قرّرت "إسرائيل" بناء خمس مستوطنات جديدة في النقب، حينما كانت تجتمع مع وزراء خارجية أربع دول عربية برعاية أمريكية في النقب أيضاً، في المكان الذي لم يزل أهله يعانون التشريد المستمرّ، على نحو يذكّر بالنكبة الأصلية، التي كانت في ذاتها عنوان قيام "إسرائيل" في رمزيات حركية في الواقع، تُضاف إلى رمزيات أخرى صامتة، لكنها لا تقلّ تعبيراً عن المضمر في بطن الإسرائيلي، حينما يكون كيبوتس "سديه بوكير"، معتكف "بن غوريون" بالقرب من قبره، مقرّ القمّة، وهو الرجل الذي يمكن عدّه مؤسس "إسرائيل"، وأبَ سلاحها النووي، الذي جُعلت النقب مقرّاً له كذلك. ولم يكن آخر الرمزيات وجبات الطعام، التي ضمت لحم حمل من الجولان، والكعك الفلسطيني المشهور بكعك القدس، ووجبات طعام أخرى تنسبها "إسرائيل" لنفسها بعدما سطت عليها من أصحابها الأصليين كما سطت على بلادهم!
في عملية السطو المسلّح على فلسطين، كانت المستوطنة المعسكرة التي دُعيت لاحقاً "إسرائيل"، مسكونة بالرمزيات، لأنّها جعلت من ذاتها رمزاً كبيراً بالاسم الذي حملته، وباستدعاءاتها التوراتية التي سعت بها لترميز نفسها وخلق تاريخ لها، وصبغ البلاد التي سطت عليها، وسطت على ما فيها من حبة الفلافل وصحن الحمص إلى الثوب الفلسطيني المطرّز، ثم دجّجت نفسها بالرموز، كما دجّجت نفسها بالسلاح، والجُدر، والحواجز، والأسلاك الشائكة، والطرق الالتفافية، وأبراج الحراسة، وبالشعب المصطنع الذي جعلته في جملته جيشاً في حالة استدعاء دائم، فكلما انصرف الوجه بنظره إلى اتجاه في فلسطين، رأى عملية السطو المسلح تتمنطق بالرمز كما ترفع السلاح!
لم تنجح عملية السطو المسلح، واجتراح الخطيئة الكبرى في صورة المستوطنة المعسكرة، بمحض القدرة الذاتية للمستعمرين المرتحلين من أصقاع العالم على ريح الرمز والتاريخ المحبوك بالأسطورة، وإنما كان الدفع العظيم لتلك الريح من فوهات مدافع الإمبراطورية العظمى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، بريطانيا وأخواتها، وكان مستقرّ الريح والقادمين عليها أرض الهزيمة لجيوش عربية، كانت تتجرّع الهزيمة المرّة والمخزية بنشوة عجيبة، وكأنها كانت تسعى إليها، فالراعي العظيم واحد، بريطانيا العظمى، ورغم كلّ ما يقال اليوم عن وارث الراعي القديم، الولايات المتحدة، الأكثر عظمة، وعن انسحابه من المنطقة، فإنّه لم يزل يرعى الرمزية المذكّرة بالانتصار الإسرائيلي الكبير، وبالهزيمة العربية المرّة التي تجرّعها العرب، بنشوة عجيبة!
قمّة النقب، التي جمعت "إسرائيل" بوزراء خارجية الإمارات والبحرين ومصر والمغرب (تماماً من المحيط إلى الخليج)، برعاية أمريكية، بالتزامن مع عملية النفي والمحو في النقب (النكبة المستمرّة) برعاية وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في ظلّ مفاعل ديمونا، وإلى جانب قبر بن غوريون، وبنشوة الحاضرين العرب.. في رمزيتها الكبرى هي إعادة صياغة للنكبة الفلسطينية وللهزيمة العربية، فـ"إسرائيل" التي هزمت الجيوش العربية مرتين، أولاهما عام 1948، والتي كثيراً ما تحدثت عن تاريخها المتوهَّم من النيل إلى الفرات، يجري تكريسها اليوم، برعاية القوّة العظمى غير المسبوقة في عظمتها في التاريخ البشري، سيّدة على النظام الإقليمي العربي، لا من النيل إلى الفرات فحسب، بل من المحيط إلى الخليج، ولكن هذه المرّة بلا معارك مُمَسرحة، فعملية الترويض والتأهيل أخذت مداها عقوداً طويلة، للوصول إلى لحظة إعلان التبعية للكيان الإسرائيلي، بلا خجل وبالدافع العربي الذاتي!
