في قصة موت معلن، يبدأ غابرييلا غارسيا ماركيز روايته من نهايتها بمقتل سانتياغو نصار على يد الأخوين بيدرو وبابلو فيكاريو، شقيقي الضحية التي اتهم سانتياغو بانتهاك عرضها. أن نبدأ القراءة من هذا المشهد العنيف المُعلن هو أن نتقمص دور الشهود على جريمة نعلم نهايتها الفاجعة، وندرك تحركاتها الثملة، ونشارك في استعداداتها، ونراقب تفاصيلها وهي تجري أمام أعيننا.
هل الجريمة حتمية؟ هل سنتلذَّذ بها، كما بعض أهل القرية العالمون بحدوث الفاجعة قبل وقوعها، أم نقابلها باللامبالاة، أم برغبة التحرك لتحذير الضحية، أم نحاول منعها؟ هذا هو التحدي الإنساني والاخلاقي الذي يضعنا ويوجهه لنا ماركيز، فالأخوين فيكاريو يخبران كل من يصادفهما في الطريق بنيتهما: "نحن ذاهبان لقتلها"، كأنهما لا يبحثان عمن يقتلانه فقط، بل أيضاً باستطاعته أن يفعل شيئاً، عن أحد يردعهما أو ينهاهما أو يحول بينهما وبين وقوع الجريمة. قصة موت معلن إذاً ليست إدانة القتل وحده، وإنما وأساساً، هي توريط وإدانة المتفرج وتحويله إلى شاهد على مشهد الذبح.
حدث في منتصف أيلول عام 82 وعلى مدار أيام، وتحت هندسة ضباط الاحتلال الصهيوني، أن تكون صبرا وشاتيلا في قبضة الموت. جاءت حاملات الجند و"فرق العمل الأسود" من شرق المدينة ولسان حالهم يقول: "نحن ذاهبون لقتلهم"، يقودهم كارهٌ اعتبر الشعب الفلسطيني شعباً زائداً يجب التخلص منه.
وكي تسقيم القذارة دون أن يتلو الحاخامات فوق رؤوسهم وفؤوسهم المعقوفة وصايا برتوكولات حكماء صهيون: "أُقتلِ الجيّدَ في الأغيار"؛ وما زالت صبرا وشاتيلا تُقتل في ذاكرة طازجة، حيّة، نديّة، وتنزف قهراً ومرارة وظلم، فالقتلة ما زال يرفعون شارة النصر فوق المنابر بعربية ركيكة مريضة، فيما جوقة أمراء النفط تتحرر من دم الضحية. سقط الثأر البدوي من فوق برج الخليفة وشطب من ضميره المرقع بالسل كرامة فرض عين الجهاد ورباط الخيل والنفس بالنفس والعين بالعين والأذن بالأذن والأنف بالأنف والسن بالسن والجروح قصاص. وفلسطين.. فلسطين يعاد ذبحها مرة ثم مرات.
ساسهم الأخوين كوشنير وشينكر إلى التطبيع وفي دعوة الفلسطينيين لـ "لاستيقاظ" وألا يظلوا "رهينة" قيادتهم، كأن لسان حالهما الثمل بعد زجاجة الخمر الثالث يقول إفتراضاً: "أيها الغوييم/الغيار تجردوا من فلسطين، انسوا روايتها، تمسكوا بشعار الصهيونية: "شلت يميني إن نسيتك يا أورشليم".. انسوا قدسكم فأنتم عرب النسيان، أنتم ما إلا "غوييم"، جنس دني يجب استبعاده وتسخيره لخدمة شعب الله المختار، عليكم أن تقبلوا بروايتهم. حذار الاحتفاظ بالذاكرة العادلة والرواية التاريخية الأصلية والمشروعة"، وكأن لسان حال عربان الردة يقول: "سمعاً وطاعة؛ سنقتل الوعي، ونستيقظ من التاريخ، وندوس على فلسطين وننفيها ونلغيها من مناهج أطفالنا". لا تستغربوا الجواب ممن صدقوا أن الخيانة حق طبيعي لهم وحدهم، قضية سيادية، ممنوع للشعوب التدخل بشؤونها الشخصية!
