شبكة قدس الإخبارية

قناص "عيون الحرامية": صورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر سقطت... ماذا قال عن عمليته؟

C667C68D-CB89-486C-87AF-E4C4E7765D0A

فلسطين المحتلة - قُدس الإخبارية: بعد 20 عاماً على عملية "عيون الحرامية" في المنطقة الواقعة بين رام والله ونابلس، وأدت لمقتل 11 جندياً من جيش الاحتلال، في ضربة عسكرية اعتبرت من بين الأقسى خلال الصراع مع "إسرائيل"، يتحدث منفذها ثائر حماد في مقابلة من داخل سجون الاحتلال عنها.

ونشرت مجلة "الدراسات الفلسطينية" نص المقابلة التي حصلت عليها من ثائر المحتجز حالياً في سجن "نفحة":

بعد مرور 17 عاماً على اعتقالك ما هي أحوالك؟ وكيف هي معنوياتك؟

 الحمد لله، الصحة جيدة والمعنويات تعانق السماء، وأنا بطبعي متفائل دائماً باقتراب الحرية لي ولشعبي، واقتراب الفرج من هذا السجن اللعين، كما أن إيماني عميق بأن الشعب الفلسطيني حيّ وقادر على تحقيق التحرير والخلاص من هذا الاحتلال، فأنا لا أراهن على أي جهة لتحرير فلسطين غير أبناء هذا الشعب الذي أثبت أنه القائد المبادر إلى التصدي للاحتلال. وبعد التجربة العملية، فإن قناعتي هي أن ليس ثمة رهان إلّا على هذا الشعب أولاً وأخيراً بخوض معركة التحرير التي ستدحر هذا العدو إلى الأبد.

كيف تحديت قهر السجن، وكيف تمضي حياتك اليومية؟

 منذ زجّي في السجن حرص إخواني الأسرى على مساعدتي، ولم يبخلوا عليّ بنصائحهم، وخصوصاً بإكمال دراستي، وبكثير من القراءة وممارسة الرياضة كل صباح، فمن خلالهم أدركت أن هدف العدو من سجني وسجن المناضلين الفلسطينيين، هو تحطيم الأسير نفسياً ومعنوياً وجسدياً، والأهم تدمير عقله. غير أن الرواد الأوائل من الأسرى القدامى كانوا قد قطعوا شوطاً طويلاً في مقاومة الاعتقال، وانتصروا على السجان وفرضوا قواعدهم الخاصة بعد تضحيات قدموها من خلال برامج مقاومة الاعتقال، ونقلوا خلاصة تجربتهم إلى مَن جاء بعدهم، فسهّلوا عليّ العيش خلف القضبان، وتحدي السجن والسجّان.

لقد صاغ الأسرى برامج لصون كرامة الأسير، وتمكنوا عبر نضال مستمر ومُكلف من وضع برامج تعليمية وتثقيفية، وكغيري من الأسرى انضممت إلى تلك البرامج التعليمية وتأهلت لشهادة الثانوية العامة، ثم نلت شهادة البكالوريوس بعد الالتحاق بالتعليم الأكاديمي في جامعة القدس المفتوحة، وهذا كله بشكل سري بعيداً عن عين السجان. كذلك استطعت أن أحافظ على صحتي من خلال ممارسة الرياضة، إذ إن الرياضة والمثابرة تولدان لدى الإنسان الإرادة والإيمان اللذين يقودان إلى الانتصار على السجّان.

التأسيس النضالي خلال الانتفاضة الأولى

متى بدأت مشوارك النضالي ضد الاحتلال؟

 بدأت تتبلور لديّ ملامح نضالية اعتباراً من سنة 1991 حين اغتيل عمي نبيل، خلال الانتفاضة الأولى، وكان عمري أحد عشر عاماً. وكان لاغتياله الأثر الكبير في مقاومتي للاحتلال، فخلال جنازته، رفعت العلم الفلسطيني بشكل عفوي، فحملني الشبان ورفعوني على الأكتاف لأصبح بمستوى النعش، وكم أثرت فيّ كلمات ذلك المقنع وهو ينعى عمي معاهداً إياه على مواصلة المشوار والسير على الطريق نفسه حتى النصر.

خلال الانتفاضة الأولى، اختلط عليّ مفهوما القلم والحجر، وكنت ما زلت في المدرسة آنذاك، فاستبدلت الألعاب بالحجارة أرجم بها جنود العدو خلال التظاهرات والاحتجاجات، وأشعر بثورة تتفجر في صدري، وبأن الحجر وسيلة للرد على جريمة الاحتلال بقتله عمي بوحشية، إذ إنه أصيب في قدمه، فألقى الجنود القبض عليه، ثم رموه من أعلى قمة الجبل ليتدحرج نحو الشارع حيث وضعوه في المركبة العسكرية وانهالوا عليه ضرباً، وخصوصاً على موضع الإصابة، وشرعوا في تكسير عظامه، مثلما كان قد أمرهم يتسحاق رابين الذي كان وزيراً لجيش الاحتلال، قبل أن يصبح رئيساً للحكومة، وأخيراً أعدموه بثلاث رصاصات في صدره، فارتقى شهيداً مغدوراً بتلك الوحشية والسادية اللائقتَين بعقلية الاحتلال الصهيوني الإجرامية.