الرعاية الأمريكية للقمّة في النقب، وإن كانت من جهة دعماً لحكومة "بينيت"، ومن جهة أخرى طمأنة للمجتمعين باستمرار رعايتها لهم، فإنّها في العمق كانت تريد القول لهم، للعرب حصراً، إن كنتم تبحثون عن التوازن في إطار نظام إقليميّ آخذ بالتشكّل في المنطقة، أركانه ثلاثة؛ إيران المتمدّدة التي قد تأخذ فسحة للتنفس بتوقيع اتفاق نووي محتمل معها، وتركيا الصاعدة، و"إسرائيل" الثابتة في سياسات الولايات المتحدة، فليس لكم إلا الاحتماء بالجدار الإسرائيلي المتعالي على الأرض الفلسطينية، وعلى الكثير من جماجم الفلسطينيين وعظامهم المسحوقة بالمدافع الإسرائيلية.
الرعاية الأمريكية هنا ليست منشئة بالكامل، وإنما مساهمة في الإنشاء، ومتمّمة له، ومرسّخة لقواعده، وفق تصوّرها للمشهد الإقليمي، وإلا فقد أثبتت الحوادث أنّ الدفع العربي الذاتي أساس في تتبيع النفس لـ"إسرائيل" والاحتماء بجدرها من عواصف التحولات الكبرى، وبتقنياتها التجسسية من أنفاس شعوبها، ومفاعلها في ديمونا من المفاعلات النووية الإيرانية البدائية. فما كان يبدو مبادرة من إدارة ترامب، وصياغة من بنيامين نتنياهو، وفكرة مطروحة في قمة الرياض (أيار/ مايو 2017) برعاية ترامب بالحديث عن "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي"، تبين أنه مكتسب إسرائيلي يتجاوز حركات نتنياهو الاستعراضية، وينسجم مع الرؤية الأمريكية لإعادة ترتيب المنطقة، ويندرج في مسعى عربي، ينمّ عن هشاشة مريعة، وإلا فيفترض بمصر والمغرب أن يكونا أكبر من الاحتماء بجدار مستوطنة، ومن تجرّع الرمزيات الإسرائيلية المترعة بالإذلال، ومن قبول التبعية لكيان يخفي بدوره خلف إعادة تجديد الانتصار قلقاً عميقاً!
في التحليل، الأمور منذ البداية أوضح من أن تقال، فبعد وقت وجيز على فوز دونالد ترامب، وبالرغم من بدايته المحفوفة بالغموض، كتبتُ مقالة في كانون الثاني/ يناير 2017 أحاول فيها رؤية تحالف شرق أوسطي يدمج "إسرائيل" بالمنطقة برعاية إدارة ترامب، وهو الأمر الذي صار أقرب للإعلان الرسمي عنه خلف العبارات المخاتلة في قمة الرياض سابقة الذكر، وجرى التمهيد له بحملة إعلامية مكثّفة تهدف إلى تحطيم كلّ تقاليد الصراع العربي الإسرائيلي لصالح إعادة صياغة الرؤية لـ"إسرائيل"، إلى درجة تبنّي سرديّتها في بعض مفردات هذه الحملة التي مثّلت هذه المرّة حرباً دعائية من أنظمة عربية على فلسطين وأهلها.
ثم تبلورت الفكرة في حملة التطبيع المحمومة والتي تعمّدت الصدمة وإظهار عاطفة مفرطة نحو "إسرائيل"، وأخيراً في قمة النقب، التي هي بحسب وزير خارجية "إسرائيل" يائير لبيد، "بناء هيكل إقليمي جديد قائم على التقدم والتكنولوجيا والتسامح الديني والأمن والتعاون الاستخباراتي"، هذا "الهيكل" بدأ في صورة "منتدى" دائم! ويبدو أن تعبيرات الهيكل والمنتدى، كانت أيضاً من قبيل الرمزيات الإسرائيلية المتعمّدة، وكأن العرب يتنادون بالنشوة في المعبد الإسرائيلي! ولا تنبغي الغفلة عن كون عبارة "التسامح الديني" مجرد شعار زائف لتغطية التحالف العربي الإسرائيلي!
يمكن هنا قول الكثير عن تحالف في مواجهة إيران نووية محتملة، وعن توازن مع قوى إقليمية أخرى، وعن الاحتماء بالثابت الإسرائيلي في السياسات الغربية، وعن النفوذ إلى العالم عبر البوابة الإسرائيلية، وعن المبادرة لإعادة صياغة المنطقة بالتعاون مع "الحليف الإسرائيلي القوي" في مرحلة سيولة وتحوّل، لكن ذلك كله لا يخفي ضعة وهشاشة عربية. الأهمّ، أنّ هذه الهشاشة تحتمي بالمصطنع والغريب منبتّ الجذور، وهذا بدوره مفعم بالرمزيات المعاكسة لإرادة المجتمعين في قمّة النقب