لا أحد يصدق أن اتفاق التطبيع الإماراتي مع الاحتلال يهدف إلى تحقيق السلام، أو إلى إنهاء مشروع الضم للضفة الغربية والقدس. فالسلام بصيغته المتوافق عليها دوليا، وإن كانت مرفوضة شعبيا على المستوى العربي، يجب أن يشمل حلا للقضية الفلسطينية، ويعيد حدا أدنى من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وهو ما لم يتحقق باتفاق ثنائي يتجاوز الفلسطينيين.
ينطبق الأمر نفسه على السلام وفق صيغة المبادرة العربية التي طرحتها السعودية وأصبحت قرارا عربيا بعد اعتماده من الجامعة العربية عام 2002، حيث ربطت المبادرة بين التطبيع العربي الشامل مع الاحتلال بحل القضية الفلسطينية على أساس مشروع الدولتين وحل عادل للاجئين، وهو ما لم يتحقق في الاتفاق الإماراتي.
أما وقف الضم فهو الوهم الأكبر في الاتفاق الإماراتي، إذ أن النص الرسمي للاتفاق يتحدث عن "تعليق إعلان الضم"، فلا هو تعليق للضم نفسه بل لإعلانه، ولا هو وقف دائم، وحتى وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية قال إن لا شيء دائم، عندما سئل حول الضم وإن كان وقفه دائما.
أهداف إماراتية
إذا كانت الأهداف المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلية ساقطة منطقا في تبرير أو تفسير اتفاق أبو ظبي مع الاحتلال، فإن توقيع الاتفاق بني على أهداف إماراتية صرفة تتعلق بصراعاتها من جهة، وبالدور الذي تعتقد أنها يمكن أن تلعبه بالمنطقة، وسنكشف أنها أهداف ساقطة منطقا وبالحسابات السياسية أيضا.
إذا كانت الأهداف المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلية ساقطة منطقا في تبرير أو تفسير اتفاق أبو ظبي مع الاحتلال، فإن توقيع الاتفاق بني على أهداف إماراتية صرفة
وتتلخص هذه الأهداف في تقوية الإمارات بمواجهة إيران، وتحقيق موقع استراتيجي لأبو ظبي كوكيل إقليمي للإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط.
الصراع مع إيران
تهدف الإمارات لتشكيل تحالف سياسي وأمني يساندها في مخاوفها المشروعة من إيران. ويبدو أن الموقف الأمريكي المتردد والرافض لحرب ضد إيران في المدى القصير والمتوسط زاد من هذه المخاوف، كما أن تصاعد التهديدات الإيرانية للسعودية والإمارات عبر الحوثيين زاد من القلق الإماراتي، ودفعها لتعزيز تحالفاتها عبر اتفاق التطبيع مع الاحتلال.
ولكن هذا الاتفاق لن يحقق الأمن الإماراتي من المخاوف تجاه إيران، بل إنه يعزز العداء بين الطرفين، حيث اعتبرت طهران وصول الاحتلال إلى حدودها البحرية في الخليج العربي من خلال اتفاق الإمارات تهديدا مباشرا، وهددت بالرد على هذا التهديد بالطرق التي تراها مناسبة. هكذا يصبح الاتفاق الإماراتي أداة جديدة لتصعيد الخلاف مع إيران، وربما سيدفع طهران لتنفيذ تهديداتها عبر وكلائها وأدواتها في الخليج، وعندها ستصبح الإمارات مكشوفة أكثر لتهديدات إيران وحلفائها، ولن ينفع الاتفاق أبو ظبي، بل ستواجهها وحيدة، لأن الاحتلال غير معني بحرب مباشرة مع إيران، بل سيدفع لاستنزاف إيران عبر حلفائه، الذين أصبحت من ضمنهم دولة الإمارات.
