"إلى شهداء الجنوب"
لم أجد ما يشبه تلهُّفي للوصول إلى مقام أبينا إبراهيم الخليل (عليه السلام) في مزارع شبعا المحتلة سوى ما بثّه المشتاقون إلى البيت العتيق في أشعار الحنين إلى مكة، ومرّت الأيام وأنا أكابد لوعة الشوق إلى المقام الذي وقعتُ في هواه منذ سنواتٍ ممّا قرأتُ من حكايات ناس وادي التيم في جنوب لبنان. وقد ضاعف تيقُّني باستحالة الوصول إلى المقام تباريح الشوق إليه، خاصّةً كلّما يمّمتُ وجهي شمالاً وتراءت لي مزارع شبعا من بعيدٍ، أو كلّما شاركتُ في طقوس إيقاد البخور في مقام النبي يوشع في قرية النبي يوشع العامِلية المُهجّرة، والمقابل لمقام أبينا إبراهيم الخليل من الجهة الفلسطينية.
على هذه الحال استمرّت الحال، إلى أن شاء مُبدّل الأحوال أن أطالع إعلاناً صادراً عن مدرسةٍ حقليةٍ صهيونيةٍ في الجولان عن رحلةٍ لمعرفة البلاد وإقامة طقسٍ تلموديٍّ في جبل "بين هبتريم" مُسمّى المقام عند الصهاينة، بعد حصولها على إذنٍ خاصٍّ من "الجهات المختصّة" للوصول إلى المقام بمناسبة الأعياد اليهودية.
في صباحٍ ربيعيٍّ مُتخمٍ بالمفارقات، كانت قافلةٌ مكوّنةٌ من ثلاث حافلاتٍ تكتظُّ بأبناء "إسحق المحظيّ"، كما تقول الأسطورة التوراتيّة، تصعد الجبل حاملةً معها سليل إسماعيل "المنبوذ" إلى مقام جدّه إبراهيم الخليل…
(الطريق إلى المقام، خالد عودة الله، نيسان 2019)
"خُذ أربعةً من الطير"
على طرف وادي التيم، وادي الهجرات العظيمة عبر التاريخ، حيثُ التقت روافدُ بشريةٌ من جزيرة العرب ومن بلاد الرافدين ومصر، حاملةً معها حكاياتها وأساطيرها ومعتقداتها. وحيث نَمَت الأشجار العظيمة المقدّسة من الملول والسنديان، على كتف جبل حرمون[3] (جبل الشيخ) المقدّس، ذلك الجبل الذي صعد إليه العُبّاد والزُّهّاد في رحلتهم الأبدية نحو المُطلق المُتعالي.. نحو الله…
تقول حكايات وادي التيم إنّ لأبينا إبراهيم الخليل حكايةً على جبل الروس، كتف جبل حرمون (الشيخ)، وللحكاية نسختان تتناقلهما الأجيال، الأولى: أنّ أبانا إبراهيم الخليل، المهاجر المتسائل، قد حطّ به الترحال على قمّةٍ من قمم جبل الروس (رويسة العلم) على كتف جبل الشيخ. ومن على ذلك المُرتقى السماويّ، نادى إبراهيمُ الخليل ربَّه بما تبعثه الخلّة في النفس من عشمٍ ودلالٍ: ((رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ)). فأجابته السماء في ذلك المكان القريب من السماء: ((أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا)).
وهكذا في زمانٍ ما، صار اسمُ ذلك الجرف الصخريّ على جبل الروس المطلّ على وادي العسل "جبل مشهد الطير"، وصار اسمُ سفح الجبل الممتدّ حتى قرار وادي العسل "درجات المشهد". وفي المرويّات التراثية حول قصّة ذبح الطيور وتوزيع أجسادها المسحوقة المخلوطة، أنّ أبانا إبراهيم حمل رؤوس الطيور ووقف على قمّة الجبل فناداها، فأتت أجسادُها المبعثرة وانضمّ كلُّ جسدٍ إلى رأسه، وربّما يكون هذا هو أصل تسمية ذلك الجبل بجبل الروس، أي الرؤوس.
