بيت لحم- خاص قدس الإخبارية: أحواض مائية ضخمة نحتت بالصخر وبعضها بنيَ بناءً متقناً لا تشوبه شائبة، ثلاث بركٍ أوصلت المياه لمدينة القدس وبيت لحم أعواماً طويلة، حلت مشكلة المياه الشحيحة، ودخلت كتب التاريخ بعبقرية بانيها، تحاط هذه البرك بسلاسل جبلية مغلقة في منطقة "وادي إرطاس" المسماة "بالجنة المقفلة"، وتلفها غابات من السرو والصنوبر لتشعر بشيخوخة المكان، ولتتفكر بمدى تراكم الحضارات هنا، وكيف لبناء بهذا الضخامة أن يبقى لوقتنا هذا ويحافظ على جماله وشموخه!
تقع برك سليمان في الجنوب الغربي من مدينة بيت لحم على بعد 3 كيلومترات منها، وتسمى أيضاً "ببرك المرجيع" كما ذكر صاحب كتاب الأنس الجليل والتي ترتبط بالأصل بحادثة النبي يوسف "عليه السلام" مع إخوته.
وهناك عدد من الباحثين والمؤرخين من يربط تسميتها بنبي الله سليمان (عليه السلام)، ودليلهم على ذلك؛ استحالة بناء مثل هذه الأحواض على يد بشر في ذلك الوقت، وإنما بناها الجن الذين خدموا نبي الله سليمان (عليه السلام)، وهناك من يرى أن المقصود هو عاشر سلاطين الدولة العثمانية سليمان القانوني، والذي تم في عصره ترميم البرك وإعادتها للحياة، فبالتالي يبقى سر تسميتها لغز لم يحل بعد!
تتكون البُرك من ثلاث أحواض تبعد إحداها عن الأخرى (48-49) مترًا، وتبلغ مساحة هذه البرك كمساحة ملعب كرة قدم، وتتسع هذه البرك مجتمعة لحوالي (160) ألف متر مربع من الماء، وبعمق (15) مترًا، وهدفها الأساسي؛ هو إيصال الماء إلى القدس، حيث عثر على مصادر مناسبة للمياه في الوديان والينابيع والبرك الواقعة جنوبي مدينة بيت لحم، بالإضافة لتجمع مياه الأمطار بهذه البرك.
ففي وادي العروب سبعة عيون، وفي وادي البيار من أراضي الخضر خمسة ينابيع غزيرة بالإضافة إلى البالوع (عين الخضر)، فهذه الينابيع الكائنة في وادي العروب ووادي البيار والبالوع يصب ماؤها في برك سليمان ومنها يخرج الماء ويلتقي بمياه عيون إرطاس، وتسيل كلها في قنوات إلى القدس لتصل الماء إلى قلب القدس.
وقد بنيت هذه القنوات من الحجر، والشيد، وأخرى فخارية، ويعود تاريخ هذه القنوات إلى الفترة الرومانية وتحديداً إلى فترة بيلاطس، وسفيروس وهيرودس، ولعل البركتان العليا والوسطى من هذه البرك كانت على أغلب تقدير موجودة خلال فترة حكم الملك هيرودس وقد كانت فترة حكمه بين (37-4 ق.م)، أي أن البركتين العليا والوسطى ذات بناء روماني.
ولعل ما دعا السلطات الرومانية لبناء هذه القنوات هو تطور مدينة القدس عمرانياً وسكانياً وبالتالي لم يعد "عين سلوان"_ والذي كان يغذي القدس بالماء_ كافياً لسد احتياجات السكان المتزايدة من الماء، فكان الحل هو تزويد القدس بالماء من خلال شبكة من القنوات، وبالفعل فقد أثبتت نجاعتها.
وقد حظيت القنوات هذه على اهتمام خاص وتحديداً بالفترات الإسلامية، بل وتطور الاهتمام من مجرد تعمير وترميم لها، ففي فترة حكم السلطان الملك الظاهر خشقدم (865-872هـ/ 1460-1467م) تم بناء البركة السفلى الشرقية _أي البركة الثالثة_ كما قام بترميم شامل للنظام المائي، واهتم من بعده عدة سلاطين مماليك بإعمار وترميم القنوات والبرك، كما أوقف أمراء المماليك الأوقاف عليها.
أما بالفترة العثمانية فقد شيدت إعمارات وأبنية لتخدم هذا النظام الشامل، ولعل الإعمار الأهم في هذه الفترة ما قام به السلطان العثماني سليمان القانوني سنة (943هـ/ 1536-1537م) حيث استكمل النظام المائي وأوصله مع القدس، وأضاف إليه سلسلة من الأسبلة ما زالت منتشرة بالقدس القديمة حتى وقتنا هذا، لذا استحق أن يرتبط اسمه بتسمية هذه البرك، حسب ما ذكرت أغلب المصادر.
وفي أوائل الانتداب البريطاني 1919م، استبدلت القنوات الفخارية بمضخات معدنية لتحقق نفس الغرض ألا وهو إيصال المياه للقدس.
وكعادة التاريخ يستحيل على جماله الصمود! حيث جففت البرك عام 1997م؛ وذلك بسبب تكرر حالات الغرق فيها، وبالتالي هُجرت وأصبحت مكباً للنفايات ومكاناً لنمو الأعشاب، بسبب إهمال الجهات المعنية بها، كما وفي هذه الفترة حاول المستوطنون السيطرة عليها عن طريق تهويدها وإقامة الصلوات التلمودية فيها، إلا أن المطامع الإسرائيلية لم تنجح بالاستيلاء عليها؛ فقد طُورت المنطقة، وأُعيد إحياؤها، ونظفت البرك، وغدت مكاناً سياحياً تزوره العائلات وتستمتع بجمال هذا الصرح.
لمن لم يتسنَ له زيارة هذه البرك فقد أضاع فرصة التأمل بالتاريخ، ولم ير بأم عينه عبقرية البناء، ولم يكتشف ماذا قد يفعل الإنسان في سبيل حصوله على الماء شريان حياة البشرية، فقد أضعت على نفسك فرصة التمتع بجمال الأحراش الطبيعية والتي تحكي رواية تاريخية عريقة منذ زمن الرومان حتى زماننا هذا!
المصادر:
- مصطفى مراد الدباغ، بلادنا فلسطين، الجزء 8، قسم 2، 1991م.
- مجير الدين الحنبلي، الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، الجزء 2، 1999م.
- محسن صالح وآخرون، دراسات في التراث الثقافي لمدينة القدس، 2009م.
- الحج، العلم، والصوفية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2007م.
- إبراهيم أبو ارميس وإبراهيم ربايعة، وقف قناة السبيل في القدس من خلال الوثائق العثمانية، 2014م.