غريبٌ حقاً أن يتحدث المسؤولون في هذا البلد عن حرية سقفها السماء والانعتاق من احتلال استعماري طويل الأمد وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وسجلهم في حقوق الإنسان رديء، إنه انفصام تام عن الواقع الذي نعيشه، ومن الصعب أن يُصدق الناس شعارات، لا رصيد لها على الأرض، سوى المزيد من انتهاك الحقوق والكرامة الإنسانية.
كيف يمكن لأحد أن يُصدق الرواية الفلسطينية عن الحق في تقرير المصير وهناك أجيال فلسطينية شابة لا تعرف صندوق الاقتراع ولم تمارس حقها في اختيار ممثليها منذ الولادة؟ يتحدثون عن تمثيل "شرعي" و "وحيد" للشعب الفلسطيني ويفرضون أنفسهم رغم إرادة الناس، ولا يكترثون بإرادتهم وحالهم البائس ومصيرهم المجهول، ولا أدري كيف يكون التمثيل شرعياً ووحيداً بذات الوقت؟ وما هو مصدر تلك الشرعية؟ وهل هناك دور للشعب في هذا التمثيل؟ وما قيمة تلك "الشرعية" بعيداً عن إرادة الناس؟ وهل تقوم الشرعية على ظلم البشر والاستخفاف بعقولهم وصمّ الآذان؟
غريبٌ أمرُ تلك الشرعية، التي تقوم على أنقاض تشريعات منظمة التحرير الفلسطينية، وأنقاض تشريعات السلطة الفلسطينية، على نعش القانون الأساسي وسيادة القانون والمبادىء والقيم الدستورية، وبغياب السلطات العامة والتفرد غير المسبوق بالسلطة، وعلى مثلث الضباب (الدولة، المنظمة، السلطة) وأن تفعل كل ما يحلو لها دون رقيب أو حسيب.
غريبٌ أمرُ شرعية، قائمة على تحالف بين السلطة ورأس المال، وعلى السيطرة على مقدرات البلد والتحكم بأرزاق ومصير العباد، شرعية لا تنتهي، بدأت منذ أجيال، وتجاوزت الأجيال الشابة، وباقية، تنتهك الكرامة الإنسانية، وتصنف الناس إلى أسياد وعبيد، نبلاء وحقراء، باقية بقاء الخوف في عقول ووجدان وأفئدة الناس، ولا تعيش إلا في المستنقع الرديء.
يتحدثون عن الحرية، التي تحمل معاني التحرر من الخوف والفقر والجوع، وينتهكون الكرامة الإنسانية على الأرض واقعاً ملموساً، يتحدثون عن الحق في تقرير المصير وهو حقٌ جماعي للمجتمع بأسره وأسمى حق وقاعدة عرفتها منظومة حقوق الإنسان كي تقرر الشعوب مصيرها ومستقبلها ونظامها السياسي، ولا يرون الناس ولا يشعرون بألمهم وبؤسهم ومعاناتهم اليومية، يتجاهلون احتلالاً استعمارياً جاثماً على الأرض وعلى صدور البشر وما زال، ولا يقيمون وزناً لتوق الناس للحق والعدل والحرية والكرامة، ويستكثرون على الناس وسلطتهم الرابعة التعبير عن ألمهم ومعاناتهم ويكتمون أنفاس الكلمات.
يقررون وحدهم، أن انتقاد أدائهم وانتهاكهم للحقوق يشكل تهديداً للأمن القومي والنظام العام، في ظل غياب الشفافية وحق الناس (مصدر السلطات) في الحصول على المعلومات، ينضمون لاتفاقيات لحقوق الإنسان، وتبقى حبراً على ورق في التشريع والممارسة العملية، يتجاهلون أن الانتقادات القوية والصادمة والصارخة والجارحة وبخاصة لأدائهم كسلطة سياسية عامة وأجهزة إنفاذ قانون تقع في دائرة حرية التعبير عن الرأي والحريات الإعلامية المكفولة في قانوننا الأساسي والمعايير الدولية لتصويب الأداء، ينضمون لاتفاقيات بدون تحفظات، وينتهكون الكرامة بدون تحفظات، بدون رقابة ومحاسبة وإنصاف للضحايا، ويطلقون شعارات الحرية والعدالة وتقرير المصير في مشهد سريالي بكل ما تعنيه الكلمة.
