إذا كان الشهيد وديع حدّاد هو المهندسَ الثوريّ للعمليّات الفدائيّة الخاصّة خارج فلسطين، فإنّ الشهيد غسّان كنفاني كان المثقفَ الثوريَّ الذي فسّر للعالم معنى العمل الفدائيّ الفلسطينيّ وأهدافَه، في وضوحٍ شديدٍ لا يقبل التأويلَ أو المراوغة. وهنا انحاز كنفاني إلى الكفاح المسلّح نهجًا إستراتيجيًّا وأسلوبًا نضاليًّا وحيدًا لاستنزاف العدوّ الصهيونيّ، وصولًا إلى التحرير والانتصار.
لقد كان كنفاني المُنظِّرَ الأوّلَ للعنف الثوريّ الفلسطينيّ في مواجهة الإمبرياليّة والصهيونيّة. وإنّ التصاق هذا الكاتب الشهيد بالعمل الفدائيّ لم يكن ارتباطًا تنظيميًّا، ولم يكن بدافع "التشبيح" أو بداعي "الثأر،" وإنّما كان ارتباطًا وثيقًا بفكره السياسيّ، وبقناعاته، وبالنهج الذي دافع عن تماسكه المنطقيّ والأخلاقيّ حتى لحظة استشهاده. بل كان هذا الارتباطُ العمليُّ الوثيقُ هو أحدَ أهمّ أسبابِ اغتياله.
وخاض غسان كنفاني صراعاً فكرياً بلا هوادة في مواجهة الذين وقفوا ضد العمليّات الفدائيّة الخارجيّة مثلاً التي كانت تمارسها الجبهة الشعبية في سنواتها الأولى ، ولم يرُد على منتقدي تلك "العمليات" بالردح والشتائم ولا في لغة المزاودة والتنمر.
لقد اجتهد غسان أولاً في توفير المعلومات الموثقة الصحيحة وعرض الفكر السياسي الثوري الذي يقف خلف "ظاهرة العمليات في الخارج" فجاء رده – نقده – قوياً لا يخلو من لغته اللاذعة الساخرة. ذلك لأن صاحب مقولة "وراء العدو في كل مكان" ظل يؤكد - حتى لحظة استشهاده - أن لا انفصال أو تناقض بين أهداف العمل الفدائي في الضفة وقطاع غزّة والأغوار والنقب وعبر الحدود، وبين "العمليات الخارجية" في لندن وأثينا وبروكسل وزيورخ و... طالما أن الإستراتيجية واحدة وطالما أن العدوّ - الهدف: واحد.
هذه القناعة الرّاسخة استندت إلى فهم نظري عميق لطبيعة العدوّ الصهيوني وعلاقاته العضوية مع قوى الاستعمار، وإلى فهم لطبيعة الصراع العربي الصهيوني وتشابكاته وإلى قراءة علمية واعية لمتطلبات المرحلة وظروفها وموازين القوى في المنطقة والعالم وغيرها من القراءات والأسباب شكّلت في محصلتها الدليل الذي أضاء له رؤيته وشق طريقها.
يسأل غسان :
لماذا يموت شاب مثل عبد المحسن حسن على ثلوج مطار زيورخ؟ أو لماذا تُعرّض فتاة مثل أمينة دحبور نفسها للموت أو الاعتقال في سجون سويسرا؟ أو لماذا يُعرّض ماهر اليماني ومحمود عيسى نفسيهما للموت أو السجن في معتقلات اليونان؟ لماذا تخاطر ليلى خالد وسليم عيساوي بحياتهما في عملية جريئة مثل عملية الاستيلاء على الطائرة الأمريكية التابعة لشركة الخطوط الجوية العالمية وتدميرها؟ وأخيراً وليس آخراً لماذا يشتري شبل مثل خالد أو طلعت أو وائل أو عادل، الموت أو السجن، في أكثر من مدينة أوروبية؟
ويجيب :
“لأن الأمور تُقاس عادة بنتائجها، إن ضربة واحدة من هذه الضربات، كانت أشد فعلاً وأبعد أثراً من مكاتب إعلام أو ملحقين ثقافيين أو صحفيين، أنفقوا أموالاً وجهوداً كان يمكن لو وضعت في خدمة الثورة الفلسطينية لكانت الثورة نَمَت وتصاعدت وأفادت على الصعيد الإعلامي أكثر.
ولماذا حرص دائمًا على إبراز صورة الفدائيّ المُقاتل حتى في مُلصقاته الفنيّة ورُسومه، وعلى تظهير "الرموز" التي تحرِّض على العنف الثوريّ وعلى ما أسماه "الحرب الشعبيّة المسلّحة الطويلة الأمد"؟.
إنّ العودة إلى مقالات غسان كنفاني السياسيّة، وبخاصّةٍ مع انطلاق العمل الفدائيّ، ستُبرز أمامنا عناوينَ مثل: "وحدة الكفاح المسلّح،" و"وحدة البنادق في مواجهة العدوّ،" و"وراء العدوّ في كلّ مكان". وسوف نجد أنّ أغلفة مجلة الهدف، التي أسّسها كنفاني في بيروت، تحتلّها صورُ الفدائيين، وصورُ معسكرات الأشبال والزهرات، وأخبارُ العمليّات الفدائيّة ــــ من قطاع غزّة، مُرورًا بالجنوب اللبنانيّ، وصولًا إلى أثينا وبروكسل.