(مقام إبراهيم الخليل، خالد عودة الله، نيسان 2019)
وأرضعتهُ الغزالة …
وتقول النسخة الثانية من حكايات الوادي: إنّ مقام جدّنا إبراهيم في المزارع، كما صارت تسمّى لاحقاً، أُقيم فوق المغارة التي لجأت إليها أمُّ أبينا إبراهيم لتلده في جوفها على جبل حرمون (جبل الشيخ)؛ خوفاً عليه من بطش الملك نمرود الجبّار، وإنّ الغزالة كانت تأتي لإرضاعه في ذلك الكهف. ترتبط هذه الحكاية بحكايةٍ أخرى تورِدُها كتب الأخبار عن قرية بيت لهيا (بيت الآلهة) القريبة،[4] أنّها موطن "آزر" أبي إبراهيم، وكان يصنع فيها الأصنام ويدفعها إلى ابنه إبراهيم ليبيعها فيأتي إلى حجرٍ فيكسرها عليه. هذا إضافةً إلى الموروث الشعبيّ، كما سمعتُه من أهالي قرية عين قنية السورية المُحتلة المجاورة، الذي يُسمّي قلعة الصبيبة القريبة باسم قلعة النمرود. ويقولون إنّ الملك الجبّار وقف على بُرجٍ ورمى الله (تعالى الله) بسهمٍ، فعاد إليه السهم مُلطّخاً بدم طيرٍ، فحسِبَه دم الله (تعالى الله)، ليسلّط عليه بعوضةً دخلت أنفه حتى صرعته.
ويقول نقولا زيادة عن القلعة، والتي زارها بصحبة رفيق دربه المؤرخ المتمرّد درويش المقدادي، إنّ الأسطورة المحليّة أطلقت اسم النمرود على القلعة لضخامة الحجارة وعظم البناء وارتفاع الأبراج وحصانة الأسوار. كلّ الصفات هذه أقنعت الناس منذ أجيالٍ بأنّ هذه القلعة من بناء الجبابرة القدماء لا من عمل الإنسان؛ فنسبوها إلى بطل الجبابرة نمرود. [5] ويذكر صاحب "الأخبار الشهيّة" أنّ شبعا بموقعها القصيّ المنعزل كانت عبر التاريخ ملجأ الهاربين من الظلام والأسياد. ويُورِد بعض البحّاثة، كأحمد سوسة، أنّ إبراهيم الخليل مرّ بمنطقة المزارع في طريقه من دمشق إلى فلسطين. [6]
إبراهيم الخليل على جبل حرمون
لا أدري ما إذا كانت الذاكرة الشعبية التي حفظت التاريخ المقدّس لجبل حرمون (جبل الشيخ)، ومنه تاريخ أبينا إبراهيم على ذلك الجبل، أم أنّ المخيال الشعبيّ رأى أنّ قداسة الجبل لا تكتمل دون أن يكون لأبي الأنبياء نصيبٌ منها؛ فأمشت أبانا إبراهيم على خُطى ابن الرافدين من قبله "جلجامش" الذي سبقه في رحلته نحو جبل الرؤى، كما تسمّيه الأساطير. كما تأتي ملحمة جلجامش على ذكره: “أرض جبل الأرز حرمون، هي أرض الخالدين”.
(مقام إبراهيم الخليل، وتبدو أمامه بركة الماء، خالد عودة الله، نيسان 2019)
وينقل العارفون بتاريخ وادي التيم أنّ أهل الوادي كانوا يخرجون حتى عهدٍ قريبٍ إلى مقام أبينا إبراهيم في فصل الربيع ويُحْيُون موسماً يجمع ما بين الطقوس الدينية من ذبح ذبائح النذور والغناء والرقص. وكانوا يعلّقون الشرائط بأشجار السنديان المعمّرة المحيطة بالمقام، والتي يقوم الزائرون بشرطها وربطها على أيدي أطفالهم للتبرّك بها. وتُعلّق قمصان المُعتلّين على سنديانات المقام أملاً في الشفاء والسلامة، ويقدّمون الطعام لعابري السبيل. ومن عاداتهم أن يسيروا إلى المقام حُفاة الأقدام أثناء قصدِهم مقامَ أبي الأنبياء في طلب الحاجة أو الإيفاء بالنذر، ولم تقتصر الحاجات المرفوعة إلى الله عند مقام خليله على طلب الشفاء والولد وإنّما شملت أيضاً طلب عودة المهاجرين والمغتربين في هذا الإقليم المجروح بالغربة.