يا عرب صبرا وشاتيلا في كتاب الفاجعة المعلنة والمستعادة أمام أعينكم، في فظاعة التطهير العرقي والتدمير الممنهج للحياة الفلسطينية تهجيراً واقتلاعاً من بيوتهم وقراهم ومدنهم منذ 1948؛ يستعير القاتل ثوب الأخلاق، ليتبجح قديم الإرهابين مناحيم بيغن بعد انكشاف المذبحة، قائلا: "غوييم/الاغيار يقتلون غوييم/الاغيار، فما ذنب اليهود؟".
أيها الكارهون لفلسطين، أنتم شركاء في ذبح الرواية وشواهدها في المخيمات التي تشكل برمزيتها تراجيديا الحياة الفلسطينية، والتغريبة الطويلة للشتات، وفي حضورها شرعية الحق بالعودة الى الوطن والحلم بالوطن وليس بأي وطن.
بين المذبحة وقصة الموت المعلن، لماذا يتباهى القاتل أنه ذاهب لارتكاب القتل، يخبر من يصادفه أنه سيقوم بفعل شنيع؟ هل هي نفسية القاتل التي تتمتع بذاكرة تفكيكية؟ أم هل هي الشهوة المنحرفة في إدارة الرعب، ليكون الحاضر من قلب الحدث وخارجة، في ذات الوقت، ذاكرة تقطر دماً؟ القتل المعلن هو الإرهاب يبحث عن الأضواء، الإثارة المُعلنة قبل حدوثها لإحداث صدمة الوعي وصناعة الرعب الذي هو مقصده الأساسي، السعي إلى السيطرة على النفوس من خلال نشر وقائع إنجازاته المخيفة، لكن النتيجة معاكسة، فالزمن لم يمحُ آثار الجريمة ولا يمكن أن يشطب الأدلة الدامغة؛ ما زالت الروايات الفظيعة تنقل في تسلسلها مشاهد الأولاد وهم يُنحرون ويُخوزقون، وعويل الحوامل وهم يشقون بطونهن، والرؤوس والأطراف تُقطع بالفؤوس، وصمت الجثث المكدسة.
أيها الكارهون والمتفرجون، أنتم شركاء في اغتيال ذاكرة المكان، وأن تظل جثة مشوّهة بأحياء يشبهون ضحايا المجزرة، هي الذاكرة الفردية والجماعية تستعاد بأسماء وأشياء وذكريات، تستعيد بصورة أخرى مشاهد الرعب كظلال سميك للمجازر ذاتها ولقتل من نوع آخر، بأسلوب معنوي ربما، ولكنه يكمل ما ارتكب في أواسط أيلول من العام 1982 وما سبقة منذ النكبة الاولى عام 1948.
منذ فيليب حبيب إلى موريس درايبر والآن شينكر وكوشنير، يتعهد اليانكي دائماً بوعد الموت الرحيم للضحية، إن أحداً لم يحترم تعهداته يوم اكتفى الموفد الأمريكي إلى بيروت بتعليق بسيط على المجزرة: "عبثية مطلقة". نقول ذلك لأننا ندرك "أن القوة الايجابية لا تأتي من الكراهية، بل من الحقيقة "، وهكذا يحق للضحية التي دفعت ثمن المذبحة معرفة الرواية الحقيقية، فهي حكماً لا تتناقض مع العدالة، بل تخدمها، لذلك فإن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لا يسري عليها التقادم، كما قال جان جينيه "لقد كان عليّ أنْ أذهب إلى شاتيلا لأدرك بذاءة الحب وبذاءة الموت، فالأجساد في الحالتين عارية، وليس لديها ما تخفيه".
ذاكرتنا المجروحة هي جريمتكم المضاعفة؛ إن كانت الجريمة الأولى قد ارتكبت بإطلاق النار، فإن الثانية لا زالت ترتكب بالنكران والنسيان والإفلات من العقاب. لا فضيلة للذاكرة بدون فضيلة العدالة؛ مثل هذه الأيام تم توقيع اتفاق أوسلو كتوثيق لهذا العبث، واليوم تتكرر مفاجع أوسلو في عبثية سياسية جرى تعريبها في عواصم خليجية، مفادها: "أن فلسطين ليست قضيتنا"، وأن الاحتلال جائز وضرورة للجميع، وأنه لا يشكل نقيضاً للاستقلال! وبلغت حد اعتبار شرط إزالة الاستيطان هو تطهير عرقي! وعلى كارهي "إسرائيل" أن يتعلموا الحب ويعتذروا من سلاطينهم! هنا يصبح الذبح علنياً وتصبح الذكرى أكثر وجعاً وقبحاً.. هنا لا عجب أن ترتكب الفاحشة علناً وعلى الهواء مباشرة.. هنا تفتح للمجرم لا أبواب السجون، بل أبواب المدن والسماء وصالونات الشرف.. هنا يفرش السجاد الأحمر ليدوس الجلاد بقدميه على كرامة الضحية.