وكما في السياسة في الأدب أيضاً حين كتب "عن الرجال والبنادق"، وعن معنى السلاح في قصصه القصيرة وفي رواياته.
ربط غسان كنفاني بين السلاح والإرادة. ولم يسْخرْ من "مرتينةٍ" قديمةٍ لصيد السناجب والأرانب، صارت في قبضة فلّاحٍ شابٍّ أداةً قتاليّةً فاعلةً في فكّ الحصار عن الرجال المحاصرين في قلعة جدّين بصفد؛ ذلك لأنّ خلف هذه المرتينة كانت تقبع إرادةٌ فولاذيةٌ في القتال والنصر.
وفي الوقت عينه سخر كنفاني من قيادةٍ فلسطينيّةٍ رسميّةٍ جاهلة، وعديمةِ الكفاءة والضمير؛ وهاجم وعيًا ريفيًّا مزيّفًا، مثّله زعيمٌ ومختارٌ تقليديّ غارقٌ في الأوهام. لقد نظر كنفاني إلى السلاح باعتباره كومةً من الحديد لا قيمة لها، ما لم يلازمْها الوعيُ والإرادةُ والرؤيةُ الصحيحة التي تقود إلى الهدف الصحيح.
يقول عن عمليّات الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين:
"إنّ ضربات الجبهة الشعبيّة هي الإعلامُ الثوريُّ الذي نجح في نزع الشمع عن الآذان الغربيّة التي لم تَسْمع في الماضي، ومَسحَ القذى عن العيون الأوروبيّة التي لم تستطعْ أن ترى الحقيقةَ في السابق. وهذا هو بالذات التفسيرُ الوحيدُ الكامنُ وراء ظهور مقالاتٍ مثل مقالات أرنولد تويْنبي، المؤرِّخِ البريطانيِّ العالميّ، أو [لظهور] لجانٍ عفويّةٍ شُكّلتْ طوعًا لدعم الجبهة الشعبيّة وقضيّةِ العرب في فلسطين، كما حصل في إيطاليا وسويسرا والسويد وباكستان، أو برقيات ورسائل التأييد التي تصلنا من أمريكا الشماليّة وأمريكا اللاتينيّة وغيرهما
ويقول غسان كنفاني لمنتقدي "العمليات الخاصة" فيكتب:
القول بأن مثل هذه الضربات أدت، أو ستؤدي، إلى استنفار أو استعداء أمريكا أو ألمانيا أو بريطانيا أو غيرها فإنه قول يبلغ قمة المهزلة، إنه قول يلغي ببساطة ساذجة تاريخاً كاملاً عن معاناة شعب فلسطين والأمة العربية على يد هذه الدول
ويرمي كنفاني سؤاله:
“إن السؤال الذي يجب أن يسأل: ما هو الشيء الذي لم تُقدمه هذه الدول الاستعمارية "لإسرائيل" بَعد؟ وما هو الدليل الذي لا زال البعض بحاجة إليه ليثبت لهم عداء الدول الاستعمارية .. المستعمِرة لنا و لقضايانا؟
معسكر العدوّ، بالنسبة للشهيد الأديب، لم يكن يقتصر على "إسرائيل" والحركة الصهيونية، لو كان الأمر على هذا النحو، لاختلف كل البناء الفكري السياسي ولما وجدنا هذا الرّابط الوثيق بين الإمبريالية وبين الصهيونية وكيّانها العنصري في فلسطين المحتلة. إن الشريان الذي يمُد العدو بالمال والسلاح والتقنية والدعم السياسي هو هو لم يتغير. منذ إنشاء هذا الكيان الصهيوني العنصري الإحلالي على أنقاض شعبنا وقراه حتى هذه اللحظة، القانون الذي يسير عليه العدوّ: أرض أكثر ..عرب أقل.
وصحيح أن هذا الشكل من العمل الفدائي الثوري توقف منذ عقود، وصحيح أيضاً أن ما جرى ضخه من إعلام معادٍ لمثل هذا العمل جعل البعض يراه اليوم (دماراً وتخريباً) لكن كل هذا لا يمنع من مساءلة الواقع مُجدداً وإجراء المراجعة السياسية والتاريخية لكل أشكال العمل المقاوم. ومنها وفي قلبها: العمل الفدائي في/ ومن الخارج.
لقد انتقلنا إلى مرحلة عجيبة صار فيها العدو الصهيوني يتبنى شعار غسان كنفاني ويطبقه هو على الأرض ويلاحق المناضلين ويستهدف الشعب الفلسطيني في كل مكان.
ومن الواجب أن تُعيد القوى الثورية الفلسطينية، أو ما تبقى منها، قراءتها لدورها وللعمل الفدائي اليوم ومستقبلاً. فليس المطلوب تكرار واستنساخ ما سبق من تجارب، أو العمل على قاعدة “فشة الخلق”، بقدر ما نحتاج إلى شق آفاق جديدة لأشكال نضالية جديدة، ووفق رؤية ثورية لا تنفصل عن الواقع ولا عن جوهر المسار الذي خطه الفدائيون الأوائل .. رؤية تستعيد من خلالها طليعة شعبنا ذاك الشعار الثوري الصحيح الذي كتبه كنفاني بالدم : وراء العدو في كل مكان.