فلسطين المحتلة - قُدس الإخبارية: في 11 كانون أول/ ديسمبر 1967 انطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، امتداداً للفرع الفلسطيني في حركة القوميين العرب، التي شكلت الحاضنة الفكرية والنضالية لطيف واسع من مؤسسي الجبهة، على رأسهم الدكتور جورج حبش قائد العمل السياسي والعسكري لها، على مدار عقود، وواحد من رموز الحركة الوطنية الفلسطينية في انطلاقتها الثانية، بعد هزيمة حزيران/ يونيو، التي انطلقت كإجابة على سؤال "أين دور الفلسطيني؟" في المواجهة، بعد فشل الجيوش العربية في تحقيق النصر.
بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، عقد الفرع الفلسطيني في حركة القوميين العرب اجتماعاً لبحث أسباب "النكسة" والسبيل لمعالجة آثارها، وقرر المجتمعون تشكيل قيادة عليا للإشراف على النشاط الفلسطيني على رأسها الدكتور حبش وعضوية هاني الهندي، ووديع حداد، وتوزعت المسؤوليات على النحو التالي: الجهاز التنظيمي بقيادة جورج حبش، والجهاز الخاص بقيادة وديع حداد وهاني الهندي.
وقرر المؤتمر إقامة قيادة مساندة في الأردن برئاسة أبو علي مصطفى، وإرسال كوادر عسكرية وقيادية إلى الأرض المحتلة، ورفع "شعار وراء العدو في كل مكان"، وإنشاء قيادات محلية في الضفة المحتلة مرتبطة بقيادة ميدانية في رام الله، وفي غزة بدأ الجهاز العسكري في الجبهة بتكوين خلايا فدائية وجمع السلاح وتنفيذ هجمات على أهداف الاحتلال.
حاول الفرع الفلسطيني تشكيل جبهة نضالية تضم عدداً من القوى الأخرى مثل جبهة التحرير الفلسطينية وأبطال العودة ونشطاء من التيار الناصري في الأردن، وقررت هذه القوى تشكيل قيادة عسكرية في الضفة المحتلة، بقيادة أبو علي مصطفى، ونفذت عدة عمليات ضد الاحتلال، لكن بعد سنوات شهدت الجبهة عدة انشقاقات بسبب خلافات فكرية وسياسية.
خلال فترة تواجد الحركة الوطنية الفلسطينية في الأردن، كان للجبهة الشعبية حضورها في معسكرات الفدائيين ومخيمات اللاجئين، وخاضت مع المنظمات الفدائية عمليات عبر الحدود، تزامناً مع تشكيل خلايا داخل الأرض المحتلة، قبل أن ترحل الفصائل عن الأراضي الأردنية عقب معارك دامية مع النظام، الذي اتهمته الجبهة بأنه "يحاول تمرير مشروع تصفوي للقضية الفلسطينية"، كما جاء في مؤتمرها الرابع.
تعرض تنظيم الجبهة الشعبية في الأراضي المحتلة، لعدة ضربات من قبل جيش الاحتلال، طوال تاريخه النضالي بدأت بعد اعتقال خلية حاولت تنفيذ عملية ضد مطار اللد، تبعها حملة اعتقالات طالت 56 من كوادر الجبهة، وفي نهاية عام 1967 تعرض 138 من كوادر الجبهة للاعتقال، وفي السنة اللاحقة اعتقلت قوات الاحتلال عدداً من كوادرها، وهو ما تكرر عدة مرات في سنوات السبعينات والثمانينات، الأمر الذي دفع قيادات وكوادر فيها مثل أحمد سعدات وأحمد قطامش وغيرهما إلى التخفي لسنوات، قبل أن يتعرضوا للاعتقال والتعذيب في سجون الاحتلال، وصدرت عدة روايات وشهادات تاريخية عن تلك المرحلة.
رفعت الجبهة شعار "وراء العدو في كل مكان"، وهو ما ترجمه عملياً التنظيم الذي قاده الدكتور وديع حداد، في عمليات خطف الطائرات الإسرائيلية التي شكلت العنوان الأبرز لمرحلة من النضال الفلسطيني، كان الهدف منها تكبيد الاحتلال خسائر مادية ونفسية وملاحقته في كل أماكن تواجده ونقل الرواية الفلسطينية إلى العالم، قبل أن يتم وقفها بقرار من قيادة الجبهة، في مؤتمر عقدته في نوفمبر 1970 وقالت إن "الهدف من هذه العمليات قد تحقق باعتبارها تكتيكاً وليست فعلاً استراتيجيا"، كما جاء في شهادة للمناضلة ليلى خالد التي تعتبر أحد رموز تلك المرحلة.
عقب انتقال قوات منظمة التحرير الفلسطينية، إلى لبنان، ربطت الجبهة الشعبية علاقات واسعة مع أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية التي تشاركت معها في الفكر اليساري والماركسي، وخاضت الجبهة معارضة واسعة لنهج من أسمتها "القيادة المتنفذة" في المنظمة حينها، في إشارة إلى قيادة حركة فتح، وقاطعت الجبهة اجتماعات اللجنة التنفيذية للمنظمة عدة مرات، على خلفية رفضها لما أطلق عليه "البرنامج المرحلي" وما اعتبرته لاحقاً خطوات للتوجه نحو التسوية، لكنها ارتبطت في الوقت ذاته بعلاقات قوية مع قيادات فتح، كما يروي جورج حبش في مذكراته، واعتبرت أن منظمة التحرير "منجز وطني يجب الحفاظ عليه"، وحافظت على تمثيل بمستويات مختلفة فيها، تزامناً مع توجيهات انتقادات "للتيار اليميني فيها وتحالفه مع البرجوازية الفلسطينية".