(من جبل الروس، أطراف قرية الخِيام تليها قلعة شقيف، التي يُشير إليها السهم الأحمر، خالد عودة الله، نيسان 2019 )
وقد كان يخدم المقامَ وزوّارَه أتباعُ الطريقة القادرية، من آل حمود بالتحديد، كما يُورِد فرج الله صالح ديب في كتابه "القرية وسوسيولوجيا الانتقال إلى السوق". ويُردِف المؤلّف بالقول: ولا زال أهل الوادي يُقسِمون بالمقام: "بِجاه القبلة، بِجاه الخليل إبراهيم"، ويُوجّه المقسِم يده باتجاه المقام. وأنّ محمل الجنائز كان يُوجَّه نحو المقام قبل أن يُوارى المتوفّى التراب بعد أن يُطاف به في قرية كفر شوبا مُشيَّعاً بموكبٍ يتقدّمه حملة السناجق والدفوف والطبول مع أدعيةٍ ومدائح لجدّي عبد القادر (مولانا عبد القادر الجيلاني). وقد كان أهالي شبعا، أرضِ الوفرة والشَبع كما يفيض اسمها الآراميّ بالمعنى، يضعون آنية الطعام الفخارية في المقام طلباً للبركة في المأكل والمشرب.
(في الأفق الثلج على جبل الشيخ، خالد عودة الله، نيسان 2019)
المقام: المكان والزمان
على كتف جبل حرمون (جبل الشيخ) في مزارع شبعا، يرتفع مقام أبينا إبراهيم الخليل بقبابه الثلاثة البيضاوية على نتوءٍ صخريٍّ (1296م عن سطح البحر) يُطلّ على وادي العسل[7] السَّحيق؛ موطن النحل الذي تسيل صخورُه عسلاً كما يقول الشباعنة. يتكوّن المقام الحالي من ثلاث حجراتٍ مُقبّبةٍ طولها الإجماليّ 14 متراً بعرض 5 أمتارٍ، والقبّة الوسطى أعلى من القبتين على الأطراف، يتوسّط الحُجرة القبلية محرابٌ، يدخل الزائر إلى المقام من بابٍ منخفضٍ كما حال معظم المقامات في بلادنا، نُقِش فوق ساكفه[8]: "تمّ إصلاح هذا المقام في 11 ربيع الأول سنة 1355 هجرية" (1937 ميلاديّة). يؤرّخ النقش لترميم المقام وتوسعته بحُجرةٍ رابعةٍ على مدخل المقام تحوي مصطبتين متقابلتين لجلوس الزوار، وذلك على نفقة المحسن الكبير خالد عطوي، الذي عاش وتُوفّي في الولايات المتحدة.
(المقام من الداخل، خالد عودة الله، نيسان 2019)
ويبدو انّ إتمام عملية إصلاح المقام جاءت لتتزامن مع الاحتفال بذكرى المولد النبويّ الشريف الذي يُحتَفل به في 12 من شهر ربيع الأول (17 ربيع الأول عند العامليين)، حيث كان أهالي شبعا وقرى وادي التيم من مُختلف الطوائف يقصدون المقام للاحتفال والتبرّك والتنزّه تحت ظلال أشجار السنديان في هوائه العليل.
أمّا معمار المقام، فيعود إلى الفترة المملوكية، ويمكن مشاهدة بقايا محرابٍ قديمٍ لبناءٍ سابقٍ أُقيم البناء الحاليّ على أنقاضه، والذي أقيم بدوره على بناءٍ قديمٍ يعود للعصر البيزنطيّ كما تشي بذلك المصطبة/المنصّة القديمة التي أُقيم فوقها المقام. وربّما هي بقايا ديرٍ من أديرة الغساسنة التي تنتشرُ في المحيط، كما هو حال العديد من المقامات في بلادنا، والتي بُنِيت على مواقع أديرةٍ سابقةٍ من مثل مقام النبي صمويل شمال القدس الذي يسمّيه مولانا شمس الدين المقدسيّ بـ"دير شمويل". وكانت هذه المعابد القديمة تحتوي على قبوٍ استُخدِم لحفظ مدّخرات المؤمنين في هذه المعابد الآمنة بسبب قداستها، ولهذا الاعتقاد والممارسة العتيقة صدىً في الممارسات الشعبية المتعلّقة بالمقامات في وادي التيم؛ حيث كانت تستخدم كـ "خزنةٍ" يُؤمّن على الغلال والمحاصيل في حرم المقام وتحت أشجاره فلا يعتدي عليها أحدٌ بسرقتها.