زرعت تلك الحادثة فيّ بذرة مقاومة الاحتلال. لقد كان عمر عمي 21 عاماً حين استشهد، وأنا كنت في العمر نفسه عندما قمت بتنفيذ العملية التي كانت رداً على المجازر التي ارتكبها ويرتكبها الاحتلال، ومنها استشهاد عمي وشهداء الانتفاضة.

من الصيد إلى المقاومة: رصاصة لكل جندي

 ما هي علاقتك بالسلاح، ومَن دربك على القنص؟

 مذ كنت طفلاً وأنا أشاهد السلاح في أيدي الجيش الإسرائيلي، لكن المرة الأولى التي رأيته فيها عن قرب كانت في بيت جدي، حين أخرج بندقية قديمة من مخبئها الذي دام منذ حرب 1967، إذ ظلت مدفونة تحت التراب طوال تلك السنين، لأن الاحتلال كان يسجن كل مَن يحمل سلاحاً. لكن بعد تأسيس السلطة الفلسطينية في سنة 1994، أخرج جدي البندقية من باطن الأرض، علماً بأنه كان أحد الصيادين المعروفين في المنطقة، كما أنه خدم فترة لا يستهان بها في الجيش الأردني، فكان قناصاً محترفاً، ومعلماً ينصحني ويدربني على كيفية التعامل مع السلاح. وبدأت أرافق جدي في رحلات الصيد وأتدرب على السلاح بالتدريج، إلى أن تعلمت كيفية استخدامه والتهديف وإطلاق النار على شواخص حجرية ببندقية جدي الإنجليزية، ثم على الغزلان خلال رحلات الصيد.

لقد علمني جدي أسس الرماية: وضع البندقية على الكتف، ثم إغلاق العين اليسرى وكتم النفس وعدم الرجفة والثبات والهدوء التام قبل إطلاق النار، فضلاً عن التنشين [التصويب] من خلال وضع الشعيرة في منتصف أعلى لوحة المسافات للبندقية. ومع تكرار التجارب والممارسة، امتلكت موهبة القنص والخبرة التي استطاع جدي تعليمها لي من دون أن أشعر.

 لكن ما الذي دفعك إلى تنفيذ عملية ضد جيش الاحتلال؟

الدافع الأساسي كان المجازر وقتل الأطفال وإذلال أبناء الشعب الفلسطيني في كل مكان على الحواجز العسكرية، وذكرى استشهاد عمي وذلك الوعد الذي تعهد به ذلك المقنع خلال التشييع. كان التزامي أنا بتنفيذ ذلك الوعد قد تأخر بسبب عملية السلام، لكن حين تبدد وهمها وسقط اللثام عن الاحتلال ليظهر وجهه الحقيقي، واشتعلت انتفاضة الأقصى المباركة، وجدت فرصة للانتقام والوفاء بالوعد والعهد بالثأر للشهداء.

ولأني أمتلك سلاحاً شخصياً كنت قد اشتريته، وجدت أن الوقت حان للوفاء بالوعد، فخاطبت بندقيتي وقلت لها إن رصاصك يجب أن يذهب إلى قتلة السلام والأطفال والنساء والشيوخ والشباب العزّل، فالاحتلال أحقّ بالاكتواء بلهيبك من تلك الغزلان والطيور التي تضفي أملاً وخيراً وحياة على جبال فلسطين. واتخذت القرار.

تنفيذ عملية مثل التي قمت بها، تحتاج إلى قرار بالشهادة، كيف تصف مشاعرك في تلك اللحظة؟

 الذي يعيش الحياة بكرامة يعشق الشهادة، فالتضحية بالنفس ليست كلمة عابرة، أو فكرة يهواها العقل في لحظة عاطفية، وإنما هي تهيئة للذات بتقبّل الشهادة، والتي تتحول إلى قناعة يدفعها الواقع الموضوعي ويرسخها الإيمان بالله وعدالة القضية التي نقاتل من أجلها. فالتضحية بالذات، والتخلي عن الحياة، ليسا هواية أو مغامرة، وإنما لأجل هدف أسمى وقضية أغلى ترخص من أجلها الحياة، مثل قضيتنا الفلسطينية التي توجب علينا الدفاع والمقاومة لرفع الظلم عن شعبنا. وكلما اقتربت لحظة الشهادة من تجسيدها الفعلي، يقفز إلى الذاكرة أغلى الناس والأحبة من الأهل، وخصوصاً الأطفال منهم، فتبدأ تنظر حولك مودّعاً كل مَن وما تراه، وترنو إلى الجنة التي تدعو الله أن يأخذك إليها إلى جانب الأنبياء والشهداء، وتبدأ بمخاطبة أقرب الشهداء إليك، فتستحضر صورته وطيفه أمامك، متمنياً أن يلقاك بعد لحظات، وتستمر في الدعاء والتفكير في نفسك قبل البدء بالعملية بدقائق من إطلاق النار على العدو.

يبقى الإنسان عاجزاً عن وصف تلك اللحظة الأخيرة في حياته كونها مشاعر مقدسة في رأيي؛ فهي مشاعر إيمانية بحتة صادقة؛ مشاعر عظيمة ولها طعم ومذاق مختلف عن كل ما عداه في الدنيا. فلحظة السكينة التي يهبها الله للاستشهادي هي لحظة امتحان صدق الإنسان مع نفسه في الانتماء إلى الدين والوطن على حد سواء، وهي قمة الإخلاص والصدق مع جميع الشهداء الذين ارتقوا قبلك، وهي أمانة في عنقك ما دمت حيّاً، ولا يرتاح للمرء بال إلّا حين يُثبت صدقَه لأصدقائه الشهداء وللأهداف التي ناضلوا من أجلها.

