يستدعي التطبيع التركي الإسرائيلي حالة من الاستقطاب في أوساط العرب، أقوى من تلك التي يستدعيها تطبيع دول أخرى، والسبب في ذلك، ببداهة النظرة الأولى، الامتدادات العاطفية الكاسحة للحكم التركي الراهن، في أوساط شرائح تنتمي بشكل أو بآخر للتيار الإسلامي، وتتعاطف مع تجربة الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان. ثمّة أسباب أخرى ناشئة عن اصطفافات قائمة بذاتها، بعضها آخذ بالتحوّل كخصومة بعض الدول العربية مع تركيا، وبعضها ما زال قائماً كتلك المتعلقة بالموضوع السوري والسياسات الإيرانية في المنطقة، بيد أنّ هذه المقالة ستركّز على بعض الآراء والمواقف من أوساط الإسلاميين حصراً.
لا ينبغي والحالة هذه إغفال الدوافع الموضوعية، التي عزّزت من الانحياز الأيديولوجي لأردوغان، بوصفه معبّراً، ولو على نحو نسبيّ، عن الموقف الإسلامي داخل تركيا، بالإضافة لدوافع سياسية عمليّة معتبرة، تتمثّل بكون تركيا قد صارت أرضاً تستضيف الآلاف من الهاربين من جحيم القمع والاستئصال في بلادهم، وتوفّر مساحات للعمل للعديد من التيارات الإسلامية، من بينها حركة حماس، وهي مكاسب لا يمكن التفريط فيها؛ حين النظر إلى الحصار المطبق الذي يخنق هؤلاء الإسلاميين، ومحدودية خياراتهم التي تقارب أحياناً العدم. ثمّ يُضاف إلى ذلك نزعات الاستقلال عن الغرب التي تسفر عنها سياسات أردوغان كلّما توفّرت المساحات المساعدة على ذلك، وزيادة الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وهي زيادة باتت محلّ استقطاب بدورها، لتناقض السقف الخطابي العالي، والسياسي أحياناً، مع الارتفاع في مستويات متنوعة من التطبيع.
لا يمكن لهؤلاء الإسلاميين إلا أن يطووا على قلق حقيقي من احتمالات تغيّر في تركيا يفقدهم مكاسبهم تلك، وهو أمر يشير بدوره إلى أنّ هذه الدولة لم تُنجِز، خلال حكم أردوغان، تحوّلا كافياً يرسّخ لها ثوابت سياسية، تجاه المنطقة، والصراع مع "إسرائيل"
في الجملة لا يمكن لهؤلاء الإسلاميين إلا أن يطووا على قلق حقيقي من احتمالات تغيّر في تركيا يفقدهم مكاسبهم تلك، وهو أمر يشير بدوره إلى أنّ هذه الدولة لم تُنجِز، خلال حكم أردوغان، تحوّلا كافياً يرسّخ لها ثوابت سياسية، تجاه المنطقة، والصراع مع "إسرائيل"، والموقع من السياسات الغربية، وحدود الحماية للاجئين السياسيين.
هذا المؤشّر يعمل باتجاهين، الأول: إدراك الاستفادة، من حكم أردوغان، وإن لم تكن جذرية مطلقة، والثاني: تمييز هذا الحكم عن الدولة التركية التي قد تتراجع عن تلك السياسات إلى حدّ كبير في حال حصل انتقال في الحكم، أو تتراجع إلى حدّ ملحوظ، كما يحصل مع أردوغان نفسه، بحسب احتياجاته المحلية والتحوّلات الإقليمية والدولية، وهو ما يتطلب تعبيرات أكثر حصافة عن سياسات أردوغان أو الدولة التركية، وتفكيراً أكثر عملية بخصوص المستقبل.
المشكلة في بعض التعبيرات الإسلامية العربية بخصوص ذلك، أنّها قد تشفّ عن راسخ أيديولوجي، أكثر مما هي تنطلق من تلك الدوافع العملية، بمعنى أنّها تطمس الموقف النقدي اللازم من التطبيع التركي؛ بستار من التحليل الذي لا يضيف شيئاً، كالقول مثلاً إنّ أردوغان لم ينشئ تطبيعاً مع الاحتلال وإنّما يدير تطبيعاً سبق مجيئه إلى الحكم، وهذا في سياق مقارنته بالتطبيع الذي تنشئه الدول العربية، وهو قول صحيح، ولكنه يصير مبتذلاً إذا قُصد به الدفاع عن هذه السياسات، إذ يفترض أن نبحث عن التحوّل الإيجابي لصالح القضية الفلسطينية في هذا الملف، لا أن نسعى إلى تغطية ثبات التطبيع أو تجديده، ليقال حينئذ إنه رئيس لتركيا لا لنا، وهو قول صحيح كذلك، ولكن لا مناسبة له في هذا المقام، ويستخدم في اتجاه معاكس كما يستخدم بقصد التغطية والدفاع، فطالما أنّه رئيس تحرّكه مصالح بلده أو مصالح حكمه، فما مصلحة غير الأتراك في تسييل الموقف من تطبيع يضرّ بالقضية الفلسطينية؟!
