التلاعب والتضليل الذي قامت به محاكم الاحتلال بالأمس حين أعلن إعلام الاحتلال عن "تراجع" المحكمة المركزية في القدس عن قرار اتخذ قبل أيام باعتبار "الصلوات الصامتة لليهود" في الأقصى "عملاً مشروعاً لا يمكن تجريمه"-رغم أنها عملياً أكدت هذه القاعدة المزعومة وطبقتها- شكل نموذجاً من التحايل يجب التوقف عنده؛ فالمحتل يحاول أن يحسم معركة الأقصى على مستوى الوعي بإعادة إنتاج فهمنا لمقدسنا، حتى لا نخوض المعركة من الأساس، أو حتى نخوضها على قياسه وفي مساحات راحته.
1- إعادة تعريف الوضع القائم: يقول الخبر الذي وزع بالأمس "وبموجب الوضع القائم في القدس منذ عام 1967 فإنه يحق لليهود الزيارة ويحق للمسلمين العبادة في الأقصى"، وهذا الكلام خاطئ تماماً ويحمل التعريف الصهيوني المستجد للوضع القائم.
الوضع القائم في القدس يعني في القانون الدولي أن تبقى المقدسات -وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك- على الوضع الذي كانت عليه قبل 5-6-1967، أي أن المسجد الأقصى مقدس إسلامي خالص لا صلة لأي دينٍ به سوى الإسلام . أما الصهاينة فيعرفون الوضع القائم باعتباره الإجراءات التي فرضها وزير حربهم موشيه ديان من طرف واحد بعد الحرب، أي إنها إجراءات إرادية يمكن للكيان الصهيوني تغييرها في أي وقت يشاء!
2- من "الزيارة" إلى "العبادة": في 21-8-2003 بدأ اقتحام المتطرفين الصهاينة للأقصى تحت مسمى "الزيارة"، وعلى مدى سنوات طويلة حاول الاحتلال إضفاء المشروعية على "حق اليهود في الزيارة" حتى تمكن من انتزاع غطاء أمريكي لها في "تفاهمات كيري" التي أعلنت من عمان في 24-10-2015، وسكت عنها الأردن الرسمي صاحب مسؤولية رعاية مقدسات القدس بموجب القانون الدولي، فاعتبر الصهاينة بذلك أن هذا بات مكسباً دائماً، وباتوا يعرفون الوضع القائم بأنه "حق الزيارة لليهود مقابل العبادة للمسلمين"، وليس لهذا التعريف أي أصل أو سند أو مشروعية.
اليوم يحاول الصهاينة الانتقال من الزيارة إلى العبادة، لإضفاء المشروعية عليها، ليصبح الأقصى مقدساً مشتركاً لديانتين، ولتؤسس الهيكل معنوياً بفرض العبادات التوراتية حتى وإن كانت المباني مباني الأقصى، وهم ماضون إلى ذلك بالفعل وعبر مواسم الأعياد التوراتية تحديداً، ويحاول الكيان الصهيوني إضفاء المشروعية على العبادة اليهودية في الأقصى بشكلٍ تدريجي وإن كان متعجلاً أكثر كثيراً من السابق.
قبل هاتين التجربتين كانت تجربة محاولة الاحتلال إعادة تعريف الأقصى، مستفيداً من اندثار مفهومه بين المسلمين؛ فالتعريف الصهيوني للأقصى يقول إنه المسجد القبلي وقبة الصخرة فقط، أما الساحات فلها اسم آخر ووضع آخر فهي "حرم الشريف" بتعبيرهم، أو "جبل الهيكل"، وهي ليست مقدسة للمسلمين لكنها مقدسة لليهود ما يستدعي تقاسمها على الأقل، بل إن هذا التقاسم "حسن أخلاق" من الصهاينة باعتبار الساحات مقدسة لليهود بخلاف المسلمين! هذا التعريف بالمناسبة هو المعتمد في صفقة القرن، وفي "اتفاق أبراهام" الذي وقعته دول عربية، بينما الأقصى في حقيقة الأمر هو كل المساحة داخل أسواره بمختلف أشكالها المبنية والمفتوحة والمزروعة.
أخيراً، لا بد من التأكيد أن محاكم الاحتلال ليست لها شرعية أو صلاحية على الأقصى والمقدسات، ومن الناحية الحقوقية قراراتها منعدمة كأن لم تكن، لكنها أداة من أدوات الاحتلال لتنفيذ مخططاته، ولهذا تجري متابعتها والتركيز على تطوراتها، حتى نواجه هذه المخططات بما تستحق.