السلطة التنفيذية، وأعوانها، قالوا في حرية الرأي والإعلام والحقوق الرقمية ما لم يقله مالكٌ في الخمر؛ ووصلت مؤخراً حد النصح والإرشاد للقضاء الذي يُفترض أنه الأمين على حماية الحقوق والحريات الدستورية وفي مقدمتها حرية الرأي التي تعد مرآة الحقوق والحريات والتعبير الحقيقي عن المشاركة في صنع القرار لارتباطها بمنظومة حقوق الإنسان ارتباطاً لا يقبل التجزئة، لكنها لم تقدم "تشريعاً واحداً" منذ قدوم السلطة الفلسطينية ولغاية الآن من شأنه أن يعزز أو أن يدعم حرية التعبير عن الرأي والحريات الإعلامية في فلسطين، والمنظومة التشريعية الفلسطينية بأكملها هي الحَكَمُ الفيصل بيننا وبين مَن يقول بخلاف ذلك في هذا المجال وغيره، فقُل هاتوا برهانكم إنْ كنتم صادقين تشريعاً وممارسة.
قانون المطبوعات والنشر لعام 1995، من أوائل التشريعات التي أُقرت منذ قدوم السلطة الفلسطينية، وبإجراءات خاصة قبل انتخاب المجلس التشريعي الأول، وهو ينطوي على العديد من النصوص والمصطلحات والعقوبات الفضفاضة التي تنتهك حرية الرأي والإعلام، انتهاكاً صارخاً، وقد مضى على إقراره ربع قرن ولم يجر تعديل أيّ حرف فيه لغاية الآن.
قانون العقوبات لعام 1960، ينطوي على العديد من النصوص العقابية والمصطلحات الفضفاضة التي تتعلق بجرائم النشر (الذم، القدح، التحقير، إطالة اللسان، إثارة النعرات ....) وهي تنتهك الاتفاقيات والمعايير الدولية التي تحمي وتصون الحق في حرية التعبير والحريات الإعلامية والحقوق الرقمية، وهي مُدرجة أيضاً في مشروع قانون العقوبات الذي يجري التغني به سنوياً وهو مجرد مشروع، ولم يتم تعديل أي حرف في أي نص عقابي من تلك النصوص التي تشكل سيفاً مسلطاً على المدافعين/ات عن حقوق الإنسان والصحفيين/ات ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، رغم أن الحبس على قضايا النشر محظور في المعايير الدولية حيث يتم اللجوء في تلك الأحوال إلى التعويض المدني إنْ كان له مقتضى.
مشروع قانون الحق في الحصول على المعلومات، ما زال مشروعاً منذ العام 2005 وهي الصيغة التي أعدها المجلس التشريعي الأول، منذ ما يزيد على (14) عاماً وما زال مشروعاً لغاية الآن، رغم كل الوعود الرسمية العلنية التي ذهبت أدراج الرياح، وقد جرت عليه تعديلات في غرف مغلقة وبخاصة في مجال "الاستثناءات" على حرية المعلومات أفرغت المشروع تماماً من مضمونه خلافاً للاتفاقيات والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وبات إقراره بصيغته الحالية لا يعني شيئاً، مجرد ذر للرماد في العيون، ومع ذلك لم يجر إقراره، وفي المقابل جرى إقرار ونشر قرار بقانون الجرائم الإلكترونية في الضفة وتعديل قانون العقوبات في غزة وإدراج ما يُسمى "إساءة استخدام التكنولوجيا" للنيل من حرية الرأي والكلمة.
