يمكن للعدوّ الصهيوني أن يتفاخر بقدرته الفائقة على تعلّم الدروس، ومراكمته لخبراته الأمنية، وفوق ذلك تحصّنه في قلعة مسيجة بالتقنيات العالية، فإنّ السائر من أقصى جنوب الخليل إلى أقصى شمال جنين، يجد نفسه سائرا في خطّ مرصود بالكامل من تقنيات العدوّ، التي يظهر بعضها ويخفى آخر، فضلا عن تسوير الضفّة بما علا وخفي ورصد وتحسس. ثمّ إنّ المجموعات الفلسطينية التي يطالها بالاعتقال تباعا، يتبدى لها من قدراته على التنصت ما يستعصي على معرفة الفلسطينيين. ثمّ إن سجونه قلاع في قلاع، بيد أنّ هذه الخبرة المتراكمة هي دروس مكتسبة، أملتها عليه ضرورات الصراع مع الفلسطينيين، الذين يمكنهم أن يتفاخروا أيضا بأنهم ما فتئوا يفسدون عليه دروسه التي يتعلمها.
هروب ستة سجناء فلسطينيين من أصحاب المحكوميات العالية، من سجن جلبوع، الذي يعده العدو واحدا من مفاخره في تعلّم الدروس وحصار عزائم الفلسطينيين.. هذا الهروب الذي كان في 6 آب/ أغسطس 2021 لم يكن الأوّل في تاريخ العزيمة الفلسطينية، لا في تاريخ الحركة الأسيرة، ولا في تاريخ الصراع برمّته.
فإذا كان العدوّ يبني على خبرته الصراعية مع الفلسطينيين، ويغلق بذلك ثغراته، فإنّ الفلسطينيين، في معجزة تاريخية، يبنون على إرث عميق في ضميرهم الجمعي. فمهما بدا لهم، ولغيرهم، الانقطاع الجغرافي أو التاريخي في الخبرة النضالية، فإنّ هذه الخبرة تظهر وكأنّها فطرة مغروزة فيهم، تنبت من عمق وجودهم المجرد. فتاريخ الفلسطينيين في تحطيم السجن بدأ منذ قتالهم الطويل والمرير للاستعمار الإنجليزي الممهد للاستعمار الصهيوني. فالمسافة الفاصلة بين لحظة هروب القائد يوسف حمدان من السجن الإنجليزي عام 1938، وهروب الشبان الستة عام 2021، هي 83 سنة من الإصرار والمحاولة، وإثارة القلق الوجودي للعدوّ المُعسكَر.
العارف بتاريخ المقاومة الفلسطينية، والعقبات الهائلة التي تنتصب في ساحة الضفّة الغربية منذ انتهاء انتفاضة الأقصى، والخبرة الأمنية الكبيرة التي راكمها العدوّ في هذه الساحة، يدرك أن العمل المقاوم في هذه الساحة يقارب المستحيل، على الأقل في إمكان المراكمة عليه، للتمدد الأمني الضخم في الساحة كلها، مصحوبا بأدوات مراقبة وضبط وسيطرة، في مساحة محدودة جغرافيا، تعين بمحدوديتها، وافتقارها للتواصل الخارجي، وقلة سكانها النسبية، على إمكان هندستها لأغراض الضبط والسيطرة. إلا أنّ هذه الهندسة التي انبثق عن عقل استعماري يحسن تعلم الدروس، ويتنفس أمنا، ويتشكل معسكرا كبيرا، لم يزل يهينها، مرات ومرات، فتيان وفتيات منذ العام 2014، حينما أخذت سكاكين المطابخ، والسيارات، تطارد جنود العدو ومستوطنيه، في عمل لن يراكم عليه صاحبه، ولكنه يفيض أملا، بقدر ما اندفع من إحساس كبير بالمسؤولية.
وفي الأثناء، بصق العديد من الشبان في منظومة الضبط والسيطرة التي تفترش شوارع الضفة، وتحدّق بها.. عاصم البرغوثي مثلا، حينما انتقم لأخيه الشهيد صالح البرغوثي، حدق في الكاميرات المنصوبة جيدا. ليست القضية أمنا ومقاومة فحسب، بل هي تحدّ وكرامة أيضا. عاصم الذي هو في السجن الآن، واثق من أنه سيخرج يوما في سياق صراع الإرادات هذا.
تاريخ تحطيم إرادة الدولة المُعسكَرة، طويل، ويكفي - والحديث عن تمكن أسرى من الهروب من سجن مصفح بما يمكن للعقل الأمني الخالص أن يبتكره - أن يجري التذكير بصفقة تبادل الأسرى التي أبرمتها المقاومة في غزة مع العدوّ؛ بالجندي الأسير لديها جلعاد شاليط، في واحدة من مستحيلات العالم، حينما تتمكن مقاومة محاصرة، في بقعة ضيقة وصغيرة ومكشوفة ومحفوظة للعدوّ، من أسر جندي، والاحتفاظ به خمس سنوات، ثم ولأول مرة في تاريخ الصراع، إبرام الصفقة من داخل فلسطين، لتكرر الأسر مرة أخرى في ملحمة حربية عام 2014، في خط متصل من محاولات أسر الجنود والمستوطنين، وفي خط متصل مع ملحمة صناعة المستحيل في غزة، والتي كان وظلّ، من أبرز صورها وأكثرها جوهرية، حفر الأنفاق.
حينما افتتح العدوّ سجن جلبوع، في ذيول انتفاضة الأقصى عام 2004، قال إنه تعلم الدرس من محاولات الهروب في سجني مجدو وشطة، وأنه لا هروب من جلبوع. فقد صُمم السجن على نحو يجعل الهروب منه مستحيلا. باتت في سجن جلبوع كلمة الهروب رديفا لكلمة المستحيل، لكن العزائم التي حاولت الهرب من قبل من سجن جلبوع نفسه، عادت وحاولت في 6 آب/ أغسطس لتكسر إرادة العدو، وهندسته ومعجمه الاستعماري، وتجعل من كلمة جلبوع رديفا لكلمة الممكن.
بالإرادة والسهر والكتمان وتكرار المحاولة والتحايل على العدوّ، وبالملعقة، وما توفر من قليل معدني، أمكن حفر نفق تحرر منه الفلسطيني وانحبس فيه العدو، نفق حفر في الخرسانة وصفائح الفولاذ، في حين كانت إدارة السجن تفتش غرف السجن ثلاث مرات يوميا للتأكد من ضمانته الأمنية.
مفارقة النفق لم تزل عجيبة، يحفره الفلسطيني لنفسه أملا، وينحشر فيه العدوّ يأسا.
في أيار/ مايو 1987، تمكن مصباح صوري من قيادة مجموعة من الأسرى للهروب من سجن غزة المركزي، بعض المجموعة قاد سلسلة من العمليات، في أيار، وآب/ أغسطس، وتشرين الأول/ أكتوبر، حتى استشهدت المجموعة مع قائدها مصباح في 6 تشرين الأول/ أكتوبر، لتنفجر الانتفاضة الفلسطينية الكبرى بعد ذلك بشهرين، فما الذي يمكن تعلمه من هذا التاريخ المتصل، سوى أنّ الأمل حليف الفلسطيني العاري من القوة والتقنية، واليأس حليف العدوّ المدجج بالقوة والتقنية؟!