ربطت الجبهة علاقات قوية مع التنظيمات الثورية اليسارية، في مختلف دول العالم، واشتركت معها في عمليات ضد أهداف الاحتلال، بينها عملية مطار اللد المحتلة التي شارك فيها نشطاء من الجيش الأحمر الياباني، واعتبرت أن "أي تفكير استراتيجي بمعركة التحرير الفلسطينية يجب أن يشمل تعبئة كافة قوى الثورة على الصعيد العربي والعالمي".
كان للجبهة حضور في العمل الفدائي الفلسطيني انطلاقاً من لبنان، وخلال اجتياح 1982 شاركت في المواجهة مع جيش الاحتلال الذي احتل مساحات واسعة من الأرض اللبنانية، قبل أن يحاصر بيروت عدة شهور، شهدت صموداً أسطورياً للقوات الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين، بشهادة قادة من المعسكر المعادي للثورة الفلسطينية، قبل أن ترحل قوات منظمة التحرير باتفاق جرى برعاية المبعوث الأمريكي فيليب حبيب.
في سنوات الثمانينات عادت العلاقة بين الجبهة وقيادة المنظمة للتوتر، على خلفية خلافات في التعامل مع قضايا سياسية مختلفة، وبعد انطلاق الانتفاضة الأولى شاركت الجبهة في القيادة الموحدة للانتفاضة التي ضمت عدداً من فصائل منظمة التحرير، وكان له دور في المواجهة التي امتدت في قرى ومدن الضفة والقطاع.
اتفاقية أوسلو في 1993، شكلت مرحلة جديدة في العمل النضالي الفلسطيني ضد الاحتلال وفي العلاقات الداخلية الفلسطينية، أعلنت الجبهة الشعبية مع تنظيمات فلسطينية أخرى بينها حماس والجهاد الإسلامي، رفض الاتفاقية وتشكيل إطار موحد لمعارضة خط التسوية.
قبل اندلاع انتفاضة الأقصى، تسلم أبو علي مصطفى قيادة الجبهة وعاد إلى الضفة المحتلة تحت شعار "عدنا لنقاوم لا لنساوم"، وكان له دور في توجيه خلايا الجبهة العسكرية التي شاركت في المواجهة مع الاحتلال، خلال الانتفاضة، وكان أول قيادي على مستوى الصف الأول تغتاله دولة الاحتلال فيها.
بعد اغتيال الشهيد أبو علي مصطفى، أعلنت الجبهة عن اختيار أحمد سعدات أميناً عاماً لها، وعقب اغتيال خلية من الجبهة لوزير السياحة في حكومة الاحتلال، رحبعام زئيفي، اعتقلت السلطة الفلسطينية سعدات وعدداً من كوادر الجبهة، واستمرت في احتجازهم حتى اقتحام قوات كبيرة من جيش الاحتلال، لسجن أريحا واعتقالهم.
شاركت الجبهة الشعبية في الانتخابات التشريعية التي جرت في عام 2006، وفي عام 2020 قررت ترشيح قائمة منها لانتخابات المجلس التشريعي، قبل أن يقرر الرئيس عباس إلغائها بحجة عدم سماح الاحتلال بمشاركة القدس فيها.
في السنوات الماضية، اتسمت العلاقات بين الجبهة وقيادة السلطة بالتوتر، وأعلنت الشعبية رفضها للمسار السياسي الذي سلكته قيادة الرئيس محمود عباس، في التفاوض مع دولة الاحتلال، وطالبتها بالانسحاب من الاتفاقيات ووقف التنسيق الأمني.
حافظت الجبهة في مراحل مختلفة على عمل عسكري ضد الاحتلال، وآخر الضربات التي تلقتها من جيش الاحتلال كانت عقب عملية "عين بوبين" قرب رام الله، حيث شن جيش الاحتلال حملة اعتقالات واسعة بحق كوادر الجبهة وقياداتها في الضفة، وفي غزة تربط الجبهة علاقات ازدادت قوة من حركة حماس، في السنوات الماضية، وبنت جناحاً عسكرياً شارك في مختلف المعارك مع الاحتلال، وله حضور في غرفة العمليات المشتركة.
قدمت الجبهة خلال تاريخها عدد من قياداتها شهداء بينهم غسان كنفاني وأبو علي مصطفى ووديع حداد وجيفارا غزة غيرهم، وتفاعلت مع مختلف مراحل الحركة الوطنية الفلسطينية، وقدم عدد من كوادرها انتقادات لبعض الخيارات السياسية، خاصة حول المشاركة في التشريعي والعلاقة مع قيادة السلطة ومنظمة التحرير، لكنها بقيت في كل المراحل تحافظ على دور نضالي في المواجهة مع الاحتلال.