على الرغم من حصول الرئيس محمود عباس على موافقة مختلف الفصائل على إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية بالتتابع، ووفق التمثيل النسبي الكامل؛ لم يصدر المرسوم الرئاسي الذي سيحدد موعد الانتخابات، مع إن إصدار المرسوم يزيد من احتمال إجراء الانتخابات، ولا يعني بالضرورة إجراءها، فهناك عوامل ومؤثرات ضاغطة عدة قد تحول دون إجراء الانتخابات.
تباينت التفسيرات لأسباب التأخير، فهناك من أرجعه إلى انتظار الرد الإسرائيلي على السماح بإجراء الانتخابات بالقدس وفق ما ينص عليه اتفاق أوسلو، وما جرى في الانتخابات السابقة، ضمن تقدير أن الرئيس تفاجأ من مرونة حركة حماس ولم يعد متحمسًا لإجراء الانتخابات، وأنه يراهن على الرفض الإسرائيلي "المرجح" في ظل الفترة الانتقالية التي تمر بها إسرائيل عشية خوض الانتخابات الثالثة، وما تشهده من مزايدات إزاء الفلسطينيين بين القيادات والأحزاب المتنافسة.
هذا التفسير قاصر، لأن المرسوم يمكن أن يصدر ولا يتعارض مع الجهود المبذولة للحصول على الضوء الأخضر الإسرائيلي، وصدوره يمكن أن يشكل ضغطًا على سلطات الاحتلال. وهنا، ليس من المفروغ منه أن إسرائيل سترفض إجراء الانتخابات الفلسطينية قبل انتخاباتها، وقبل أن تكون هناك حكومة منتخبة ذات صلاحيات، لا سيما بعد موافقة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على ضم القدس، ونقل السفارة من تل أبيب إلى القدس. فثمة احتمال أن تصدر الموافقة الإسرائيلية، بعد تأخير أو من دونه، لأن الانتخابات ستجدد شرعية سلطة "أوسلو" بمشاركة معظم الفصائل، وهذا شيء جيد للاحتلال.
كما أن إسرائيل تفرّق بين أرض القدس التي هي جزء من أرض "إسرائيل الكاملة"، وبين "سكانها" الذين لا تريد ضمهم ولا منحهم الجنسية الإسرائيلية، لذا من المفيد الفصل بين الأرض و"السكان" وإبقاء الرابط بينهم وبين السلطة الفلسطينية. وبالتالي، قد تحقق الانتخابات القادمة ما لم تحققه الانتخابات السابقة، وهو جعل "حماس" تحت سقف سلطة أوسلو، كونها ستجري، حتى الآن، من دون الاتفاق على إنهاء الانقسام الذي يعدّ الدجاجة التي تبيض ذهبًا لإسرائيل.
وإذا أضفنا إلى ما سبق أن الانتخابات التي جرت في القدس سابقًا جرت في شروط سيئة، إذ صوّت المقدسيون في مراكز البريد الإسرائيلية من دون رقابة فلسطينية، لتقوم سلطات الاحتلال بنقل الصناديق للسلطة بعد ذلك، وهذا يعني بأن المقدسي يعامل كالوافد، مجرد مقيم وليس مواطنًا. والجدير ذكره أن عدد المصوتين في الانتخابات السابقة لم يزد عن بضعة آلاف.
المفترض عدم السماح للاحتلال بالتحكم بالفيتو من خلال السماح بإجراء الانتخابات من عدمه، وذلك من خلال جعلها قضية نضالية تُفرض فرضًا على الاحتلال إذا لم يوافق. فيمكن تحديد مراكز الاقتراع في المدارس العربية مثلًا، ودعوة المواطنين للاقتراع فيها، وخوض معركة لممارسة حقهم في الاقتراع، بما يؤكد عروبة القدس.