 لماذا اخترت حاجز سلواد لتنفيذ عمليتك؟

 بعد أن طفح الكيل من كل ما قام به الاحتلال من مجازر بشعة في حقّ الشعب الأعزل، قررت تنفيذ عملية ضد حاجز عسكري مقام على أرض قريتي سلواد في منطقة يطلَق عليها اسم "وادي الحرامية" حيث يتعرض الفلسطينيون يومياً للإذلال والإهانة والقهر، ويعاقَب المرضى والحوامل والمسنّون، ويُمنع الأطباء من الوصول إلى أماكن عملهم لتقديم رسالتهم الإنسانية، وكذلك المدرس والعامل الباحث عن قوت يومه. أمّا جنود الاحتلال فيُفرغون على الفلسطينيين حقدهم بالتنكيل والتعذيب، وصلب الشباب تحت أشعة الشمس أو تحت المطر في البرد القارس، وإبقاء المارة وحجزهم داخل مركباتهم لساعات، وهذا كله ضمن سياسة العقاب الجماعي، فرأيت أن مقاومة الحاجز أولوية لنضال المسلح المقاوم من أجل تخليص أبناء شعبي من هذا الإذلال اليومي الذي يتعرضون له.

 كيف خططت للقيام بالعملية؟

 لم أكن يوماً جندياً أو عسكرياً في أجهزة السلطة الفلسطينية، ولم أعرف قوانين العسكر أياً تكن، وإنما انتهجت خطط الصيد، فرصدت الحاجز بالمنظار من أعلى قمة الجبل المطل عليه على مدار أربعة أيام متتالية، وبعد جمع ما أحتاج إليه من معلومات عن تحركات الجنود ونشاطات الجيبات العسكرية ومواعيد استبدال المناوبة أو الورديات والتأكد من خلو الجبال المحيطة المطلة على الحاجز من أي كمائن، اخترت الهجوم في الصباح الباكر لأن الجنود يكونون مرهقين من سهر الليل، بينما أكون أنا في قمة النشاط واليقظة والحيوية. وليلة العملية أخرجت بندقيتي من مخبئها وتفحصتها، وهي أميركية من نوع M1 صنُعت في سنة 1936، واستُخدمت في الحرب العالمية الثانية وفي حرب فييتنام، وكنت قد اشتريتها من أحد كبار السن في القرية، مع سبعين طلقة خاصة بها، وجهزت البدلة العسكرية التي كنت أرتديها في رحلات الصيد ووضعت في جيب القميص قرآناً صغيراً، وبعد أن تأكدت من تجهيزاتي البسيطة لم يبقَ أمامي إلّا الانطلاق. وفي تلك الليلة لم أستطع أن أغمض عينيّ، وبقيت مستيقظاً حتى سمعت صوت المؤذن ينادي لصلاة الفجر، فارتديت الملابس العسكرية وحملت البندقية على كتفي ولبست حذاء الجبل، فسكنت نفسي وازدادت إصراراً وثباتاً، ثم فتحت الباب قليلاً وألقيت نظرة الوداع على إخوتي الأطفال، ولم يُضعفني الحنين لأني أعلم أن الشهداء يظلون ينظرون من السماء إلى أحبابهم.

خرجت أشق طريقي بهدوء وعيني تلقي بنظرات الوداع على بوابة الدار وجدرانها التي تحمل رائحة ذكريات طفولتي، فودعت طفولتي وشبابي الحاضر. وفي الطريق جالت في ذهني صور الشهداء، وصورة عمي يوم حمل السلاح ويوم استشهاده، ومررت بين أشجار الزيتون المبلل بقطرات الندى والممتزج برائحة الأعشاب البرية التي تتساقط قطرات من أوراقها على الأرض الحمراء، كأنها جنة بلون دماء الشهداء الذين ضحوا ورووا بدمائهم الزكية تلك الأرض وسهولها وجبالها الطاهرة.

تركت أشجار الزيتون والسهول الحمراء خلفي وصعدت إلى الجبل الذي يطل على الحاجز، وبدأت بالتسلل بين الأشجار والصخور حتى وصلت إلى أقرب نقطة، وكان نصيبي شجرة زيتون عتيقة، زُرعت وترعرعت قبل قدوم الاحتلال، ضخمة الجذع ومتشابكة الأغصان، فاحتضنتها نيابة عن جدي، وعلى جذعها ركزت بندقيتي فساعدتني على دقة التصويب، وكان ذلك قبل طلوع الشمس. جلست أنتظر الشروق ولم أتوقف عن الدعاء بأن أنال الشهادة التي نالها عمي والشهداء.

 كيف كانت اللحظة التي حسمت فيها قرارك بالضغط على الزناد وإطلاق الرصاصة الأولى؟

تمالكت أعصابي حين لاحظت عيني جندياً يصرخ مهدداً سيارة تُقِلّ عمالاً رافضاً السماح لها بالمرور، وفور مغادرتها عائدة من حيث أتت حسمت قرار الطلقة الأولى، فحبست أنفاسي وصوبت بندقيتي نحو ذلك الجندي المتعجرف، وأطلقت العنان لأصبعي الذي ضغط على الزناد، فإذا بالرصاصة الأولى تُسقطه أرضاً من دون حراك.