(النقش فوق باب المقام "تمّ إصلاح هذا المقام في 11 ربيع الأول سنة 1355 هجرية"، خالد عودة الله، نيسان 2019)
وإلى الجنوب من المقام، يوجد عددٌ من القبور القديمة المبنية بحجارةٍ كبيرة على شكل عَقد جملونيّ، وبعضها حديثة العهد بُني بالخرسانة، وقد كشفت الحفريات الأثرية حول المقام عن أوانٍ فخّاريةٍ من العصر البيزنطيّ والمملوكيّ، بالإضافة إلى نقودٍ معدنيةٍ مملوكيةٍ صُكّت بدمشق لكلٍّ من السلاطين الملك العادل زين الدين كتبغا، والناصر ناصر الدين محمد بن قلاوون والظاهر سيف الدين برقوق، فضلاً عن قطعة نقدٍ عثمانيةٍ من زمن السلطان عبد الحميد الثاني.
(شجرة بلوط مُعمرة في جوار المقام، خالد عودة الله، نيسان 2019)
وكما هو المعتاد في معظم المقامات، فقد بُني المقام على مرتفعٍ من الأرض مُشرفٍ، بجوار نبعةٍ تصبّ في بركة ماءٍ مستديرةٍ، وتحيط به أشجارٌ معمّرةٌ من البلوط عمرها مئات السنين، حمَتها حرمة المقام من فؤوس الحطّابين لصناعة الفحم الذي كان يُنقل لبيعه في دمشق. وعلى ذكر البلوط، تخبرنا كتب الرحّالة المسلمين أنّ المناطق المحيطة بالمقام كانت مُستَقرّاً لجماعةٍ من المتصوّفة سكنت أكواخ بيسان[9] عُرفت باسم البلوطيين، وكانوا يتقوّتون بثمار البلوط، بعد نقعها لإزالة المرار منها وطحنها، ومن ثمّ يصنعون من دقيقها خُبزاً.
(إطلالة على وادي العسل، خالد عودة الله، نيسان 2019)
ويرتبط اختيار هذا المكان لبناء المقام، كمعظم مقامات بلادنا، بوظيفةٍ حربيةٍ سياسيةٍ في سياق المواجهة مع الصليبيين؛ حيث يطلّ على ثغر بانياس[10] الذي شكّل بؤرةً مكثّفةً للصراع الطويل مع الغزاة الإفرنج؛ نظراً لأهمّية موقعه الاستراتيجي. وقد استمرّت منطقة المقام بلعب هذا الدور الحربيّ في الزمن الحديث؛ ففي الثورة السورية الكبرى، وتحديداً في آذار 1926، رابطت فرقةٌ من مجاهدي بني معروف في مشهد الطير للدفاع عن مجدل شمس من هجوم قادة الكولونيل الفرنسيّ "كليمان غرانكور"، وصولاً إلى عمليات الفدائيين الذين اتّخذوا من جبل الروس قواعد حصينةً لمهاجمة الصهاينة بُعَيد النكسة، وانتهاءً بعمليات المقاومة اللبنانية المستمرّة إلى يومنا هذا ….
ويقعُ المقام على الطريق التي تربط بانياس الحولة بدمشق عبر جبل حرمون (الشيخ)، وعلى الطريق القديم من صفد إلى دمشق، غير بعيدٍ عن طريقٍ أخرى تمرّ من شبعا إلى مُغُرها (مغر شبعا)؛ أبعد مزارعها عنها. هذه الطرق التي عبرها الزُّرّاع والرعاة والثوّار والمهرّبين بالإضافة إلى "الثلاجين"، جُلّاب الثلج من جبل الشيخ لبيعه في الأسواق، الصاعدين إلى جبل الشيخ نهاراً والهابطين منه ليلاً حفظاً للثلج من حرارة الشمس.