خلف هذه التقريرات التي لا تخلو من الابتذال والطرافة، تكمن الأيديولوجيا الفاعلة، وهي التسامح مع الشريك الأيديولوجي حينما يقترف ما نرفضه مبدئيّاً. لا تكفي هنا الشراكة الأيديولوجية لتثبيت الثقة وتعزيزها، فلا بدّ من قدر من الاقتراب الظاهر
خلف هذه التقريرات التي لا تخلو من الابتذال والطرافة، تكمن الأيديولوجيا الفاعلة، وهي التسامح مع الشريك الأيديولوجي حينما يقترف ما نرفضه مبدئيّاً. لا تكفي هنا الشراكة الأيديولوجية لتثبيت الثقة وتعزيزها، فلا بدّ من قدر من الاقتراب الظاهر، وهذا واضح في بعض السياسات التي سبق ذكرها، ولا بدّ من عناصر جذب، كنجاحات معينة، وإرادة إنجاز واستقلال حتى لو كانت تعاني من عقابيل تبطئ من حركتها، لتكون الدوافع الحقيقية "ما نقبله من رجلنا، لا نقبله من غيره، لأننا نثق برجلنا"، وهو الدافع الحقيقي لدى كل المؤدلجين، في تمرير سياسات مرفوضة مبدئياً، حتى لدى الأكثر صخباً (التاريخ طويل في ذلك مع التنظيمات القومية واليسارية والأنظمة "التقدمية" التي كانت تواليها، واليوم كذلك مع بعض السياسات والاختيارات الإيرانية وما يدور في فلكها). بل وحتى في التطبيع المغربي، لم يفقد حزب العدالة والتنمية المغربي من يدافع عنه بستار التحليل الذي يهدف إلى التماس الأعذار؛ في سياق أخذ موقف من توقيعه على اتفاقية التطبيع!
بالتأكيد لا يقتصر التحليل على هذا الستار المكشوف، فثمة كتابات وتعقيبات جادّة لإسلاميين يحاولون فهم التحوّل التركي الجاري وسعيه لتجديد التطبيع، وهو أمر ضروري، أي الفهم والوعي بالتحولات، لكنه حين المقارنة يكاد يختفي لصالح الموقف عند معالجة تطبيع الدول العربية، فالموقف الهجائي أكثر حضوراً من محاولة فهم أسباب تلك الدول ودوافعها، مما يعني أن حدّة الموقف من التطبيع تتغيّر بتغيّر المطبّع، وهذه هي الإشكالية الحقيقية.
قضية التطبيع إذا كانت مبدئية فينبغي ألا تتغيّر حدّة الموقف منها بحسب تغيّر صاحب السياسة إزاءها، فالموقف من صاحب السياسات تحكمه عوامل متنوعة واعتبارات متعددة، لا سيما في زمن الرداءة العامّة وضيق الخيارات
إنّ قضية التطبيع إذا كانت مبدئية فينبغي ألا تتغيّر حدّة الموقف منها بحسب تغيّر صاحب السياسة إزاءها، فالموقف من صاحب السياسات تحكمه عوامل متنوعة واعتبارات متعددة، لا سيما في زمن الرداءة العامّة وضيق الخيارات. فالاختلاف في تقييم أصحاب السياسات؛ حُسناً وسوءاً، اقتراباً وابتعاداً، من المفهوم أن ينعكس في العلاقة معهم، والخطاب العامّ إزاءهم، دون أن ينعكس ذلك في القضايا الثابتة. فبعض السياسات، كالتطبيع، تتطلب موقفاً واحداً لا تتغيّر درجته، حراسةً لأمانة القضية الفلسطينية التي تُسيّل ثوابتها وتُعوّم في زمن الرداءة، وحفاظاً على مصداقية المواقف، وهو أمر يخاطب به المثقفون الإسلاميون العرب، والفلسطينيون منهم من باب أولى، قبل غيرهم.
التمييز هنا مهم، ويعين على فهم مراد هذه المقالة، بين التحليل الضروري للفهم، وبين الإغراق في التحليل في موضع اتخاذ الموقف.. بين الموقف من موضوعة التطبيع نفسها حيث لا ينبغي أن يتغير، وبين الموقف من صاحب السياسة إزاءها إذ تحكمه عوامل متعدّدة.