كان لتلك الرصاصة الدور الإيجابي في سير مجريات أحداث العملية، إذ شكلت عنصر المفاجأة الذي له الدور الأكبر في نجاح أي عملية، بينما ترك استقرار الرصاصة في رأس ذلك الجندي أثراً لا يوصف على هدوء أعصابي وإعطائي دافعاً إلى استمرار العملية، وتكرار الضغط على الزناد، لتتابع الطلقات الخروج من فوهة البندقية، الواحدة تلو الأُخرى.

هل كنت تعرف عدد الجنود المتمركزين حول الحاجز؟

طبعاً، كنت على علم بعددهم مسبقاً من خلال رصدي ومتابعتي للموقع قبل مرحلة الهجوم عندما جمعت المعلومات الكافية عن المكان، فعددهم كان ستة مدججين بأحدث الأسلحة.

 وما كان مصير أول جندي أصبته؟

 قُتل على الفور لأن الرصاصة أصابته في رأسه حيث أردت لها أن تكون، فقام جندي آخر، وكردة فعل على سقوط زميله، بإطلاق النار عشوائياً، لكني عاجلته برصاصة أُخرى رمته أرضاً قتيلاً، وكان هناك جندي ثالث خلف أكياس الرمل التي ظنّ أنها ستحميه، ومن شدة خوفه وارتباكه خبأ جسده وأظهر رأسه ليحدد مصدر إطلاق النار، ولذلك كان هدفاً سهلاً لرصاصة ثالثة أردته خلف تلك الأكياس الرملية.

 هذا يعني أنك كنت ترمي طلقة طلقة؟

 نعم، فالقنص لا يكون دقيقاً إلّا إذا أُطلقت كل طلقة على حدة، وساعدني في ذلك أنني كنت أحدد قبل إطلاق النار، موقع الجندي وأين ستصيبه الرصاصة بعيداً عن خوذة الرأس والدرع الواقي على صدره، فكان الهدف هو الوجه والعنق.

وماذا بعد قتل أول ثلاثة جنود؟

 بعد سقوط الجنود الثلاثة، خرج من المبنى القديم المقابل ثلاثة جنود آخرون، وكنت لهم بالمرصاد لمعرفتي المسبقة بوجودهم، إذ إن آثار النوم كانت ظاهرة على وجوههم، وقد سيطرت عليهم المفاجأة التي أفقدتهم السيطرة، فبادروا إلى إطلاق النار عشوائياً في جميع الاتجاهات، الأمر الذي أكد لي أنهم لم يحددوا موقعي، فعاجلتهم برصاصة تجاه الجندي الأول الذي كان أكثر وضوحاً فسقط أرضاً، وهو ما أدخل الرعب في قلب الجندي الخامس الذي أيقن أنه في دائرة الهدف ومرمى نيراني، فحاول العودة إلى المبنى قاطعاً الطريق التي سلكها قبل قليل، لكن رصاصتي قطعت طريقه وهو يركض فأردته قتيلاً، فحاول الجندي السادس التقدم بحذر نحو زميله لإنقاذه أو إبعاده عن المكان، لكن رصاصتي أفشلت محاولته، وكان مصيره مثل زميله.

ست رصاصات وستة قتلى؛ كيف كان شعورك عند هذه اللحظة؟

الكلمات لا تصف المشاعر، إذ ليس ثمة كلمات تصف سعادتي، ولا سيما أن الله أكرمني برؤية الظفر والنصر بأم عيني قبل أن أنال الشهادة، فضلاً عن قناعتي في لحظتها بأنني أوفيت بشيء من حقّ الشهداء وحقّ عمي في الانتقام لهم ممّن أجرم في حقّهم وفي حقّ شعبنا. لقد عكس الأمر حاله على نفسيتي، وعزز ثقتي بتفوقي الميداني، وفي المقابل سقط القناع عن "الجيش الذي لا يُقهر"، فبتّ أكثر جسارة واطمئناناً في أثناء التنفيذ.

لماذا لم تغادر المكان بعد أن أرديت ستة جنود، ولم يُكتشف مكمنك؛ ماذا حدث بعد ذلك؟

لم يتغير موقفي، فقد كنت أطمح إلى أن أكون شهيداً، ولذلك ثَبَتُّ كجذع شجرة الزيتون التي كنت أتموضع خلفها؛ هي تحميني منهم وأنا أنظر إليهم وأنتظر صيداً آخر، وإذ بأحدهم يتحرك. اعتقدت أنه يحاول خداعي فأطلقت نحوه رصاصة أجهزت عليه تماماً، واستبدلت مخزن الرصاص الذي يتسع لثماني رصاصات من عيار300، وثبّتّ البندقية على جذع الشجرة منتظراً تعزيزات ستصل إلى الحاجز، ومتأكداً أن ميزان القوة ليس العامل الوحيد الذي يؤخذ بعين الاعتبار في حسم نتائج المعركة في قتال الشوارع، وهي فكرة راقتني وأعطتني دافعاً إلى إكمال هدفي.

 وصلت تعزيزات جديدة، فكيف تعاملت معها؟

 وصل جنود آخرون إلى الحاجز الذي تأكدت أنني أسيطر عليه وعلى حركة العابرين فيه، فلم تكد تمضي دقائق حتى وصلت تلك المجموعة التي كانت تستقل جيباً عسكرياً وقف عند الحاجز، فهمّ جندي كان يجلس إلى جانب السائق بالنزول، وما إن فتح الباب، وقبل أن تصل قدمه إلى الأرض، حتى سبقته رصاصتي فظل معلقاً بالباب ينزف بغزارة، فغادر السائق مقعده واقفاً من فتحة أعلى الجيب وشرع ينظر في اتجاهي، وقبل أن يحدد موقعي، استقرت رصاصتي في عنقه، أمّا الجندي الثالث الذي كان جالساً في المقعد الخلفي، فلم يخرج من الجيب، وإنما فتح الباب قليلاً محاولاً أن يحدد اتجاه اطلاق النار، فأطلقت رصاصة نحوه، فأغلق الباب ولا أدري إن كنت قد أصبته أم لا، لكنه لم يخرج قط.

