في تمام التاسعة صباحاً من كل يوم، وبعد العدد بثلاث ساعات؛ تضع ميسون حقيبتها القماشية السوداء على كتفها، وتحمل كوب شايها المرّ، كالمعتاد، لتذهب الى تلك الزاوية المهندمة من غرفة رقم (5). بضع مسطبات خشبية، تتموضع عليها بعض الكتب، وتسمى بفخر شديد: "مكتبة الدامون". كانت الأسيرات قد انتزعنها، ووضعن قوانين صارمة لاستخدامها، احتراماً للكتب الشحيحة المُكتَنَزَةِ على الرفوف عبر سنوات النضال في الأسر. تنتقي (ميسونيشكا) -كما تلقبها الأسيرات- جرعتها اليومية، وتنغمس في القراءة لساعات. تغوص في الأدب والثقافة: روايات وشعراً، وفكراً.
تتلذذ ميسون بالقراءة، إذ صارت لديها معرفة مرئية بالأشياء، بل أضحت بعض الأمور عندها حسية وملموسة، حتى تلك التي لم تختبرها قط. فقد تسلسل إلى قلبها عشق القدس وحجارة أسوارها، وهي تعرف تماماً أن طريق باب الواد أقصر الى الحرم الشريف من زقاق خان الزيت على سبيل المثال. كما أنها ضليعة بجغرافيا فلسطين، فتراها تكزّ على أسنانها عند الحديث عن بيارات الليمون المتراصفة على الساحل الفلسطيني، وتعمّص عينيها للمذاق الحلو ولسعة الحامض في برتقال يافا، كما تحفظ الجليل عن ظهر قلب، من كثرة الأماكن التي ألِفَتها في "قناديل ملك الجليل".
بعد العدد الثاني، أي في تمام العاشرة صباحا؛ تفرّغ ميسون نفسها، وتُسخّر وقتها للأخريات. بانضباط حديديّ، تجدول برنامجها لمن لم ينلن حظوة القراءة والكتابة من الأسيرات. تبدأ بتعليمهنّ الأبجدية، وتجاهد معهنّ في سبيل إجادة الحروف. وبعد تمكينهنّ من رسمها، تزحف معهنّ حدّ القراءة، وتتدرج لروايات غسان كنفاني، ومؤلفات إبراهيم نصر الله، وشعر محمود درويش، وأمل دنقل، ممتحنة إياهنّ بتحدّي قراءة "لا تصالح"، القصيدة التي طالما كانت الفَيْصل المعياري لها. المُلفت في ميسون، أن بالها طويل، وطاقتها لا تنضب أبداً، فلا تملّ أبداً من قراءة الروايات بصوت عالٍ لأسيرة أخرى فقدت نظرها جزئياً، بعد أن أصابها الاحتلال بقنبلة غاز في عينها اليسرى.
لم ينته اليوم بعد لميسون وبقية الأسيرات، فهناك عدد ثالث في تمام الثالثة ظهراً، ورابع أخير عند السادسة مساء. وفي الوقت الضائع؛ ترى ميسون تنقّبُ آثار ثلاثة مجلدات من "مضى عهد المجاملات" لحسين الخالدي، وقد تضطر أحياناً للسهر حتى الفجر من أجل تسليم واجب النخب السياسية الفلسطينية قبل النكبة لمساق "مناهج البحث" مثلاً، وهو واحد من مساقات التعليم الجامعي الذي بدأته الأسيرات العام الماضي ضمن برنامج بكالوريوس الخدمة الاجتماعية في جامعة القدس. ببساطة، هذه دورة حياة يومية، مصفوفة يوم كامل، للأسيرة ميسون الجبالي، 26 عاماً، من قرية الشواورة، شرق بيت لحم.
كانت ميسون طالبة في السنة الأولى في جامعة القدس، تدرس الأدب الإنجليزي، عندما اعتقلتها قوات الاحتلال في صيف العام 2015 على حاجز قبة راحيل. اعتدى عليها جنود الاحتلال، وأبرحوها ضرباً، قبل اقتيادها لتحقيق قاس على يد جهاز المخابرات الصهيوني "الشين بيت". اتهم الاحتلال ميسون بطعن مجندة على الحاجز، وبعد مماطلة مقصودة في المحاكم الإسرائيلية، حُكِم عليها بالسجن 15 عاماً، قضت منها ستة أعوام صمّاء، وستدخل عامها السابع الأسبوع القادم.
تترك ميسون مسافة أمان بينها وبين الأسيرات، فقد قلّبت العديدات ممن دخلن وخرجن إلى الحرية، بينما لا تزال هي تقبع في الدامون. لم تصل ميسون إلى "مسافة صفر" في حميمتها مع الأشياء، سوى مع كتبها، وربما تلك المجندة على الحاجز. فهي تمارس الهروب دوماً، لحفظ قلبها من البُعد، ولتدرّب روحها على الصمود أكثر عند غياب رفيقاتها، فتحرص على حزم مشاعرها، والعودة إلى قلبها، لتسلَمَ من الاحتراق بلظى الاشتياق، والتعلّق بالأخريات.
ميسون الجبالي، فتاة صلبة، تنكر ذاتها في سبيل الآخرين والأخريات، "اختارت أن تضيء قنديل السجن، لترى منه العالم." توجّعت كثيراً لما حلّ بالمكتبة في نوفمبر 2020، عندما اقتحمت قوات القمع غرفة رقم 5، وصادرت خمسين كتاباً من بينها روايات عالمية وأدبيات السجون، إضافة الى كتب التعليم الجامعي، والقواميس، وكتب الاقتصاد السياسي. لم تطل فترة غيظها كثيراً، فمنذئذ، حثّت ميسون الأسيرات على نسخ الروايات يدوياً، شرط أن تنسخ كل أسيرة كتاباً لم تقرأه مسبقاً، وبذلك تكون قد حققت الأسيرة "مسافة صفر" بينها وبين الكتاب، وأصبحت هي أيضا حارسة المكتبة، مِثلها.