"وقفيّة مشهد الطير"
وأرض المقام وما يحيط به من غاباتٍ أرضٌ وقفيّةٌ منذ مئات السنين. وفي الثاني من شباط 1949، ثبّتت المحكمة الشرعية العليا قرار محكمة حاصبيا السنّية الشرعية، الصادر في الثلاثين من تشرين الثاني سنة 1944 برئاسة القاضي المقاوم محمد سليم جلال الدين رحمه الله، وقفيّة قطعة الأرض المُسمّاة بمشهد الطير الإبراهيميّ الكائنة في خراج قرية شبعا التابعة لحاصبيا، والتي تحتوي على مسجدٍ قديمٍ وأشجارٍ من السنديان كثيرة العدد والموقوف ريعُها على مسجدي قرية شبعا ومقام الخليل إبراهيم. حسم هذا الحكم النزاع بين الوقف السُّني والدولة اللبنانية حول ادّعاء الأخيرة بكون أرض المقام أرضاً أميريةً (أرض دولة)، وتعدّ وثائق المحكمة الشرعيّة الخاصة بوقف مشهد الطير من الوثائق الرئيسيّة التي تقدّمها الحكومة اللبنانية في المحافل الدولية لإثبات لبنانيّة مزارع شبعا ودحض الادّعاءات الصهيونيّة. [11]
" بين هَبتريم هو ما يسميه الاسماعيليون[12] بمشهد الطير"
كانت مزارع شبعا ومرتفعات كفر شوبا وجبل الشيخ عموماً محلّاً لأطماع الحركة الصهيونية منذ بدايات نشاطها الاستيطانيّ في فلسطين، وقد أرسل البارون "روتشيلد" عام 1913 بعثةً للمساحة إلى المنطقة، بالتعاون مع الجالية اليهودية التي كانت تُقيم في حاصبيا حتى الحرب العالمية الأولى، والتي انتقل غالبية أعضائها لاحقاً للاستيطان في مستوطنة "روش بينا"، التي أقيمت على أراضي قرية الجاعونة المهجّرة؛ بحثاً عن فرصٍ استيطانيةٍ. وقد سعى الصهاينة أثناء مُداولات ترسيم الحدود ما بين الاحتلالين الفرنسيّ والبريطانيّ إلى ضمّ منطقة المزارع وسفوح جبل الشيخ وصولاً إلى نهر الليطاني شمالاً إلى حدود فلسطين الانتدابية؛ تحضيراً لإقامة كيانهم المَسْخ برعاية الإنجليز.
وبعد احتلال المزراع، وتحديداً في العام 1969، اضطلع الحاخام ووكيل وزارة الأديان الصهيونية، "شموئيل كهانا"، بمهمّة اختلاق تاريخٍ توراتيٍّ لـ "مشهد الطير". ولعب "كهانا" دوراً مركزياً، خلال 20 عاماً شغل فيها هذا المنصب، في ما أُطلق عليه مشروع "تطوير الأماكن المقدّسة اليهودية في فلسطين". وفي منطقة المزارع، اتّخذ الصهاينة من تاريخ العرب اليطوريين، الذين تهوّدوا وسكنوا المنطقة في قديم الزمان بحسب بعض الروايات التاريخية، سنداً تاريخياً مزعوماً لاستيطانهم، في حين فشلت محاولات عدّةٌ خلال الثمانينيات في زرع مستوطناتٍ لهم فيها.
وعلى إثر هذا الفشل في التواجد "المدنّي" الاستيطانيّ في منطقة المزارع، تعاظمت أهمّية خلق إرثٍ يهوديّ في مقام أبينا إبراهيم، بتلفيق سندٍ من نصوص التوراة لهذا المقام؛ يخلق تقليداً دوريّاً لزيارته كتعويضٍ عن فشل التواجد الاستيطانيّ الدائم. وبدأ "المدريخ"[13] بالكلام:
إنّ ما يُسمّيه الأغيار بمشهد الطير أو مقام النبيّ إبراهيم، ما هو إلا الموقع التوراتيّ لـ "عهد القطع" أو لـ "العهد بين الأجزاء" (ברית בין הבתרים)، هنا وعد الربُّ النبيَّ إبراهيم بالأرض المقدّسة: "في ذلك اليوم بتّ الربُّ مع إبراهيم عهداً قائلاً لنَسْلِكَ أُعْطِي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات". (سفر التكوين 15 :18)
وأردف "المدريخ" بأنّ المقام الإسلاميّ هو في الأصل مقامٌ يهوديّ قديم مذكورٌ في كتب الزيارة للمقامات والأضرحة المقدّسة اليهودية، وأنّ زيارة هذا المقام كانت ممارسةً مُتّبعةً عند يهود صفد منذ العصور الوسطى.