 وماذا حدث بعد ذلك؟

 كان الصمت يلف الحاجز، وما لبثت أن وصلت سيارة تبيّن لي أن فيها ثلاثة مستوطنين مسلحين ترجلوا منها، وتوجه اثنان منهم إلى مبنى الحاجز، بينما بقي الثالث إلى جوار السيارة وسلاحه بيده ووجهه إلى ناحية المبنى ونظره في اتجاهي، فأرديته، في حين كان الآخران يطلقان النار شرقاً، أي عكس اتجاه مكاني. وفي هذه الأثناء وصل أيضاً ضابط بمركبته الخاصة، فنزل ومعه بندقية من نوع M16، وجلس في محاذاة السياج الحديدي عند حافة الشارع وعيناه تجولان وتبحثان عن مكاني، لكن إطلاق المستوطنَين النار داخل المبنى، جعله يظن أنهما حددا مكاني، فظل ينظر في اتجاه الشرق، وربما اعتقد أنني داخل المبنى، مستبعداً وجودي على قمة الجبل غرباً، وقبل أن يدرك ما حدث كانت رصاصتي قد أصابته فسقط متدحرجاً إلى أسفل الوادي، وتبيّن فيما بعد أن ذلك الضابط كان على رأس فرقة تدرب وحدات المظليين في جيش الاحتلال.

 إلى أي حد بقيت أعصابك متماسكة؟

 كنت كلما مر الوقت، أزداد راحة وطمأنينة وتركيزاً على الهدف، وأُصبح أكثر دقة في الرماية، ولم يكن ذلك إلّا بتوفيق من الله ورعايته.

وماذا بعد مدرب المظليين ذاك؟

 بقي المستوطنان، وكان أحدهما يحمل مسدساً وقد اختبـأ خلف مركبة الضابط القتيل، ناظراً إلى الشرق في اتجاه قريتي، فأطلقت عليه رصاصة فسقط خلف تلك المركبة. ثم وصلت مركبة عسكرية أُخرى، وعلى غير المعتاد توقفت تحت أشجار الصنوبر التي تغطي أغصانها الحاجز، وكان مقدّم المركبة في اتجاهي، فانتظرت أن يترجل ركّابها منها لدقائق، لكن لم ينزل أحد من الجنود الذين بادروا إلى إطلاق النار نحوي من داخل مركبتهم المحصنة، فرددت بأكثر من خمس رصاصات أصابت إحداها أحدهم، بحسب ما قالت وسائل الإعلام لاحقاً، وكانت إصابة مباشرة في صدره، لكنه ظل حياً بسبب ارتدائه درعه الواقي للرصاص.

أدركت أن موقعي كُشف، وبات الرصاص يُطلَق في اتجاهي، وأوراق الزيتون تتساقط فوق رأسي، بينما تعطلت بندقيتي القديمة، وعلقت رصاصة في حجرة الإطلاق بعدما لم تستجب لضغط الزناد، فسحبت أجزاء البندقية (الأقسام) إلى الخلف لتخرج الرصاصة وتقع أرضاً، ووضعت رصاصة أُخرى مكانها لكنها انفجرت داخل البندقية التي باتت حطاماً، وخصوصاً الجزء الخشبي منها، والذي سبق أن قمت بصيانته، لأن الخشب صار بالياً مع الزمن نظراً إلى الرطوبة التي تسربت إليه فتآكل وهو في مخبئه في باطن الأرض. وبسبب انفجار البندقية، شعرت بدوار أصابني من أثر لهيب البارود المرتد على وجهي، لكني لم أصب بجروح واضحة.

 ما الذي فعلته بعد فقدانك سلاحك في وسط المعركة؟

 تلك اللحظة كانت من أصعب المواقف التي عشتها في حياتي، فقد فقدت بندقيتي وسط المعركة التي كنت أسيطر على مجرياتها، الأمر الذي أشعرني بالقهر، وراودتني فكرة استكمال القتال بالحجارة من أعلى الجبل، وكدت أفعلها، فالتقطت حجرين من الأرض، لكن سرعان ما تركتهما ورأيت أن الانسحاب هي الفكرة الأكثر صواباً.

لم أكن أتوقع أن أبقى حيّاً، لكن ما كان يعزيني هو أنني تجاوزت الأفكار الخطأ والمبالغ فيها التي كنت أحملها في نفسي عن أن الجيش الإسرائيلي قوي ومدرب إلى درجة أنه لا يمكنني إصابته، فكيف بقتله وهزيمته. اكتشفت أنه جيش عادي يمكن قتله وهزيمته وقهره، ورأيت بأم عيني، وسمعت، كيف أن الجنود يبكون ويصرخون ويتوسلون من خلف جدران ذلك المبنى والسواتر الترابية وهم مختبئون من نار بندقيتي القديمة. وصلت إلى قناعة بأنه جيش من المرتزقة لم يواجه جنوده الموت بشجاعة ولم يثبتوا في المعركة، الأمر الذي ساعد في ثباتي في أحضان شجرة الزيتون طوال العملية، لكن ما حدث غيّر مسار العملية كلها، والتي كنت أتمنى أن تستمر، لأنه كان في حيازتي 45 رصاصة بعد، كنت آمل بأن أطلقها جميعها، فأنا لم أطلق سوى 24 طلقة قبل أن تنفجر البندقية، وهذا من حسن حظهم.