مشروع قانون المجلس الأعلى للإعلام، أعده مجلس الوزراء في العام 2011 وأقره المجلس منتصف كانون الأول 2015 وصادق عليه الرئيس أواخر كانون الأول 2015، ومن ثم جرى تجميده بعد اعتراضات واسعة من قبل المجتمع المدني، لانتهاكه القانون الأساسي والاتفاقيات والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، ومن بين أمور أخرى، لأنه يمنح السلطة التنفيذية سيطرة كبيرة على مجلس إدارة المجلس الأعلى للإعلام والإدارة التنفيذية للمجلس (الأمانة العامة) ويستخدم "مصطلحات فضفاضة" تؤمّن للمجلس سيطرة واسعة على وسائل الإعلام، ويعمل بنظام التراخيص وسحب التراخيص تحت عنوان "السلامة الأمنية" للسيطرة على وسائل الإعلام وما زال هذا الشرط الذي يمنح الأجهزة الأمنية سلطة البت في منح أو حجب التراخيص لوسائل الإعلام سارياً على أرض الواقع رغم عدم دستوريته وقيام الحكومة بإلغائه في جلستها بتاريخ 24/4/2012، ويحاول عبثاً إسقاط الحماية الدستورية عن وسائل الإعلام المنصوص عليها في المادة (27) من القانون الأساسي التي تحظر على السلطة التنفيذية الرقابة على وسائل الإعلام ولا تُجيز إنذارها أو وقفها أو فرض قيود عليها إلا وفقاً للقانون "و" بحكم قضائي من خلال استبدال الحرف "و" بالحرف "أو" الوارد في النص للهروب من الحكم القضائي الفاصل في الدعوى؛ كون النص الدستوري يشترط وجود نص قانوني وحكم قضائي معاً كحماية دستورية.
مشروع تنظيم الإعلام المرئي والمسموع، أعده مجلس الوزراء في العام 2011، وما زال على حاله، وينتهك القانون الأساسي والاتفاقيات والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وينص صراحة على وجوب حصول وسائل الإعلام على التراخيص من وزارة الداخلية واستيفاء شرط حسن السلوك أو السلامة الأمنية كما ورد في المشروع، خلافاً للقانون الأساسي والمعايير الدولية وقرار مجلس الوزراء بإلغاء العمل بشرط السلامة الأمنية، وتجديد التراخيص خلال مدد زمنية بذات الطريقة لتأمين السيطرة الدائمة على وسائل الإعلام، ويمنح المجلس الإعلى للإعلام الذي تسيطر عليه السلطة التنفيذية كما يتضح من نصوص المشروع صلاحيات واسعة للرقابة على البث وإيقاف البث خلافاً للقانون الأساسي والمعايير الدولية.
نظام ترخيص المحطات الإذاعية والتلفزيونية الأرضية والفضائية واللاسلكية وشركات خدمات البث الفضائي ومكاتب المحطات الفضائية والإنتاج الإعلامي الصادر عن مجلس الوزراء عام 2018، أسوأ من النظام السيء الصادر عن مجلس الوزراء عام 2004 بهذا الخصوص، وتمّ إقرار تلك التشريعات كالعادة دون نقاش مجتمعي وفي ظل غياب البرلمان، وهذا النظام كسابقه غير دستوري قولاً واحداً، لأنه لا يجوز أن يصدر نظام ابتداءً ويخلق قواعد قانونية جديدة دون وجود قانون، وإلا تحولت الحكومة إلى مشرّع، فالنظام، كتشريع فرعي، إنما يأتي لتوضيح القانون الصادر عن سلطة التشريع.
ولم يكتفِ نظام 2018 الصادر عن الحكومة؛ بسيطرة وزارة الداخلية وشرط السلامة الأمنية في هذا المجال، على غرار سابقه، وإنما اشترط أيضاً موافقات إضافية من مجلس الوزراء على غرار النهج الذي اتبعته الحكومة في التعامل مع تسجيل الشركات غير الربحية 2015، ووضَعَ تعقيدات إضافية في مجال استخدام وتغيير الترددات وبدون ضوابط، ولا تخلو عبارة "الموافقات والشروط اللازمة" من نصوصه وأحكامه، بل ومَنَح اللجنة الثلاثية (وزارة الاتصالات، وزارة الإعلام، وزارة الداخلية) سلطة وقف البث حال مخالفة أيّ حكم من أحكام النظام (25 مادة) خلافاً للقانون الأساسي والاتفاقيات والمعايير الدولية التي تكفل وتصون حرية الرأي والإعلام بعيداً عن تدخلات السلطة التنفيذية وأجهزتها.
