تجلّت الظاهرة التنظيمية في أقصى حالاتها فعلا وعنفوانا؛ في الضفّة الغربيّة في انتفاضة الأقصى (الانتفاضة الثانية)، ولم تكن التنافسية النضالية ذات طابع تنافريّ، بالرغم من الاختلاف الطفولي في بعض الحالات على تبنّي بعض العمليات، وهو الأمر الذي تجاوزته المقاومة في نسختها الأكثر نضوجا في قطاع غزّة الآن.
كانت تجربة انتفاضة الأقصى ملحميّة مكثّفة، تتسم بالقدرة العالية على الإثخان، ولنمطها العسكريّ الخالص فقد أضحت نخبويّة إلى حدّ بعيد، بالرغم من قدرتها على التنظيم والاستقطاب واستثمار الراغبين في القتال. إلا أنّ الحشد الجماهيري في هذا النمط من العمل سيقتصر غالبا على المشاركة في جنازات تشييع الشهداء الضخمة، بعدما بدأت الانتفاضة جماهيرية، بالاصطدام بالاحتلال على نقاط التماس، إلا أن إيغال الاحتلال في قتل المدنيين، وانعدام الأفق ساعتها للنمط المستدعى من زمن الانتفاضة الأولى لوجود سلطة محلّية، وتخليص الاحتلال نفسه، باتفاق أوسلو، من الاحتكاك المنغمس بالفلسطينيين، انتهى إلى ضرورة التحوّل إلى العمل العسكري الخالص.
استثمرت السلطة الانقسام، الذي اتخذ صورة الصراع مع حماس، فرصة لفرض سياسات تحييد الجماهير عن العمل العامّ، واحتاج ذلك إلى تفكيك فصائل المقاومة، وتجريف الحركة الوطنية، ومصادرة منابر العمل العامّ، والعمل على إعادة هندسة المجتمع بسياساتها الاقتصادية والأمنية والثقافية
انتهت انتفاضة الأقصى إلى استكمال الاحتلال انسحابه من قطاع غزّة، واجتياحه لمناطق (أ) في الضفّة الغربية في عملية السور الواقي، لتكتمل الصورة بواقعين مختلفين، بين الضفّة وغزّة، بعد فوز حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006، ثم، بما سمّته الحركة الحسم العسكري عام 2007، الذي وفّر لها ولبقية فصائل المقاومة فرصة لإدارة بناء تنظيمات مسلّحة، تسيّدت المشهد النضالي منذ العام 2007، في حين قابلتها سياسات معاكسة لإدارة الضفّة الغربية.
استثمرت السلطة الانقسام، الذي اتخذ صورة الصراع مع حماس، فرصة لفرض سياسات تحييد الجماهير عن العمل العامّ، واحتاج ذلك إلى تفكيك فصائل المقاومة، وتجريف الحركة الوطنية، ومصادرة منابر العمل العامّ، والعمل على إعادة هندسة المجتمع بسياساتها الاقتصادية والأمنية والثقافية. ولا يمكن القول إنّ ذلك لم يكن ليثمر ببعديه؛ التنظيمي، فقد تفككت التنظيمات من الناحية البنيوية، والشعبي، حيث كان لا بدّ من سياسات الهندسة والتحييد أن تنتج كمّا وكيفا.
ظلّ الحال على ذلك سبع سنوات، فقد أخذت الحالة في التغيّر في الضفّة، وإن ببطء منذ العام 2014. فقد سبقت الحرب على غزّة سلسلة أحداث في الضفّة، أبرزها أسر مجموعة تابعة لحماس ثلاثةَ مستوطنين صهاينة في الخليل، ثم هبّة الطفل محمد أبو خضير في القدس. انتقلت الأحداث إلى غزّة، في حرب أعادت صياغة الوعي من جديد في الضفّة الغربية. فثورة السكاكين التي اتسمت بالفردية واللا تنظيمية، مثّلت استجابة لحالة الوعي التي رفعتها حرب العام 2014 في غزّة.
طالت ثورة السكاكين أكثر من ثلاث سنوات، وما تزال آثارها جارية حتّى اللحظة، وفي حين أنّها كشفت عن عجز التنظيمات عن إعادة بناء نفسها، وتجاوز العقبات الموضوعية الهائلة في ساحة الضفّة، فإنّها من جهة لم تكن منفكّة عن التأثيرات التنظيمية. هنا يمكن القول إنّ تلك الهبّة بدأت بعملية عسكرية نفّذتها مجموعة تابعة لحركة حماس قرب بلدة بيت فوريك قرب نابلس، ضد مستوطني مستوطنة "إيتمار"، كما أن مفجّر الهبّة المباشر في 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2015، منفذ عملية الطعن في القدس الشهيد مهند الحلبي، له تجربة تنظيمية ترجع إلى حركة الجهاد الإسلامي.
طوال هبّة السكاكين برزت عمليات يقف خلفها منتمون لفصائل، لا سيما حماس، أو لهم تجربة تنظيمية مع فصائل. وقد تخلّلت تلك الحالة الكفاحية منذ العام 2015، عودة بعض المشاهد القديمة، كظاهرة المطاردين التي لا تطول أثناء هذه الحالة، لاختلافات أمنية ولوجستية راكمها الاحتلال من بعد انتفاضة الأقصى، ثم اتصلت هذه الحالة بسلسلة هبّات مقدسيّة ناجحة، كهبة باب الأسباط (2017)، وهبة باب الرحمة (2019).