"أن نكون ودودين مع من يكرهوننا وقساة مع من يحبوننا، تلك هي دونية المتعالي وغطرسة الوضيع"، يقول محمود درويش، فما نقول فيمن يذهبون للقاتل ويسبحون بحمده؟ وما نقول حين ترتكب مجزرة التطبيع على توقيت شرف المجزرة؟ ما نقول في مديح جريمة ارتكبها كيان قاتل مارس كل أشكال إدارة الرعب لجعل المتفرج شريكاً في التخلي عن العدالة والوقوف ضد الضحية؟ ما نقول في من منح صك البراءة للشهود ومثافة للأكف الملوثة بدم صبرا وأخواتها؟ الصمت عن الجريمة هو تشجيع للقاتل، إنما التطبيع مع القاتل هي دونية واحتقار للذات واسترخاص للدم العربي الطاهر الذي سال في صبرا وشاتيلا وعلى تراب لبنان. لم ولن يمحي الزمن آثار الجريمة، وللذين سكتوا وأسكتوا العدالة، سيذكر التاريخ في سجلاته السوداء؛ سجلات عار كافة القتلة ومن احتفل بوحشية وعنجهية المجرم بدل أن يقاطعه ويعزله، كما يفعل أحرار العالم من أنصار فلسطين وأعداء العنصرية والفاشية.
ما زال السؤال يتردد مع قصة موت معلن: إذا كان القتل جماعياً إلى هذا الحد، فأين الجمهور من عبثية المشهد؟ هل أخذه التشويق الروائي إلى الغرق في شهوة القتل، أم أرعبه إباحية القتل في مشهد الضحية وهو يزحفُ على الأرض ويجرُّ أحشاءه خلفه؟ أم استيقظ كامل وعيه تحت مبرر جريمة الشرف؟ هل ينبغي لنا أن نسكت؟ هل ينام الجمهور كلياً؟ وهل من مشاهد واحد فضولي يصرخ بالاعتراض أو بالرغبة في الوقوف بوجه القتلة ربما يمنع ارتكاب الفحشاء، ويمنع الفعلة الشنيعة؟ أو لعل الجامعة العربية استهانت حتى بنخوة شعوبها وأخذت النصيحة كاملة؛ بألا تكون رهينة وجدان الشعوب وألا يستيقظ ضميرها، وتمضي مطمئنة راضية مرضية تبارك الجريمة المعلنة؟
أيها المتفرجون على دم الضحية، أين ذهبت قلوبكم وعيونكم وحواسكم وأضعف الإيمان فيكم؟ أين صرخاتكم؟ هل أسقط القمع عروبتكم؟ قد لا ينفع الندم في وقت كان باستطاعتكم أن تفعلوا! قصة موت العرب المعلن لا يكون بضرورة إفنائكم جسدياً، بل بشل فاعليتكم التاريخية وجذورها الثقافية، ومن العرب من يستطيب قصة الموت المعلن على أمل أن يحيا بجزئيته.
الجميع شركاء في القتل أو شركاء في وقائع الموت المعلن؛ من بارك وأثنى، من راقب وأدرك، من علم وشارك، من صفق وصمت على موسم هجرة الوطن والتاريخ والعروبة إلى "مملكة يهوذا". على مشهد الاحتفال مع الذين قالوا "نحن ذاهبون لقتلها"، كان التّحدي أن ينهاهم أحد، لكن أحد لم يفعل بعد! وما لفلسطين؛ إلا أن تخط من دم ذبحها مرة ثم مرات قصة موت معلن وتلحقها بنعوة متجددة لقمم بيانات يكتبها أنظمة البؤس التي تكذب أكثر مما تقاتل، ونكسة متجدّدة لجنرالات الهزائم، وفتاوى أئمة "أعدوا لهم ما استطعتم" من الحيّاد وضياع العباد والبلاد!
المصدر: بوابة الهدف