ما زال هناك غياب لقانون عصري لنقابة الصحفيين الفلسطينيين رغم أهميته في تعزيز دور النقابة في حماية حرية الرأي والإعلام والحقوق الرقمية وحماية حقوق الصحفيين/ات والدفاع عنهم، وقانون نقابة الصحفيين رقم (17) لسنة 1952 مخالفٌ للقانون الأساسي الفلسطيني والمعايير الدولية ولا يساهم في حماية حرية الصحافة وحقوق الصحفيين.
وإذا كانت الحكومة قد قدمت النصائح للقضاء بشأن حرية الرأي والإعلام والحقوق الرقمية، فمن الجيد أن تراجع تشريعاتها التي تنتهك القانون الأساسي المعدل والمعايير الدولية على هذا الصعيد، ولا شيء يمنعها من تجهيز منظومة متكاملة تحمي وتصون حرية التعبير عن الرأي والحريات الإعلامية والحقوق الرقمية، في بضع أيام، وأن تقوم بإقرارها إن كانت جادة في هذا المجال، بما يشمل قرار بقانون الجرائم الإلكترونية، وبذلك ينتهي الأمر دون حاجة للمماطلة من خلال القضاء النظامي والقضاء الدستوري، لأن المسألة تتعلق بالإرادة السياسية وإرادة الإصلاح أولاً وأخيراً، أليس كذلك؟
رسائل حجب المواقع، واضحة، ليس من حق الناس ووسائل الإعلام الحصول على المعلومات من المؤسسات والأجهزة الرسمية وفق منهجية واضحة وشفافة وقانون عصري يُتيح للجميع هذا الحق وبآليات واضحة وشفافة، ولكن في المقابل هنالك قرار بقانون للجرائم الإلكترونية يطغى على حرية الرأي والإعلام لمن يريد نشر معلومات حصل عليها ولا تروق للنظام السياسي وأجهزته، ويتم حشو التشريعات "بالمصطلحات الفضفاضة" التي تشكل بذاتها انتهاكاً للمعايير الدولية وبذلك تتحول التشريعات إلى بيئة خصبة لانتهاك الحقوق والكرامة وتفقد خصائصها وتتحول لأداة للنيل من الكلمة.
جرى جحب ما يُقارب (30) موقعاً إلكترونياً في حزيران 2017، ولاقت اعتراضاً حقوقياً وإعلامياً واسعاً، تدخل المقرر الخاص في الأمم المتحدة المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير وهو خبير مستقل على مستوى العالم في هذا المجال؛ وأرسل مذكرة تفصيلية بشأن الانتهاكات المتعلقة بقرار بقانون الجرائم الإلكترونية وحجب مواقع الكترونية واعتقالات طالت الصحفيين، وردّت الحكومة، من بين أمور أخرى، بتعهد السيد الرئيس ورئيس الوزراء بتعديل هذا القرار بقانون بما ينسجم بالكامل مع الاتفاقيات والمعايير الدولية وتعزيز حرية الرأي والإعلام والحقوق الرقمية في فلسطين، ولم يتغير شيء منذ ذلك الحين باستثناء بعض الخطابات والنصح والإرشاد من الحكومة للقضاء الفلسطيني.
وفي المقابل، جرى حجب (59) موقعاً إلكترونياً بناء عن محاضر الأجهزة الأمنية وطلب النيابة العامة وقرار قاضي الصلح تدقيقاً في تشرين الأول 2019، في انتهاك صارخ للقانون الأساسي والاتفاقيات والمعايير الدولية ذات الصلة وضمانات المحاكمة العادلة، وفي ظل استمرار التصدع الحاصل في النظام السياسي الفلسطيني وحديث طفى على السطح مؤخراً بشأن إجراء الانتخابات العامة، في رسالة واضحة لمن يعنيهم الأمر، أن هناك مَن يقرر منح الحقوق وحجبها في أيّ وقت، وأن منظومة الحقوق هي "مِنّة" يمنحها النظام وأجهزته للناس والإعلام ويحجبها بأيّ وقت وليست حقاً أصيلاً مُلازماً لهم.