يتداخل التنظيمي بالجماهيري في كلّ هذه الأحداث، فحالة المقاومة المنظمة في غزّة ظلّت تمثل حالة إلهام ورفع معنوي مستمرّ للفلسطينيين في بقية فلسطين، والجماهير التي هبّت في القدس هتفت للمقاومة في غزّة، واستدعتها، واستدعت رموزها بالاسم
أخيرا شهدت الضفة الغربية والقدس وغزّة والداخل المحتلّ عام 1948، سلسلة من الحوادث، بدأت في مطلع أيار/ مايو بتنفيذ منتصر شلبي، وهو مواطن فلسطيني من قرية ترمسعيا قرب رام الله ويحمل الجنسية الأمريكية، عملية على حاجز زعترة قرب نابلس، (قوات الاحتلال هدمت بيته قبل أيام في إجراء عقابيّ مألوف). بعد عملية منتصر "تتابعت الحوادث في القدس: هبة باب العمود، وأحداث الشيخ جراح، وأحداث ليلة 28 رمضان في المسجد الأقصى المبارك، ثم حرب "سيف القدس" في غزّة.
يتداخل التنظيمي بالجماهيري في كلّ هذه الأحداث، فحالة المقاومة المنظمة في غزّة ظلّت تمثل حالة إلهام ورفع معنوي مستمرّ للفلسطينيين في بقية فلسطين، والجماهير التي هبّت في القدس هتفت للمقاومة في غزّة، واستدعتها، واستدعت رموزها بالاسم، والمقاومة التي استجابت لذلك عادت لترفع من الحالة الكفاحية في كلّ فلسطين، بما في ذلك الداخل المحتلّ عام 1948، في مشهدية كفاحية جديدة.
يتصل بذلك نضال بلدة "بيتا" قرب نابلس، بأدوات تناسب القضية الموضعية (طرد البؤرة الاستيطانية من جبل صبيح). هذه الأدوات متنوعة، ما بين ظرفيّ أملته الحاجة الموضعية، ومستدعى من الانتفاضة الأولى، ومستدعى من أدوات المقاومة الشعبية في غزّة، كفكرة "الإرباك الليلي"، حتّى أنجزت تفكيك البؤرة، مع استمرار النضال لاستكمال إجلاء الوجود الاحتلالي من جبل صبيح. اتسمت تجربة "بيتا" بأنّها هبّة قرية كاملة، بكلّ عائلاتها، وفصائلها، وشرائحها العمرية والاجتماعية.
وعلى نحو يوميّ، وفي كلّ ليلة، تظلّ مدينة جنين تحدّيا مفتوحا للاحتلال، الذي تواجه قواته إطلاق النار مع كلّ اقتحام للمدينة أو مخيمها. هذه الاشتباكات لا بدّ وأنّها منظمة، سواء على مستوى مجموعات صغيرة، أو بانتساب تلك المجموعات لفصائل أكبر.
يمكن الحديث عن وجود تحوّلات في النضال الفلسطيني في ساحتي الضفّة والقدس، ويمكن أن يضاف لها الآن الداخل المحتل عام 1948. هذا النضال يتسم بالوحدة الشعبية، وتجاوز الأطر الأيديولوجية والحزبية الضيقة
لا يمكن الحديث إذن عن انتهاء زمن العمل التنظيمي في الكفاح الفلسطيني، فالتداخل ما زال موجودا، بمستوييه المعنوي والمادي المباشر، بيد أنّه يمكن الحديث عن وجود تحوّلات في النضال الفلسطيني في ساحتي الضفّة والقدس، ويمكن أن يضاف لها الآن الداخل المحتل عام 1948. هذا النضال يتسم بالوحدة الشعبية، وتجاوز الأطر الأيديولوجية والحزبية الضيقة، أو بتعبير آخر، الفصائل بدورها هي جزء من هذه الحالة الوحدوية.
تجلّى هذا أيضا في الحراك الاحتجاجي على مقتل الناشط السياسي نزار بنات، أثناء اعتقاله من قوات السلطة الفلسطينية. فالرجل لم يكن منتميا لفصيل فلسطيني، وبالتأكيد قدّم نقدا سياسيّا للعديد من القوى، لا للسلطة الفلسطينية وحزبها "فتح" فقط، كما طرح مقولات فكريّة تصادم مقولات الإسلاميين. بيد أنّ الجميع، باستثناء فتح بطبيعة الحال، كان مع ساعة تحوّله إلى ضحية رأي، قد ترك خلف ظهره أي خلاف سياسيّ أو فكريّ، للانخراط في حركة احتجاجية لا عناوين حزبية لها، وإن كان منتسبو الأحزاب مشاركين فيها.
ما يمكن استخلاصه من ذلك كلّه، تراجع سياسات الهندسة والتحييد لصالح استئناف العمل النضالي بصيغ متعددة. ويمكن هنا التأكيد على أثر مقاومة غزّة في ذلك، وفضل الهبّات المتتالية في القدس، ومحاولات بعض الفصائل استئناف المقاومة في الضفّة الغربية. والمهم أيضا مما يمكن استخلاصه من هذا، أن الوحدة والإجماع، الذي يتجلّى في هذه النضالات، هو الالتقاء على أرضية المواجهة، وتجاوز حالة الركود، دون النظر في العناوين الحزبية والأيديولوجية، وهي فرصة تُخصّب الخيال لمن أراد استعادة حضوره النضالي في هذه الحالة المفتوحة بالعديد من الأفكار لتجاوز العقبات الموضوعية الضخمة.