بعد هذه الديباجة الوثوقية، لم يجِد "المدريخ" دليلاً على "مطابقة النصّ المقدّس" مع الجغرافيا الحالية سوى قصّة ذلك العجوز اللبنانيّ الراكب على حماره حاملاً معه دجاجاتٍ في الخِرج، والذي اعتقله الجنود الصهاينة في عام 1969 بعد احتلال المزارع واقتادوه إلى قائد الكتيبة 890 العاملة في منطقة جبل حرمون، كما يوردها "ماتان فلنائي" صاحب كتاب "وعرفتُ بلادي" الصادر مؤخّراً!
سأل الجنرال: ما الذي تفعله في هذه المنطقة المحظورة؟
قال العجوز: جئتُ من شبعا لأقدّم نذراً عند مقام أبينا الخليل إبراهيم.
فما أن سمع "فلنائي" كلمة (إبراهيم) حتّى هبّ واقفاً وطلب من العجوز أن يدلّه على المكان، وهكذا صار المقام موقع أسطورة "بين هبتريم".
وأمّا الذي جعل قائد الكتيبة يطير فرحاً بالصيد الثمين فهو طلب أبيه "زئيف فلنائي"، أحد أهمّ رموز ما يُسمّى بــ "معرفة أرض إسرائيل"، البحث عن موقع عهد إبراهيم في جبل حرمون، والذي تذكره كتب الزيارة ليهود صفد.
بعد سرده لهذه القصّة، جال "المدريخ" بنظره صوْب جبل الروس وقال: ما يدعم القول بالأصول اليهودية للمقام الإسلاميّ هو الموقع الذي بُنِي عليه المقام على كتف جبل الروس (هار دوف הר דב عند الصهاينة)،[14] وليس على قمّة الجبل ذاتها، وهذا ما يتوافق مع تقليد بناء المقامات اليهودية والتي لم تكن تُبنى على القمم كما هو حال المقامات الإسلامية إنّما على أكتاف الجبال!
وبعد التلفيقة المنمّقة الأخيرة على لسان "المدريخ"، ضحكتُ وقلتُ في سرّي: تخيّر أيها اللعين بين وصفٍ كاذبٍ أو جاهلٍ …
(المقام من الجهة الغربية، خالد عودة الله، نيسان 2019)
من مراجعةٍ لأدبيات الزيارة اليهودية للأضرحة والمقامات، والتي تُورِد مشهد الطير موقعاً لميثاق الأطراف التوراتي، فإنّه من المؤكد أنّ كاتبي هذه الأدبيات لم يزوروا المقام مُطلقاً ولم يعرفوا موقعه، وإنّما قاموا بعملية نقلٍ مُنظّمةٍ من الأدبيات والمُمارسات الشعبية لأهل البلاد لاختلاق تاريخٍ يهوديٍّ لها، مُعتمدين في هذه الحالة على تأويل اسم المقام "مشهد الطير" ومقاربته بالنصّ التوراتي الذي يأتي على ذكر الطير:
قال له: "خُذ لي عجلةً ثلاثيةً، وعنزةً ثلاثيةً، وكبشاً ثلاثياً، ويمامةً وحمامةً، فأخذ هذه كلّها وشقّها من الوسط، وجعل شِقّ كلّ واحدٍ مقابل صاحبه. وأمّا الطير فلم يشقّه… فقال لأبرام: إعلم يقيناً أنّ نسلك سيكون غريباً في أرضٍ ليست لهم، ويستعبدون لهم، فيذلّونهم أربعمائةٍ سنةٍ، ثمّ الأمة التي يستعبدون لها أنا أدينها، وبعد ذلك يخرجون بأملاكٍ جزيلةٍ، وأمّا أنت فتمضي إلى آبائك بسلامٍ وتُدفَن بشيبةٍ صالحةٍ، وفي الجيل الرابع يرجعون إلى ههُنا، في ذلك اليوم قطع الربّ مع أبرام ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات. (سفر التكوين، الإصحاح 15). [15]
وبحسب الأسطورة التي يتداولها مستوطنو الجولان، فإنّ جبل الشيخ صار لونه أبيضاً حزناً بعد أن سمع قضاء الربّ على نسل إبراهيم من اسحق بالغربة والعبودية لمدة 400 عامٍ.