الفيل ما زال في الغرفة، والقضاء النظامي قذف الكرة باتجاه القضاء الدستوري (المحكمة الدستورية) رغم انتهاك قرار الحجب للقانون الأساسي والاتفاقيات والمعايير الدولية لحقوق الإنسان وضمانات المحاكمة العادلة حتى في ظل وجود المادة (39) من قرار بقانون الجرائم الإلكترونية التي جرى الاستناد إليها في عملية حجب المواقع التي جرت بالجملة، في محاولة لإبقاء الفيل لأكبر قدر ممكن في الغرفة حتى تصل الرسالة بمنتهى الوضوح والفعالية، ولأن هناك مَن يقرر أولاً وأخيراً متى يدخل الفيل ومتى يخرج من الغرفة، وبذلك ينصرف الذهن عن السؤال المهم لماذا دخل الفيل إلى الغرفة ليصبح كيف سيخرج؟ ولا يصبح مهماً عند "الخبراء والمحللين" إن خرج بأداة وطريقة غير دستورية، وبذلك يصبح دخول وخروج الفيل من الغرفة بطريقة غير دستورية والمسؤوليات مجرد تفصيل عابر؛ وما يهم فقط أن لا نراه داخل الغرفة!
الطريف في الأمر، أن هناك نصوص أخرى في قرار بقانون الجرائم الإلكترونية يمكن من خلالها حجب وإغلاق مواقع إلكترونية غير المادة (39) من القرار بقانون، وبالتالي هناك عدد من الفيلة جاهزة للدخول للغرفة في أي وقت بعد انتهاء الاحتفالات بخروج الفيل الذي لا زال بداخلها، علاوة على العديد من الانتهاكات الأخرى (غير الحجب) الواردة في القرار بقانون المخالفة للقانون الأساسي والاتفاقيات والمعايير الدولية المتعلقة بحرية التعبير عن الرأي والإعلام والحقوق الرقمية، ومفاهيم الأمن القومي والنظام العام وكيفية التعامل معها بالاستناد لمعايير موضوعية في الاتفاقيات والمعايير الدولية، لا تخضع لأهواء أحد، وإنما لفحص صارم ثلاثي الأجزاء لبيان مدى انتهاكها أو عدم انتهاكها للمعايير الدولية.
مشهد سريالي، أن تتحول المحكمة الدستورية العليا التي لطالما لاقت اعتراضات واسعة طالت تشكيلها وأدائها المخالف للقانون الأساسي والمبادىء والقيم الدستورية والمعايير الدولية إلى ملاذ لحماية الحقوق والحريات الدستورية، المحكمة الدستورية التي فرضت وصاية على القضاء النظامي منذ أول قرار تفسيري صدر عنها وخاطبت فيه المحكمة العليا بلغة غير مألوفة، المحكمة الدستورية التي حلت السلطة التشريعية بقرار تفسيري غير دستوري، ومنحت القضاء العسكري اختصاصاً واسعاً على المدنيين خلافاً للقانون الأساسي والقانون، ورفعت حصانات دستورية على نحو غير دستوري، وتعاملت مع القرارين بقانون اللذين صدراً مؤخراً بتعديل قانون السلطة القضائية وتشكيل مجلس قضاء أعلى انتقالي على نحو انتقائي بعيد عن إرادة المشرّع الدستوري رغم انتهاكهما للقانون الأساسي وقانون السلطة القضائية وقرارات سابقة للمحكمة العليا بصفتها الدستورية ومحكمة العدل العليا والمعايير الدولية، ومن المتوقع أن تلعب المحكمة الدستورية دوراً بارزاً في المرحلة القادمة وبخاصة في الاستحقاقات الكبرى بذات النهج الذي صبغ أداء هذه المحكمة.
واللافت في الأمر، أن التصريحات التي صدرت في السابق عن رئيس المحكمة الدستورية العليا رداً على الانتقادات التي وجهت لأداء المحكمة في محطات عديدة، ومن بعدها التصريحات التي صدرت عن رئيس مجلس القضاء الأعلى الانتقالي سواءً بشأن حق القضاة في التعبير عن آرائهم على مواقع التواصل الاجتماعي أو بشأن المحامين ومهنة المحاماة، لا توحي بوجود حماسة لدى رأس هرم الإدارة القضائية ورأس هرم الإدارة الدستورية في مجال حماية والدفاع عن حرية التعبير.
