلامي والانتشار. هذا المقال دعوة لكل الحريصين في الوطن من أفراد ومؤسسات مهتمة بالشأن التربوي للمطالبة بتغيير حقيقي بالنظام التربوي. نحن جميعا نريد التغيير الحقيقي الان، فقد سئمنا الانتظار ولا يمكننا الانتظار لسنوات أخرى من الضياع وغياب البوصلة!