وهناك من عزا التأخير في إصدار المرسوم إلى التراجع عن إجراء الانتخابات جراء عدم جهوزية حركة فتح والصدمة الناجمة عن موافقة "حماس" غير المتوقعة على شروط الرئيس، وهذا مجرد اجتهاد يمكن أن يكون صائبًا أو خاطئًا. ويمكن دحضه باعتقاد الرئيس، كما نُقِل عنه، أن فرص "فتح" في الانتخابات القادمة أفضل من السابقة خلافًا لما يعتقد الكثيرون، في ظل التمثيل النسبي الكامل، وتراجع "حماس" والفصائل عن مبادرة الفصائل الثمانية قبل أن يجف حبرها لصالح ما أراده، وما يعنيه ذلك من إرسال رسالة ضعف للشعب والجميع، وسعي "حماس" لعدم ترشيح مرشح منها للرئاسة، ولترشيح شخصيات ليست فاقعة ولا من ذوي اللحى (كما نصح السفير القطري محمد العمادي حركة حماس)، شرط أن تكون مقربة منها ومقبولة دوليًا، يمكن أن يصب كذلك لصالح الرئيس و"فتح" كونه يذكي الخيار الذي ساروا فيه.
وهناك من يفسّر التأخير في إصدار المرسوم بضرورة بلورة التعديلات على القانون ليستوعب المستجدات التي اتفقت عليها الفصائل، ولا تنسجم مع ما هو وارد في القانون، مثل إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية بالتتابع خلاًفا للتزامن، كما ينص القانون، وهذا صحيح، ولكن لا يفسر التأخير لفترة طويلة.
وعلل البعض أن التأخير يرجع إلى سببين:
السبب الأول: استنفاد فرص الاتفاق على قائمة مشتركة واحدة بين حركتي فتح وحماس ومن يرغب من الفصائل والمستقلين، وهذه الفكرة مطروحة بقوة.
ويمكن أن تأخذ القائمة المشتركة صيغًا أخرى، مثل التوافق على أن ترشح "فتح" في قائمتها مثلًا خمسين أو ستين مرشحًا فقط، و"حماس" مثلها أو أقل بعشرة مقاعد. وفي هذه الحالة أو تلك، يتضح أن الهدف الاتفاقُ على انتخابات محسومة النتائج سلفًا.
وتواجه فكرة القائمة المشتركة مباشرة أو بشكل غير مباشر معارضة واسعة حتى داخل حركتي فتح وحماس، لأنها تشكل نوعًا من تحكم القيادة في "فتح" و"حماس" بالقرار، ومصادرة إرادة الشعب.
إن الاتفاق على القائمة المشتركة بأي صيغة سيجعل الانتخابات، على الأغلب، بلا منافسة حقيقية وأقرب إلى التزكية، إلا إذا عاقب الشعب طرفي الانقسام وصوت لقائمة أو قوائم تهدف لكسر الاستقطاب الثنائي، وتكون مدعومة من الغاضبين على ما وصلت إليه القضية من كارثة، في ظل طغيان الصراع بين السلطتين المتنازعتين على المصالح والمكاسب والوظائف وتمثيل الفلسطينيين.
إن أسوأ ما يحدث أن وظيفة الانتخابات القادمة محاولة منح الشرعية للوضع الراهن، أي لواقع وجود سلطتين كون لا شيء سيؤدي إلى جعل الانتخابات مدخلًا لإنهاء الانقسام إذا لم يسبقها، أو على الأقل يترافق معها، اتفاق وطني يتضمن إنهاء الانقسام، من خلال توحيد المؤسسات، والاتفاق على أساس سياسي يجسد القواسم المشتركة، ويتصدى للمخاطر التي تهدد القضية ويوظّف الفرص المتاحة، وعلى أسس المشاركة السياسية الحقيقية. ومن دون الاتفاق المسبق على إنجاز الوحدة بخطوات ملموسة وبآلية تطبيق ملزمة؛ لن تقود الانتخابات إلى إنهاء الانقسام، بل إلى شرعنته والتعايش معه.