الصياد ينسحب بأمان

 كيف تعاملت مع واقع خسارتك سلاحك وسط المعركة؟

عندما قررت الانسحاب كان الرصاص ينهمر عليّ بغزارة، فصعدت نحو قمة الجبل الذي تغطيه أشجار الزيتون، فأنا ابن تلك الجبال وتربطني بها علاقة الفلاح والصياد في آنٍ واحد، الأمر الذي سهّل عليّ رسم طريق الانسحاب من دون أن أترك أي أثر لأقدامي على الأرض، إذ كنت أقفز من صخرة إلى أُخرى وأنا أصعد مسرعاً محنيّ الظهر إلى أقصى درجة ممكنة، ومطلقاً العنان لأقدامي كي لا أعطيهم فرصة التسديد وسط وابل من الرصاص المصطدم بالصخور والذي كنت أسمع أزيزه. وبعد نحو 500 متر صعوداً، غبت عن أنظارهم، فانعطفت يساراً لأهبط من جديد من الطرف الآخر للجبل نحو طريق العودة، باذلاً قصارى جهدي في إخفاء الأثر عبر السير على الأشواك والصخور وأغصان الأشجار اليابسة إلى أن وصلت إلى المنزل عند الساعة الثامنة والنصف من صباح ذلك اليوم.

هل لحق بك الجنود في أثناء الانسحاب؟

 أعتقد أن مكمني في الجهة المعاكسة لمنزلي في قرية سلواد، كان خير تمويه لي، إذ إن العدو ركز اهتمامه في البحث في اتجاه شرق القرية، فلم يلحق بي أي جندي، لكن ثلاث طائرات عمودية كانت تحلق فوق المكان شرقاً وغرباً، وعندما كانت تُقبل نحوي كنت أتوارى تحت الأشجار وبين الصخور، وما إن تبتعد حتى أنطلق مجدداً.

وماذا حلّ بالبندقية؟

 علمني جدي أن السلاح يترك رائحته حيث يكون، لذلك تركت البندقية المهشمة في مكانها لأنها أصبحت عديمة الفائدة.

 وهل أغضبتك لأنها خانتك في أثناء المعركة؟

لا أقبل نعتها بالخيانة، بل كانت وفيّة وأعطتني أكثر ممّا كنت أتوقع، لكن بما أنها بندقية قديمة وعجوز، فإنها معذورة، فهذا ما استطاعت تقديمه.

 إذاً، لم تكن تتوقع هذا العدد من القتلى والجرحى؟

 لم أكن أتوقع قتل أكثر من اثنين أو ثلاثة جنود كحدّ أقصى، ثم أصبح شهيداً، لكن كان صيدهم سهلاً، وقد أكرمني الله بقتل أحد عشر جندياً وإصابة ستة بجروح، والحمد لله على توفيقه: }وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى{ (سورة الأنفال، الآية 17).

ما أستطيع قوله هو أن صورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر سقطت بالنسبة إليّ تماماً بعدما كنت أشعر برهبة من قوة جيش الاحتلال، إذ كنا في أثناء المواجهات وإلقاء الحجارة نرى منهم شراسة وإجراماً، ولذلك كنا نفضل إلقاء الحجارة على مركبات المستوطنين اعتقاداً منا بأنهم غير مدربين، وأن خطرهم أقل، ولم نكن نعلم أنهم جميعاً جنود بلباس مدني.

وبتّ بعد تجربتي أفهم كيف هُزم جيش الاحتلال في لبنان في سنة 2000، وكيف تمكن الفلسطينيون من الصمود في وجهه وتكبيده خسائر كبيرة في قطاع غزة في الحروب الثلاث المتتالية، وفي الضفة الغربية حيث سطّر أبناء المقاومة أروع البطولات في عمليات الحواجز في عين عريك وسردا وعين يبرود وفي الخليل، وخصوصاً عملية وادي النصارى التي قُتل فيها أكثر من ثلاثة عشر جندياً والضابط المسؤول عن المنطقة. والشواهد كثيرة على أن هذا الجيش هو هالة مبنية على الكذب والتخويف، وقوته يمارسها فقط على المدنيين العزّل والأطفال الذين يقتلهم كل يوم في قطاع غزة، وقبلها في مجزرة قانا في لبنان، لكني أُدرك أيضاً أنه يجب أن نكون مقتنعين بأن هذا الجيش قوة يجب عدم الاستهانة بإمكاناتها وقدراتها، غير أني لا أرى مبرراً لعدم مواجهته والإيمان بالقدرة على هزيمته.

 بعد أن نجحت في الانسحاب والعودة سالماً، كيف تلقيت ما نُشر عمّا قمت به؟

 لا شك في أنني سررت، وصحيح أني لم أنل الشهادة لكن الله منحني الحياة وطعم الانتصار معاً، وتلك اللذة التي لا توصف، إذ يكفي احتفاء واحتفال أبناء شعبي وسعادتهم بتلك النتيجة التي أذلت جيش الاحتلال، وخصوصاً فرحة أمهات الشهداء وكونهن يرين في أمثال هذا العمل الأمل بأن هناك مَن ينتقم لدماء أبنائهن، فهذا أمر يجعلك كمقاوم تزداد قناعة بمقاومة هذا العدو المجرم. لكني كنت أحاول دائماً الابتعاد عن سماع ما يدور من كلام على العملية، ولا سيما في الأيام الأولى، وذلك كي أحافظ على هدوء أعصابي أمام الأهل والأصدقاء والأقارب، ولئلا ألفت الانتباه والشكوك من حولي.

