يختزل بعضنا رؤيته للانتخابات الأميركية الأخيرة في علاقتها أو مدى فائدتها لقضية فلسطين، أو بعلاقتها مع الدعم الأميركي لإسرائيل، التي تحتل فلسطين بدعم الإدارات الأميركية الإمبريالية المتعاقبة. ويأتي النقاش عن المفاضلة بين المرشحين طوال الأسابيع الأخيرة، الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب والرئيس المنتخب، جو بايدن. وبالنسبة لنا كشعب تعرّض ويتعرّض لجريمة كبرى مستمرة بفضل هذا الدعم، من الطبيعي أن نتطلع لنهاية هذه الإدارات وعقليتها الإجرامية ضد فلسطين والدول والشعوب التي لا تسير في فلكها، أو التي تشكّل تهديدًا لمشروعها الإمبريالي.
ولكن السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو؛ هل يجوز سياسيًا وإستراتيجيًا وأخلاقيًا، هذا الاختزال؟ أو هل يجوز من ناحية براغماتية أو عملية، فصل النضال الفلسطيني ومصلحته في التحرر من الظلم، بمعزل عن نضالات الشعب الأميركي ضد نظام دولته الاستغلالي ومنظومته النيولبرالية المتوحشة، وضد "ديمقراطيته المستبدة"؟ أليست قضيتنا نتاج تآمر وعدوان خارجي طُبخ في مطابخ صنع القرار للدول الاستعمارية، وجزء من الغزوات الاستعمارية الاستيطانية على مدار أكثر من أربع قرون. ألم تتمرد شعوب هذه الدول وطبقاتها العمالية والفقيرة، وألم تظهر من صفوف هذه الشعوب قوى ومنظمات مجتمع مدني تتضامن مع ضحايا الاستعمار، مثل الشعب الفلسطيني، والتي تتجدد في الآونة الأخيرة؟
وفي السياق نفسه، أليس من الخطأ الفادح، سياسيًا و إستراتيجيًا وأخلاقيًا، كان أن يتمنى بعض من العرب فوز ترامب، من باب الاعتقاد أن ذلك يزيد من أزمة الولايات المتحدة الأميركية أو نظامها الداخلي؟ أو كما ذهب البعض الآخر إلى الاعتقاد أن فوزه يقطع الطريق كليًا على أصحاب نهج أوسلو الذين يرون بفوز بايدن فرصة للتخفيف من عقوبات ترامب، والعودة إلى المفاوضات والتحلل من واجب أو "عبء" التفكير والتخطيط لإستراتيجية مقاومة شعبية لتغيير ميزان القوى، فضلا عن تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية؟ قد تكون نظرية البعض الأول مفهومة، والذين غالبًا ينتمون للنظرة اليسارية التقليدية، باعتبار أن سقوط النظام الرأسمالي الأميركي يفتح الطريق على انتصار الاشتراكية، أو يساعد في نضال القوى الاشتراكية، أو يوقف الحروب العدوانية الإمبريالية على الشعوب. هذه نظرة حملناها في سنوات الصراع بين المعسكرين؛ السوفييتي والأميركي، وحقبة دول عدم الانحياز. وبغض النظر عن كثير من الأوهام التي سقطت مع سقوط الاتحاد السوفييتي، فإن النضال ضد الإمبريالية الأميركية، كان واجبًا أخلاقيًا وسياسيًا، وهو لا يزال كذلك. ولكن، ألا يحتاج هذا الموقف إلى تحديث في ظل المتغيرات الدولية العميقة، في كافة الحقول، وجعل الديمقراطية والحريات والعدالة الاجتماعية همًا رئيسيًا، ومطلبًا لكل الشعوب.
أما البعض الآخر، وهم الذين ينطلقون فقط من نظرة أن إدارة بايدن ستسهل على السلطة الفلسطينية العودة إلى نهجها السابق، والغرق مرة أخرى بالمفاوضات العبثية، وهذا وارد جدًا، فهم يتجاهلون أو يغفلون وجود وكلاء تغيير في المشهد الفلسطيني، رافضين لهذا النهج، ومنهم من يراكم قوة ناعمة، وغير مستسلم. كما أنهم لا يأخذون بالحسبان تقاطع أو تشابك النضال الفلسطيني، مع قوى أميركية تقدمية تناضل من أجل التغيير الداخلي، وتغيير السياسات الخارجية الإمبريالية، وأخرى إثنية تناضل ضد التمييز والاستغلال العرقي والطبقي.