الغريب أن من يتهم طرفًا بأنه وكيل أمني للاحتلال، أو يتهم الطرف الآخر بالانقلاب، ويرفض اللقاء والحوار معه منذ أكثر من عامين، لا يجد أي غضاضة أو حرج بالحديث عن تشكيل قائمة مشتركة بهذه الصيغة أو تلك من دون اشتراط تراجع الانقلابيين عن انقلابهم ووكلاء الاحتلال عن الالتزامات المجحفة المترتبة على اتفاق أوسلو.
هل يمكن التوصل إلى القائمة المشتركة؟ هذا أمر صعب ولكنه ليس مستحيلًا. فالرئيس عبر هذا المسار يجدد شرعيته ويفتح الطريق ليكون مرشحًا توافقيًا للانتخابات الرئاسية، إلى جانب تحقق وحدة شكلية تغطي على واقع الانقسام. وفي المقابل، تنقل "حماس" المسؤولية عن قطاع غزة إلى السلطة من دون التخلي عن حكم القطاع، وعلى حصة مضمونة من دون مغالبة ولا تقزيم لدورها، قد تكون أقل مما تستحق، ولكن أفضل من السيناريوهات الأخرى. كما تحصل على الشرعية التي تساعد على درء المخاطر الناجمة عن تزايد احتمال شن عدوان إسرائيلي ضدها، لا سيما إن لم تلتزم الحكومة الإسرائيلية القادمة باستمرار التفاهمات التي شرعت بإبرامها، ولم تتبلور كليًا حتى الآن مع حكومة بنيامين نتنياهو، إضافة إلى حصول الحركة على الاعتراف العربي والدولي .
السبب الثاني لتأخر صدور المرسوم: انتظار إجراء الانتخابات الإسرائيلية وتشكيل الحكومة، أو تقدير نتائجها المحتملة. وما يعزز ذلك تردد أن الانتخابات التشريعية ستجري في شهر تموز القادم، أي بعد أن تكون الصورة قد اتضحت في إسرائيل، وما يعنيه ذلك من تجدد الرهان على سقوط نتنياهو ونجاح بيني غانتس، الذي سيعود إذا فاز إلى المسار السياسي، وسيكون أقل تطرفًا مع السلطة، وأكثر تشددًا مع سلطة "حماس".
إن الرهان على ما يجري في إسرائيل، وما سيجري في الولايات المتحدة واحتمال سقوط ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة في تشرين الثاني القادم، وعلى المتغيرات التي تجري ويمكن أن تجري في الإقليم والعالم؛ رهان خاسر، سابقًا وحاليًا ومستقبلًا، لأن شرط القدرة على الاستفادة من المتغيرات والفرص المتاحة ودرء أو التقليل من المخاطر الراهنة والقادمة والمحتملة، أن يكون الرهان الأساسي على الذات وعلى الشعب الفلسطيني الذي أثبت أنه يمكن الرهان عليه، وهذا يعطي الأولوية لترتيب البيت الفلسطيني.
إن البقاء في دائرة انتظار استئناف "المسيرة السلمية" من دون رؤية واستراتيحية وإرادة فلسطينية قادرة على جمع أوراق الضغط والقوة الفلسطينية، والاستفادة من التجارب السابقة، سيضيّع الفرص المتاحة، ويؤكد مجددًا على أن من يجرب المجرب عقله مخرب.
لا نريد تعبيد الطريق أمام "صفقة ترامب" مع أن الجميع ضدها من خلال استمرار الانقسام. ونريد ونحتاج إلى انتخابات تكون جزءًا من عملية تغيير وتجديد وإصلاح، قادرة على إنهاء الانقسام، وتنقلنا إلى الأمام، لا إلى انتخابات تجدد شرعية الوضع الراهن الذي لا يسّر صديقًا ويسّر كل الأعداء.