الاعتقال يسجن الجسد لكن العقل يبقى حرّاً

 كيف تمكنت من أن تبقى حرّاً لفترة طويلة على الرغم من خطورة ما قمت به؟

 لقد ساهمت عدة عوامل في عدم اعتقالي بعد العملية: فشل جيش الاحتلال واستخباراته في العثور على أي دليل أو طرف خيط يدل على طريقي؛ عدم إخباري أي جهة تنظيمية عن العملية؛ عدم تبنّيها من طرف أي تنظيم؛ كون هويتي لم تكن معروفة، ولم أكن مطلوباً أو مطارداً. ولهذا أكملت حياتي الطبيعية بشكل اعتيادي، فكنت أتنقل بين المدن والقرى عبر الحواجز العسكرية من دون قلق أو خوف، وأتابع ممارسة عملي في بناء المساجد والمآذن، وهذا اختصاصي، فضلاً عن ورش البناء المتنوعة.

 كم من الوقت بقيت حراً قبل الاعتقال؟

المناضل الثائر يبقى حراً حتى إذا اعتُقل، فالحرية هي حرية العقل والفكر والروح وإن كان الجسد مقيداً. لقد تم اعتقال جسدي بعد مرور عامَين ونصف عام من تاريخ تنفيذ العلمية، لكنني، وأنا في السجن، حر.

 بعد مرور 17 عاماً على اعتقالك، هل ما زلت تؤمن بمشروع الشهادة؟

 مَن يناضل بقناعة لا يمكن أن تتغير عقيدته ما دامت أهدافه كلها لم تتحقق، وما دام الاحتلال جاثماً على صدورنا، كما أن التضحية بالنفس تبقى وارده. غير أن هذا لا يعني أننا عشاق موت، وأننا يئسنا من الحياة، بل إننا نحب الحياة أكثر من أي شعب آخر، لكن بكرامة وحرية لا بذلّ وإهانة واحتلال، ومَن يَخْتر طريق المقاومة، فإن عليه أن يظل جاهزاً للاحتمالات كافة.

 يدّعي الاحتلال أن الاستشهادي يقتل نفسه هرباً من صعوبة الحياة وإحباطاً من المجتمع، أو لضيق العيش والأزمات المادية، فبماذا ترد عليه؟

 هذا مجرد ادعاء، والدليل ما حدث معي. فأنا كنت مشروع شهيد في ريعان شبابي، في الوقت الذي لم يكن ينقصني شيء: كنت أمتلك مركبة خاصة، وعملاً مستقلاً، وكل ما أحتاج إليه كشاب كنت قادراً على تحقيقه، ومع ذلك اخترت الشهادة. أمّا هدف هذا الادعاء، فهو إبعاد الفلسطينيين عن ممارسة هذا الأسلوب المؤلم للعدو والذي ليس له حل، بل إنه سلاح يدبّ الذعر والرعب في قلوب الأعداء.

نحن نحب الحياة، وعندما نلجأ إلى هذا الأسلوب، يكون السبب وجود المحتل فوق أرضنا، وممارساته القمعية والمذلة، وميلان موازين القوى التقليدية لمصلحته، فضلاً عن ممارسته أبشع الأساليب الإجرامية والسادية ضد المدنيين وقتلهم الأطفال. ونحن لا هدف لنا سوى تحرير أرضنا والفوز برضى الله وجنّته إن رزقنا الشهادة، ومثلما قال الشاعر عبد الرحيم محمود: "فإمّا حياةٌ تسرّ الصديق// وإمّا مماتٌ يغيظ العدى".

القيادات الفلسطينية كلها مسؤولة

يقال إن ميزان القوى غير متكافىء، بل إنه يميل إلى مصلحة العدو، وبالتالي لا مجال للمقاومة المسلحة. ما رأيك في هذا؟

 لو كانت شعوب العالم تنتظر أن يميل ميزان القوى إلى مصلحتها، لما تحرر أحد، فالتجارب كلها أثبتت أن العمل المسلح، إذا استُخدم بشكل مدروس ومدعوم بأساليب نضالية متنوعة، يُنتج نصراً لمَن لا يملك وسائل قتال موازية لوسائل قتال يمتلكها العدو.

ونحن، الفلسطينيين، سلاحنا وميزان قوتنا الراجح والأساسي يكمن في حقنا الطبيعي في أرضنا، والاعتماد على إرادتنا وإيماننا بتحقيق أهدافنا المتمثلة في تقرير مصيرنا بأيدينا، بجميع الوسائل النضالية، وفي مقدمها الكفاح المسلح.