وممّا يجدُرُ ذكره هنا أنّ المستوطنين الصهاينة كانوا يعتبرون مقام السلطان إبراهيم بن أدهم في بانياس موقعَ "العهد بين الأجزاء"، إلى أن جاء ذلك الشبعاويّ على حماره للنذر عند مقام مشهد الطير، بعدها قالوا إنّ مقام إبراهيم بن أدهم ما هو إلا ضريح "شفوئيل بن غرشوم"، نقيب خزائن الملك داوود كما يختلقون، ولا زالوا إلى يومنا هذا يداومون على اقتحام المقام وتأدية طقوسٍ تلموديةٍ فيه. يقفُ لهم بالمرصاد القائم على المقام "علم الدين بشارة" من عين قنية، والذي حدّثني بأنّ مقام إبراهيم بن أدهم أمانةٌ حمّلها أهلُ بانياس أهلَ عين قنية بعد التهجير إلى حين عودتهم.
(أطلال مزرعة رمتا، خالد عودة الله، نيسان 2019)
عودةٌ إلى صباح ذلك اليوم الربيعيّ
سافرتُ بسيارتي من القدس بعد صلاة الفجر، تتخطّفُني مشاعرُ متناقضةٌ، شوقٌ إلى المقام وجزعٌ من الطريق إليه، بدأت رحلة الصعود عند مزرعة مُغُر الشباعنة، صعدتُ إلى الحافلة، ظاهري يشعّ بالسكينة وباطني يَقدُر بالاضطراب، جلستُ في المقعد الخلفيّ ووضعتُ حقيبتي بجانبي لئلا يشاركني المقعد أحدٌ، والسمّاعات في أذنيّ لكي لا أسمع الصخب التلموديّ من حولي.
جدّي إبراهيم الخليل: ها أنا صاعدٌ إليك، لألُمّ أشتات أشواقي كما طيورك الأربعة عند مقامك، أطلال بيوت وكروم مزرعة زبدين بعثت في روحي الوَنَس، لم تعُد مزارع شبعا بالنسبة لي اسماً وقضيةً وإنّما صارت تجربةً روحيّةً شخصيّةً، وصار لي فيها ذكرياتٌ تتواشج مع ذكريات أهلها المهجّرين منها. عند مزرعة رمتا وقفتْ الحافلة وبدأت الرحلة سيراً على الأقدام، كنتُ آخر السائرين في القافلة أتحجّجُ بالتصوير لأتخلّف عنها. ألمسُ جذوع الشجر وأشمّ التراب المقدّس، أبحثُ عمّا سأحمله معي إلى بيتي تذكاراً. وجدتُ إزميلاً حديدياً صدئاً، قلتُ هذا من رائحة الأحباب وخبّأته في حقيبتي وأنا أتلفّتُ حولي. شيئاً فشيئاً صار الدرب لا تصلُه الشمس بين ظلال أشجار السنديان الملتفّة، وما هي إلا لحظاتٌ حتى انبثق المقام أمامي فارتعشتُ:
"تتجاذبُ الأشواق وجْد نفوسنا بين خافٍ في الضلوع وباد"
(إشاراتٌ إلهيّةٌ في الطريق إلى المقام)
جلستُ تحت شجرة سنديانٍ أتأمّل المقام وبركة الماء أمامه، وفي الأفُق ثلج حرمون يكحّل المشهد ببياضٍ سماويٍّ، نَطرتُ فراغ الغزاة من طقسهم النشاز ليُكمِلوا مسيرهم نحو الأشجار المعمّرة لأختلي بالمقام، دخلتُ المقام خاشعاً أتلو آياتٍ من القرآن فيرجع إليّ الصدى بأصوات الزُّهّاد وأصحاب الحاجات المخبوءة في المقام.
أتلو وأسمعُ حتى رأيت…
فسلامٌ على إبراهيم،
وسلامٌ على الشهداء من ذرّيته إلى يوم الدين.
المصدر: باب الواد