حين يتحدث الرئيس محمود عباس عن أن الوضع اصبح صعباً للغاية وان أحداً لم يعد يحتمل ما تقوم به إسرائيل، يكون قد اصدر تحذيراً قوياً وحاسماً لكل من يهمه الأمر، خصوصاً المجتمع الدولي وفي المقدمة الولايات المتحدة. لكأنه يقول، إن الصبر لم يعد مفتاحاً للفرج، فإما إن تتحركوا قبل فوات الأوان، أو أن المشهد كله سيتغير على نحو دراماتيكي.
تحذير الرئيس يعكس غضباً فلسطينياً متصاعداً إزاء الحرب التي تخوضها إسرائيل ضد الوجود الفلسطيني برمته في القدس والضفة الغربية، كما انه يعكس شيئاً من خيبة الأمل إزاء برودة الفعل الأميركي والأوروبي والدولي عموماً إزاء ما تقوم به إسرائيل.
تصدر المزيد من القرارات الداعمة للحقوق الفلسطينية من قبل العديد من اللجان المنبثقة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبموافقات كاسحة ولكن كل ذلك لا ينعكس فعلا مؤثرا على السياسة الإسرائيلية التي تواصل تحديها لكل المجتمع الدولي بما في ذلك الولايات المتحدة.
في مؤتمره الصحافي إلى جانب وزيري الخارجية يائير لابيد والمالية افيغدور ليبرمان، يعود رئيس الحكومة المستوطن نفتالي بينيت، ليؤكد بلهجة متحدية، أنه لا مكان لقنصلية أميركية تخدم الفلسطينيين في القدس، ويزيد على ذلك انه ينوي إقامة مستوطنة في بيتا على النحو المتفق عليه مع قادة المستوطنين.
شريكه في تقاسم فترة رئاسة الحكومة، الذي يصفه البعض زورا وبهتانا بأنه يترأس حزبا وسطيا، يقترح أن تتم إعادة فتح القنصلية الأميركية في رام الله .
يعني ذلك انه لا فرق بين أطراف التحالف الحاكم على كل القضايا التي تتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بما في ذلك مع الأسف، جماعة منصور عباس الإسلاموية، الذي يعلن بكل صفاقة، كما فعل رئيسه بينيت انه لن يلتقي أبو مازن. بينيت كان قد رفض مرارا مجرد فكرة اللقاء بالرئيس الفلسطيني مكررا أنه لا توجد مفاوضات سياسية مع الفلسطينيين، وأنه لن تقام «دولة إرهابية».
ثمة من يرى بأن إسرائيل يمكن أن تنجح في رفض إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس. لسببين: الأول، أن الحكومات الإسرائيلية السابقة لديها تجارب مع الإدارات الديمقراطية التي تتراجع عن وعودها لصالح الانحياز للسياسة الإسرائيلية.
مرحلة الديمقراطي باراك أوباما التي امتدت لثماني سنوات تشهد على هذا الادعاء، فلقد اضطرت تلك الإدارة لابتلاع العديد من الإهانات التي تلقتها من قبل مسؤولين إسرائيليين رسميين بما في ذلك رئيس الحكومة آنذاك بنيامين نتنياهو ، وانها تراجعت على نحو مأساوي عن وعود كانت قد قطعتها على نفسها، في مقدمتها الموقف من الاستيطان. أما السبب الآخر فهو الاعتقاد بأن قرارا مثل فتح القنصلية في القدس هو قرار سيادي إسرائيلي، وبالتالي فإن ذلك قد يوفر للإدارة الأميركية ذريعة للتراجع عن قرارها فتح القنصلية في القدس.
في الحقيقة فإن كل ما يتصل بالقدس، لا تنطبق عليه الأصول الدبلوماسية وبالتالي لا سيادة عليها لدولة الاحتلال، خصوصاً أن القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، لا تزال تعتبر القدس أرضاً محتلة. بل إن القانون الدولي يدين إجراءات الاحتلال لتغيير معالم هذه المدينة المحتلة، وأما اعتراف الولايات المتحدة إبان إدارة ترامب وبعض الدول القليلة، فإنه لا يشكل مساسا أو تغييرا في القانون والقرارات الدولية، بحيث لا يمكن أن يشكل بديلاً، ولا يشكل مساساً بالمرجعية القانونية الدولية.
لكنها مرة أخرى، سياسة الدولة المارقة، التي تتصرف من فوق وخارج القانون الدولي، والتي تواصل تحدي المنظومات الدولية بما في ذلك مواقف الدول الحليفة لها. إسرائيل لا تستطيع تحدي المجتمع الدولي على هذا النحو، لولا الحماية الأميركية الدائمة التي تكيف سياساتها ومواقفها مع متطلبات السياسة الإسرائيلية، وأيضاً بسبب عجز الآخرين من الفاعلين الدوليين سواء من يعتبرون أنفسهم حلفاء تاريخيين للشعب الفلسطيني، أو من دول الاتحاد الأوروبي، وبعضها ساهم مساهمة حاسمة وفعلية في فرض وإنجاح المشروع الصهيوني.
لا بد من ملاحظة أن بينيت لم يكن ليجرؤ على استخدام هذه اللهجة المتحدية والحاسمة، إلا بعد أن نجح التحالف في تمرير مشروع الموازنة العامة، بما يعني ضمان استمرار وصمود الحكومة.
المشكلة هنا ليست في سياسة الحكومة الإسرائيلية التي لا إمكانية للمراهنة على اعتدالها أو إمكانية الضغط عليها، وإنما في الولايات المتحدة التي تقدمت بوعود معلنة، ومكررة، ولكنها حتى اللحظة تتردد في تنفيذ ما وعدت به رغم مرور ما يقرب من عشرة أشهر على وجودها. وبالعكس من ذلك، فإن السلطة الفلسطينية تواجه ضغوطاً هائلة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والمتعاونين العرب، لإرغام السلطة، على القبول والتعاطي الإيجابي مع فكرة السلام الاقتصادي واقعياً. المال من الممولين يستخدم لابتزاز السياسة الفلسطينية، وتطويعها، طالما أن الأوضاع الفلسطينية مفككة على النحو الذي هي عليه، وبينما الأطراف المتدخلة كل منها يفكر في مصلحته الذاتية.
لا تدرك كل الأوساط الفاعلة، والمتدخلة دوليا وإقليميا أن الشعب الفلسطيني لن يصبر طويلا على هذه السياسات، خصوصا ان إسرائيل تجاوزت كل الخطوط الحمر. إسرائيل ماضية في سياسة التطهير العرقي وهدم منازل الفلسطينيين والقدس تتعرض يوميا لاقتحامات المستوطنين بحراسة ومشاركة قوات جيش الاحتلال، وثمة من يحرض على تدمير المسجد الأقصى، ونقل قبة الصخرة. ما يجري في الضفة من مواجهات مجرد مقدمات لمرحلة جديدة من المواجهات الساخنة، التي سترغم الكل على التعامل بشكل مختلف مع وقائع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي رغم ما يبدو من هوان وضعف.