تكثر في السنوات الأخيرة المبادرات والأطروحات، التي تحاول أن تُقدِّم معالجة للأزمة الفلسطينية الراهنة، وهذه الكثرة بالضرورة ناجمة عن حقيقة الأزمة، والتي هي حين التشخيص أكبر من أزمة، وأقرب إلى الانسداد التاريخي، الذي لم تَخلِق فيه الهبّات والمعارك النضالية انزياحات كافية، سواء المقاومة من داخل غزّة، أم الهبّات المتتابعة في القدس والضفّة الغربية.
كما أنّ التحدّي الضخم الذي مثّلته حقبة ترامب، وموجة التطبيع التحالفي العربي/ الصهيوني، ومشروع الضمّ، والانهيار الفعلي لمشروع التسوية الذي جمّد السلطة الفلسطينية عند حدّها الراهن بلا أيّ أفق جدّيّ مستقبلي.. ذلك كلّه لم يدفع للتغيير الجوهري في المسار السياسي لقيادة منظمة التحرير، بما يعيد توحيد الشعب وقواه، ويفتح نافذة في هذا الجدار التاريخي المنسدّ.
يتّضح تماماً التداخل الوشيج والعميق بين الأزمة الداخلية، وبين العوامل الخارجية المنشئة لعُقَد القضية الفلسطينية، من اختلال موازين القوى المؤسّسة لـ"إسرائيل"، وانكشاف الإقليم العربي لصالحها، ومن ثمّ كشف ظهور الفلسطينيين. ولا ينبغي والحالة هذه التغافل عن حقيقة أنّ تأسيس سلطة في ظلّ الاحتلال قد كبّد الفلسطينيين الانقسام، وحصر ممكناتهم النضالية، ورهن الإرادة السياسية لواقع السلطة المحكوم موضوعيّاً بسقف الاحتلال والتمويل الإقليمي والدولي، بالإضافة لما نجم عن ذلك من بنى تحتيّة، اقتصادية واجتماعية، انعكست أدوات هندسة لواقع الجماهير وإرادتها وقدرتها على النضال.
هذا الظرف المنغلق على نفسه، والخانق للفلسطينيين، يبدو مبرِّراً لهذه المبادرات والرؤى والأفكار المتكاثرة، والتي تعالج المشروع الوطني الفلسطيني في مستوياته الكلّية الكبرى، أو في أزمته الداخلية، على مستوى السياسات والمؤسسات، وما يتبع ذلك من واقع انقسامي. هذه المبادرات والأطروحات تُقدّم اليوم من مختلف المجالات المهتمّة بالقضية الفلسطينية، سواء كانت حزبية سياسية أم ثقافية وأكاديمية، بيد أنّها قد تكون تنفيساً للأزمة، وإراحة للضمير، وبحثاً عن مجالات اشتغال على مستوى القول والتنظير، للعجز عن الفعل والمساهمة العملية في شقّ الطريقة الصحيحة خارج المسارات المنغلقة والمأزومة.
يُلاحظ في المبادرات والأطروحات أنّها كثيرة كثرة تفتقد الجِّدّة، بمعنى أنها تكاد تكون متطابقة، مما يغني والحالة هذه بإلإحالة، بدلاً من استهلاك الوقت بالتكرار، ثمّ هي، في أكثرها ولا سيما في الأزمة الداخلية، لا تضع يدها على الجرح المتقيّح في أكفّ الفلسطينيين، وتميل إلى التجميل، والمخاطبات المشبعة بالمجاملة، أو المساواة بين الفرقاء. وفي المستوى الكلي تميل إلى إعادة البحث في النظرية الأساسية للمشروع الفلسطيني، بالموزانة بين أطروحة الدولة الواحدة وبين أطروحة حلّ الدولتين، وكأنّ مشكلة الفلسطينيين أنهم لم يقدّموا مبادرات كافية تقنع الاحتلال، أو تقنع القوى المؤسّسة له والحامية له، مع أنّ العكس هو الصحيح. إذ ظلّ الفلسطينيون يقدّمون مبادرتهم للعالم والاحتلال، ثمّ يجرّون بعضهم للتماثل والتطابق في الموقف السياسي الجانح للخصم من المشروع الوطني الفلسطيني، لصالح مساعي إقناع الاحتلال، أو تحقيق القبول الإقليمي والدولي.
ليست المشكلة في أن تكون للفلسطينيين أهداف مرحلية أو نهائية، وفي أن يحقّقوا اتفاقاً على قواسم مشتركة أثناء مسارهم الطويل، ولكن المشكلة في تحويل أهدافنا إلى مبادرات تجاه العدوّ، بدلاً من أن تكون قاعدة لنضال حقيقيّ في الواقع، ثم في صدور هذه المبادرات عن تصورات رومانسية، تتوهّم أن المبادرة بمجرّدها كافية لتحقيق إنجاز في الواقع، مع أن التجربة التي ينبغي الاعتبار بها تفيد بأنّ العدوّ، والقوى الحامية له، والمنظومة الإقليمية المتواطئة معه أو الضعيفة تجاهه، تستغل الاستعداد لتقديم المبادرات لاجترار المزيد من التنازلات.
ما يحتاجه الفلسطينيون نضال قابل للديمومة والاستمرار، وشرط الديمومة والاستمرار مرهون بالأدوات النضالية التي لا تستنزف الشعب، وتراعي الظروف الذاتية للحالة الفلسطينية ومحيطها، من حيث محدودية الجغرافيا، وتفوّق العدوّ، وافتقاد الحليف القريب الملاصق، وذلك إلى حين تغيّر موازين القوى. فوظيفة النضال الحفاظ على المكتسبات، والحدّ من تقدّم العدوّ، وصيانة الوعي العام، والمساهمة في إغلاق منافذ تقدّم العدوّ في الداخل ونحو الإقليم والخارج، وهذا وحده الذي يجلب التضامن الدولي الحقيقي، ويحفظ الالتفاف العربي الجماهيري، لا الاستكانة تحت غطاء المبادرات.
قد يقال إن الفلسطينيين قد ناضلوا كثيراً، وهذا صحيح، والأكثر أنهم ما زالوا يناضلون، ولا يمكن القول إنّ هذا النضال لم يثمر في الأهداف المذكورة آنفاً، وإنما تكبّل هذا النضال وتراجعت فاعليته، بعدما كبّلته المبادرات السياسية التي تحوّلت في النتيجة إلى سلطة تتناقض جوهريّاً مع احتياجات النضال ومتطلباته. وإذا كان إطلاق نضال أكثر فاعلية، ويتسم بالديمومة والاستمرار، يعاني من تكبيلات هذا الواقع الغليظة، فإن ذلك لا يعني ميكانيكيّاً المزيد من التنازلات في صورة المبادرات، بل يعني استمرار المحاولة، والاتسام بالصبر الاستراتيجي، والتخلص من الدوافع الخلاصية التي تستطيل أمد النضال، ولا تأخذ كفاية بعين الاعتبار ضخامة القضية الفلسطينية بما يفوق طاقة الفلسطينيين وحدهم، كما لا تعتبر بقدر كاف بأخطائنا التاريخية، بل قد تجترّها وتعيد تقديمها من جديد.