 اختارت قيادة منظمة التحرير النضال الدبلوماسي وجمدت المقاومة بمختلف أشكالها، بذريعة عدم تكافؤ ميزان القوى، فما رأيك؟

 المبدأ يقول إن البندقية تزرع والسياسة تحصد، وإن المقاومة المسلحة لا تكفي وحدها. ففي تجربتنا الفلسطينية، نجحت الدبلوماسية في انتزاع قرارات مهمة في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لكن هذه القرارات لا يمكن أن تترجم على أرض الواقع إن لم تجد عناصر قوة ميدانية تفرض على الاحتلال الرضوخ لها، وخصوصاً تلك القرارات التي تطالبه بالانسحاب. إن غياب المقاومة الميدانية بأشكالها كلها، المسلحة وغير المسلحة، يسمح للاحتلال بالتملص من تنفيذ القرارات التي تبقى حبراً على ورق.

إن أول مَن يتحمل مسؤولية استمرار الاحتلال في التوسع الاستيطاني والسيطرة على الأرض، هو القيادة الفلسطينية كلها من دون استثناء، فمهمة هذه القيادة يجب أن تكون الحفاظ على الأرض، وليس الحفاظ على الحكم في الضفة وغزة وعشق الكرسي والسلطة على حساب المصلحة الوطنية. إن الشعب الفلسطيني لم يعتد يوماً السكوت على إجراءات الاحتلال، لكنني أعتقد أن خطاب الفصائل السياسي أثّر سلباً في المواطن الفلسطيني، مثلما أثّر الانقلاب في غزة سلباً على الروح الوطنية، كما أن الخطاب السلطوي والتخويني خلق حالة من عدم الثقة بين المواطن والقيادة السياسية.

 لكن ألا ترى أن هناك اختلافاً في الرأي بشأن تعريف المقاومة وممارستها؟

 المشكلة ليست في مبدأ المقاومة ومَن يمارسها، المشكلة تكمن في الرأس، أي عند القيادة التي تتعامل مع المقاومة موسمياً، أو بحسب المصلحة الخاصة. المقاومة يجب أن تكون عبر استراتيجيا واضحة وضمن مشروع وطني شامل، وليس من أجل مصالح حزبية ضيقة. إن المقاومة وسيلة من أجل التحرير وليست هدفاً في حدّ ذاتها، فهي تعني أيضاً تضحيات بالأرواح والأجساد والأملاك، ومن أجل ذلك يجب أن نرتقي بمقاومتنا إلى مستوى تلك الدماء، وأن نتحلى بالشعور بالمسؤولية الأخلاقية والوطنية والدينية تجاه شعبنا الذي يجب ألّا يكون حطباً لحرق المراحل مثلما يعتقد البعض. ولذلك يجب أن نكون صادقين مع أبناء الشعب حين نقول لهم إن مقاومتنا هي من أجلهم، لا من أجل مآرب شخصية حزبية ومصلحة نفعية ذاتية هنا أو هناك.

 أخيراً، ماذا تود أن تقول للشعب الفلسطيني، وبماذا تحلم وماذا تتمنى؟

 بداية أرسل إلى شعبي من زنزانتي تحية صمود وافتخار واحترام وشوق إليهم في كل مكان في الداخل وفي مخيمات الشتات، فأنا أعتز وأفتخر بانتمائي إلى هذا الشعب العظيم. وأقول لهم إن هذه القضية وهذا الشعب يستحق منا أن نضحي بالنفيس من أجل نيل الحرية والاستقلال وإقامة الدولة المستقلة على أرضنا وعاصمتها القدس الشريف.

أمّا حلمي فهو أن أرى فلسطين محررة قبل موتي، وأن أحتفل بهذا التحرير وهذا اليوم التاريخي الوطني الذي طال انتظاره، وأن أشاهد أبناء شعبي المعذب يفرح بعد حزن طويل، وأن أسمع زغرودة والدتي وأمهات الشهداء احتفالاً بذلك اليوم الذي هو حلم كل مَن ضحّى من أجل فلسطين، وابتهاجاً بعودة اللاجئين إلى قراهم وأراضيهم التي هُجّروا منها قبل سبعين عاماً، وبانتهاء العذابات في المخيمات والخلاص من كابوس الاحتلال الذي أرهقنا جيلاً بعد جيل. أحلم بأن أعيش في وطن فيه بحر وأرض وسماء من دون احتلال ولا خوف ومنع هنا وهناك، وأن أستمتع بتلك الحرية التي نسمع عنها. أحلم بأن أرى الأقصى خالياً من جنود الاحتلال النجس، وأرى الشيوخ والنساء والشباب يصلّون فيه أحراراً، وأطفال فلسطين يلهون ويلعبون في باحاته. أحلم بنقل جثمان ياسر عرفات إلى القدس حيث أوصى في وصيته الطاهرة، وهو القائد الذي استشهد وعيونه ترنو إليها عشقاً.

أحلم بأن أشاهد فرحة كل أم شهيد عندما تعود فلسطين إلى شعبها، وهو الأمر الذي لن يتحقق من دون صبرها ومن دون تضحية ابنها الشهيد. أمّا أمنيتي الشخصية فهي أن أعود إلى حضن أمي فأقبّل جبينها وقدميها ويديها وأنام في حضنها، وكذلك زيارة قبر جدي الذي علمني حمل السلاح، وقبر أبي الذي توفي بعد أن خرج من السجن قبل عامين. كما أتمنى زيارة شجرة الزيتون المباركة التي احتضنتني ووقتني من رصاص العدو. أشتاق إلى بلدتي سلواد وربوعها وسهولها وجبالها، وإلى جوادي أمتطيه عبر السهول مثلما كنت قبل اعتقالي، وأشتاق إلى ضم بندقيتي من جديد.

#سلواد #انتفاضة الأقصى #عيون الحرامية #ثائر حماد