وبالعودة مجدداً إلى الفيل، الذي لا زال مُتحصناً داخل الغرفة، فقد أطلنا عليه في كلمات هذا المقال، فإن كيفية دخوله ومدة بقائه وكيفية خروجه من الغرفة، مسائل بالغة الأهمية، في ميزان سيادة القانون، واحترام إرادة المشرّع الدستوري والمبادىء والقيم الدستورية، والمساءلة والمحاسبة على انتهاكات حقوق الإنسان والإنصاف، والرقابة المجتمعية ومرتكزات الحكم الصالح. وإلاَ فإن الفِيلة قادرة على دخول الغرفة في أي وقت تشاء مع حجمها الكبير وقوتها وأنيابها العاجية وآذانها الكبيرة وذاكرتها الحادة التي تستطيع من خلالها تمييز الرياح القادمة من مصدر مائي والعودة إليها في أيّ وقت.
الفيل، لم يظهر فجأة داخل الغرفة، وإنما دخل إليها (اقتحمها) وبقي فيها ولم يخرج منها لغاية الآن، والسؤال لماذا دخل وكيف وصل إلى الغرفة بهذا الحجم الكبير؟ وطبيعة الأضرار التي تسبب فيها وتأثيرها على المنزل بأكمله؟ والمسؤول عنها؟ وإلى متى سيبقى الفيل داخل الغرفة؟ وكيف سيخرج منها؟ ولا يعود مجدداً إليها؟ حقوق الإنسان لا تتجزأ، وهذه الأسئلة برسم الجميع، تماماً كحق تقرير المصير، حق للجميع ومسؤولية الجميع، وإلاّ فقد هذا الحق الأصيل المغزى من وجوده.
حق تقرير المصير، كلٌ لا يتجزأ، وحق الناس في اختيار ممثليهم بحرية في انتخابات عامة حرة ونزيهة والقبول بنتائجها والحفاظ على انتظامها، جزء لا يتجزأ من حق تقرير المصير في الاتفاقيات والمعايير الدولية لحقوق الإنسان. هناك فرق كبير بين ضرورة لا تحتمل التأخير، وتأبيد وضع شاذ، قائم على اقتحام تخوم السلطة التشريعية المنتخبة وغياب سيادة القانون وفصل السلطات والتفرد بالقرار، واستمرار هذا الحال يزيد التصدع في النظام السياسي؛ سيراً نحو المجهول.
هناك حاجة ماسة، كانت وما زالت، لتشكيل فريق قانوني محترف للدفاع عن حرية التعبير عن الرأي والحريات الإعلامية والحقوق الرقمية في فلسطين، وفريق مناصرة تكتيكي يقود حملات المناصرة لدعم ومساندة الفريق القانوني وبخاصة في مجال التقاضي الاستراتيجي (تقاضي الأثر) بالارتكاز للقانون الأساسي والاتفاقيات والمعايير الدولية، وعلى نحو منظم وممأسس، وضمن خطة مكتوبة واضحة المعالم والأهداف والأولويات وتخضع للتقييم المستمر وصولاً لتحقيق الأهداف.
يتوجب حصر التشريعات الفلسطينية المتعلقة بحرية الرأي والإعلام والحقوق الرقمية وضمان انسجامها بالكامل مع القانون الأساسي والاتفاقيات والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وهي مسألة ليست صعبة على نحو ما ذُكر. هناك ضرورة لمراجعة الخطط الدراسية لطلبة كليات الإعلام وتغذيتها بالأبعاد الحقوقية وعالم حقوق الإنسان لضمان جودة وفعالية الأداء، وهناك حاجة لقانون عصري لنقابة الصحفيين الفلسطينيين تعزيزاً لدور النقابة في حماية حرية الرأي والإعلام والحقوق الرقمية وحماية حقوق الصحفيين والدفاع عن مصالحهم والرسالة الإعلامية، والاهتمام بالتدريب النوعي وبناء القدرات للصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، وبناء تحالفات قوية وتشبيك وعمل جماعي منظم للدفاع عن حرية الرأي والصحافة والحقوق الرقمية، وإلا فإن دخول الفيلة للغرفة لن يتوقف وسنستمر بالدوران في حلقات مفرغة.