الرد على إيران لن يتحقق باتفاق الوهم الإماراتي مع الاحتلال، بل كان يمكن أن يتم بتعزيز جبهة عربية قوية متحالفة مع تركيا، تتفاوض مع طهران لحل الأزمات المتراكمة معها
الرد على إيران لن يتحقق باتفاق الوهم الإماراتي مع الاحتلال، بل كان يمكن أن يتم بتعزيز جبهة عربية قوية متحالفة مع تركيا، تتفاوض مع طهران لحل الأزمات المتراكمة معها، سواء في اليمن أو سوريا أو في منطقة الخليج عموما. لا حل للمنطقة سوى بتوافقات كبرى بين العرب والأتراك والإيرانيين، ولكن هذه التوافقات لن تحصل بدون تشكيل منظومة عربية تتعامل مع جيرانها بندية، وتتجاوز الانقسامات التي خلفتها المواقف المتناقضة تجاه "الربيع العربي". وهذا يتطلب أيضا تجاوز الأوهام من خطر الانتقال الديمقراطي في الدول العربية، وهي الأوهام التي باتت تشكل الأساس الوحيد للسياسات الخارجية لعدد من الدول العربية أهمها مصر والإمارات والسعودية.
الوكيل الحصري للإمبريالية
منذ أكثر من عقد ونصف تلعب الإمارات دورا متضخما في الشرق الأوسط، ومع اختلافنا الجذري مع هذا الدور، إلا أن أحدا لا يستطيع أن ينكر النفوذ الذي حققته في المنطقة، وإن كان نفوذا على حساب صورتها في الضمير الشعبي العربي بشكل عام.
تحقق الدور الإماراتي ليس فقط بسبب سياستها، بل من خلال انسجامه تماما مع السياسات الأمريكية الإمبريالية في المنطقة، وبالاستفادة من حالة الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط بعد فشلها في تحقيق أهدافها من العدوان على العراق وأفغانستان.
ومع زيادة سياسة الانسحاب الأمريكي التي بات واضحا أنها ليست مرتبطة بالرئيس السابق باراك أوباما، بل هي انزياح استراتيجي فرضته الأزمات الاقتصادية وفشل الحروب الأمريكية بتحقيق الأهداف التي تريدها، تعتقد الإمارات أنها بتوقيع الاتفاق مع الاحتلال ستحصل على موقع أفضلية في المنطقة، لتكون وكيلا رئيسيا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
تعتقد الإمارات أنها بتوقيع الاتفاق مع الاحتلال ستحصل على موقع أفضلية في المنطقة، لتكون وكيلا رئيسيا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. يصطدم هذا الاعتقاد الإماراتي بالحقائق الاستراتيجية والجيوسياسية، لعدة أسباب
يصطدم هذا الاعتقاد الإماراتي بالحقائق الاستراتيجية والجيوسياسية، لعدة أسباب. أول هذه الأسباب هي أن الإمارات وإن كانت تمتلك سياسة نشطة وأحيانا متهورة، إلا أنها لا تمتلك مقومات الدولة الإقليمية، فلا هي دولة تصنع سلاحها، ولا تنتج تكنولوجيا حقيقية، ويبلغ النفط والمجوهرات حوالي 45 في المئة من صادراتها، ولا تمتلك عمقا جغرافيا، ولا قوة ديمغرافية، حيث يمثل الإماراتيون نسبة 30 في المئة فقط من سكان الدولة. هذه الحقائق تشكك بإمكانية الإمارات لعب الدور الكبير الذي تطمح إليه.
أما السبب الثاني والأهم، فهو أن هناك وكيلا "حصريا" للإمبريالية في المنطقة، وهو الاحتلال الصهيوني. لن يسمح الاحتلال بوجود منافس إقليمي له على تمثيل حصري للإمبريالية، ولا أدل على ذلك من رفض تل أبيب منح الولايات المتحدة طائرات "إف 35" لأبو ظبي كثمن لتوقيع اتفاق التطبيع.
الولايات المتحدة نفسها لن تقبل بوكيل لها في الشرق الأوسط سوى الاحتلال، فهو وكيل مضمون، مهما تغيرت الإدارات الحاكمة في تل أبيب، بينما لا تعتبر واشنطن أي دولة غير الاحتلال وكيلا مؤتمنا؛ لأنها لا تضمن تغير الوضع السياسي في هذه الدول غير الديمقراطية والفاقدة للشرعية الشعبية.
إذا كانت الإمارات وقعت اتفاق التطبيع مع الاحتلال لمواجهة إيران، فقد أخطأت لأن واشنطن وتل أبيب لن تخوضا حربا لأجلها، وإذا كانت تريد مكانا ضمن وكلاء الغرب في الشرق الأوسط فقد ارتكبت وهما كبيرا، فالغرب لن يقبل سوى الوكيل الحصري ممثلا بالاحتلال، أما غيره من الدول فهي مجرد لاعبين صغار ضمن ماكينة السياسة الإمبريالية الضخمة!