بخصوص النظرة الأخيرة، نشأت هذه النظرة الاختزالية في حقبة تسيُّد الإمبراطورية الأميركية كقطب وحيد منذ أوائل التسعينيات، وانتشار الوهم بانتصار النموذج الأميركي وانتهاء التاريخ. فقد سلمت القيادة الفلسطينية، كما بقية أنظمة عربية وغير عربية أخرى، بأميركا وسيطًا وحيدًا في ما يسمى عملية السلام، واستبدال المرجعية الدولية وقراراتها الخاصة بفلسطين، بهذا الوسيط الداعم الرئيس للمشروع الصهيوني الاستعماري. وموضوعيًا، يلتقي أصحاب النهج الاختزالي من المناهضين لنهج أوسلو، مع أنصار مدرسة أوسلو في تجاهل وجود شعب أميركي، فيه أيضًا قوى تقاوم النظام ومتضررة منه، ويجب احترام رغبتها في التخلص من رئيس فاقم بؤسهم، وجعل بلادهم أضحوكة في نظر العالم. ويجب أن تنبع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار وجود ودور هذه القوى أولا، من كون سياسات حكامهم تلحق الضرر الفادح بحياتنا وحقوقنا، من خلال الدعم المطلق المقدم لإسرائيل؛ وثانيًا، كون المواطنين الأميركيين أيضًا ضحايا النظام الرأسمالي المتوحش والحروب الخارجية. خذوا على سبيل المثال تجدد العلاقة والتشابك بين نضالات السود، مثل حركة "حياة السود مهمة"، مع نضالات الشعب الفلسطيني.
ومن الملاحظ أن عودة الحديث عن تشابك النضالات العالمية وعن ظهور آليات تنسيق منهجي، باتت ظاهرة صاعدة، وتشدُّ الانتباه. وهذا يستحق المزيد من الانتباه من جانب القوى الفلسطينية الناقدة، خصوصًا وأن السلطة الفلسطينية اختزلت علاقاتها منذ التسعينيات في الجانب الرسمي، وأهملت القوى الشعبية التي عوضت عن هذا النقص في إطلاق حراكات فلسطينية شعبية وأكاديمية تقدمية ناهضة وفاعلة.
إن الحزب الديمقراطي ومرشحه بايدن، هو واحد من حزبين شكلا وقادا النظام الأميركي حتى الآن، والاختلافات بينهما ليست جذرية، خصوصًا في ما يتعلق بإسرائيل. غير أن حالات تمرد تتزايد مؤخرًا داخل هذا الحزب وتنحو نحو اليسار، فضل عن فوز عدد من الناشطات التقدميات من أصول فلسطينية أو أفريقية أو لاتينية. هذا إضافةً إلى التغيير في الموقف من اليمين الإسرائيلي في أوساط اليهود الأميركيين المؤيدين للحزب الديمقراطي.
وتعتقد هذه الأوساط خاصة المحسوبة على ألوان معينة من اليسار، إضافة إلى قوى شعبية خارج الحزبين، أن كفاحها ضد النظام الأميركي، وضد قيادة الحزب الديمقراطي، سيكون أسهل في حال التخلص من ترامب، ويفتح أمامها فرصة أفضل لمراكمة نضالاتها ونشاطها التنظيمي في السنوات المقبلة، خصوصًا إذا ما عرفنا أن سقوط ترامب لا يعني اختفاء الترامبية، التي ستواصل التغول والتخريب، مع أن هذا السقوط سيشكل نكسة معنوية وفعلية لحلفائه من اليمين الشعبويّ على مستوى العالم، مثل بنيامين نتنياهو ونظامه الاستعماري، ومحمد بن سلمان، وبوريس جونسون، والرئيس الهندي نارندا مودي، وفيكتور أوربان في هنغاريا وغيرهم.
المصدر: عرب 48