"وارم ببصرك أقصى القوم"، في وصيته لولده يلخص الإمام علي بن أبي طالب استراتيجية مركزية في الصراع مع العدو، تقوم على رصده والترصد له ومسابقته على إشغال الفراغات والمواقع في ساحة القتال الواسعة، التي لا تتوقف عند حدود المعارك أو المواجهات العسكرية.
بعد استلامه منصب وزير الجيش بداية ثمانينات القرن الماضي، وضع أرئيل شارون الجنرال الذي قاتل الشعب الفلسطيني والأمة العربية على ساحات مختلفة، استراتيجية عمل قائمة على توسيع ساحات الصراع مع أعداء الكيان الصهيوني، لتشمل قطاعات إقليمية واسعة تصل إلى القارة الإفريقية.
إدراك شارون إلى "وحدة الساحات" في الصراع، جاء في مرحلة تاريخية امتلكت فيها الثورة الفلسطينية علاقات واسعة في المنطقة والعالم، في ظل ظروف دولية كانت تمنح القوى السياسية بمختلف توجهاتها قدرة على الحركة وفتح العلاقات، قبل التغييرات التي جرت في العالم خلال العقود الماضية، عقب انهيار الاتحاد السوفياتي والإجراءات الأمنية والسياسية التي شهدتها منطقتنا تزامناً مع صعود أنظمة أكثر عداء للقضية الفلسطينية.
شكلت الثورات العربية فرصة لفتح مساحات من العمل السياسي والميداني، أمام الفلسطينيين، إلا أن التطورات اللاحقة التي جرت عطلت الانسيابية وحالة السيولة التي رسمت ملامح المنطقة العربية، في السنوات الأخيرة، في ظل سعي أنظمة عربية للتحالف مع دولة الاحتلال الإسرائيلي لحماية وجودها.
الأسباب الخارجية في سلب حرية العمل أمام القوى المقاومة الفلسطينية، في المنطقة، لا تنفي وجود أسباب ذاتية تتعلق بانخفاض "المخيال السياسي" القادر على منح السياسيين فرصة النظر إلى الواقع من خارج الأطر الجغرافية المحددة مسبقاً من قبل الأعداء أو بحكم الواقع الذي شكلته عوامل سابقة.
الواقع الجديد الذي فرضه دخول أنظمة عربية في تحالف علني مع دولة الاحتلال، وسعيها لبناء تشكيلات عسكرية وأمنية تشكل حالة معادية للقضية الفلسطينية، يفرض على القوى المقاومة الفلسطينية تكثيف التفكير في آليات للعمل على مستوى المجتمعات العربية والإسلامية، لتوسيع حالة الدعم للقضية الفلسطينية والخروج بها من مستويات "التضامن" إلى العمل اليومي المنظم الذي يرى القضية من منظور "اهتمام مركزي واستراتيجي"، ويتعامل مع دولة الاحتلال الإسرائيلي بوصفها "تهديداً استراتيجياً" لمستقبل الأمة.
هذه الاستراتيجية الجديدة بحاجة إلى "دبلوماسية جديدة" قائمة على "محبة" الشعوب، بالمعنى المعرفي للكلمة، أي سعي "الدبلوماسي" المقاوم لمعرفة المجتمعات والتعرف عليها من قرب والغوص في تفاصيل حياتها، وإيصال قضيته بكل ما تحمله من أبعاد معنوية وسياسية وعقائدية إليها، وهي طريقة تشبه عمل الرحالة القدامى أو "المستشرقين" الذين قدموا إلى منطقتنا في بداية الاستعمار الأجنبي، واندمجوا في الشعوب حتى أصبحوا يتصرفوا كأنهم واحد منهم، لكن سلوك "الدبلوماسي" المقاوم لا ينطلق من معرفة "استشراقية" بل من محبة لشعوب أمته، تجعله ينصهر في العمل على طريقة "العشاق الصوفيين".
فكرة "الدبلوماسية الجديدة" بحاجة إلى تفكير أوسع في آلياتها، لكن بالعودة إلى تجربة الثورة الفلسطينية نرى أنها استغلت في مراحل مختلفة الانتشار الفلسطيني في العالم، وعملت من خلال الطلاب والبعثات المختلفة على مواجهة دولة العدو في الساحات المختلفة، وإن كانت التجربة بحاجة لتقييم أكبر، إلا أنها نموذج لما يمكن العمل عليه من "تثوير" الوجود الفلسطيني في الخارج.
أمام "الدبلوماسي" الفلسطيني المقاوم تجربة عشرات الشهداء الذين سعوا في مختلف الدروب العربية لتطوير مقدرات المقاومة، كشف عن سيرة بعضهم لاحقاً وبقي آخرون يسعون في الدروب بعيداً عن أعين الأجهزة الأمنية والعسكرية المتربصة، حتى لحظة كتابة هذه السطور.
كان الشهيد رائد العطار وهو يسعى في سيناء "المجال الحيوي لغزة" مثالاً ل"الدبلوماسي المقاوم" الذي لا يعترف بالحدود ويدخل إلى مجتمعاته العربية ويشركها في الصراع مع الاحتلال.