عن أيلول، أقسى الشهور:
مفارقة يستحضرها موعد انتخابات الكنيست الصهيونيّ، في 17\9\2019، الذي تدعونا مؤسسات الدولة الصهيونيّة إلى المشاركة فيه، بشكل فعّال، إلى تأدية جزء مهم من واجب "المواطنة" فيها، (كما لو كانت دولة عاديّة). ولا تبدو هذه المفارقة غريبة. إذ لم يخطر على بال أحد، لا في الهيئة التي حددت موعد الانتخابات، ولا على بال الأحزاب المشاركة فيه، أن تاريخ يوم التصويت يعدّ تاريخا مؤسسا في وعي الشعب الفلسطينيّ.
17 أيلول، يوما لمحاولات التصفية المتكررة للذاكرة:
في السابع عشر من أيلول عام 1970 ضرب النظام الأردني حصارًا على المدن والمخيمات (بما فيها العاصمة، عمان، ومدينة إربد) وشرع في تنفيذ قصف عشوائي استهدف المدنيين والمقاومين، وقد كان الهدف الأساس، من وراء الحصار والمجازر التي تلته واضحا: إغلاق الجبهة الأوسع المفتوحة على الكيان الصهيونيّ.
عُرفت هذه المجازر، في التاريخ الفلسطينيّ، باسم مجازر أيلول الأسود التي راح ضحيتها آلاف اللاجئين الفلسطينيّين، والتي أدّت إلى إجلاء المقاومة عن الحدود الأكثر قربًا واتّساعًا بين اللّاجئين ووطنهم الأمّ...
لم تكد تمر اثنتي عشرة سنة، إلى أن حل السّابع عشر من أيلول 1982 كان هذا التاريخ غداة اليوم الثّاني و الأبشع والأكثر دمويّة من أيام مجازر صبرا وشاتيلا الثلاثة، حيث نظّم الكيان الصهيونيّ وساند مجزرةً بشعةً بحق اللاجئين الفلسطينيّين العزّل في الحزام اللاجئ المحيط بالعاصمة بيروت التي احتلّها الجيش الإسرائيلي، بعد انسحاب مقاتلي الثورة الفلسطينيّة من لبنان.
في حيفا أيضًا، نرفع في هذه الذكرى، السابع عشر من أيلول، أسماء أبناء المدينة الثلاثة الذين قتلهم الاحتلال على حدود غزة (سويًا مع شابّين آخرين من أم الفحم وسخنين)، إذ أرداهم الجيش الإسرائيلي بوحشيّة على حدود غزة يوم السابع عشر من أيلول عام 1961. هؤلاء الشهداء الخمسة الذين كتب لهم محمود درويش قصيدة "يحكون في بلادنا".
من الطبيعي أن يتناسى القاتل، من الطّبيعي أن يطلق الرصاص ويحاول تناسي ضحاياه الذين قتلهم أو دفع أعوانه إلى ذبحهم في العواصم العربيّة. يقول التبرير البارد لدى الصهيونيّ الذي يرغب بالنسيان أنه ما من حاجة لمن هو ليس يهوديًّا، لأن يعيش في دولة اليهود، حيًّا أم ميتًا. ويتفاعل هذا الهدف ويمتّد، إلى منطق أن القتل نفسه لن يكون ناجعًا إلا إذا لاحقت القذائف من يعيش خارج دولة اليهود، في مخيّمات الشتات، وقد أبقى نار هذه الأرض حيّة في قلبه. النّار ينبغي أن تُخمد. سواء على حدود غزة، أم في أحزمة الفقر حول العواصم العربيّة. القتل، باختصار، يستهدف فلسطين، في الأرض وفي الذاكرة.
من الطّبيعي أن يتناسى القاتل
ولكن، كيف ننسى نحن، أهل وأبناء القتلى تواريخًا مغمّسة بالدم؟
وكيف يتوجّب علينا، نحن، أن نحيي ذكرى شهداء السّابع عشر من أيلول؟
مقاطعة الـ"لا إنتخاب" في "اللاديمقراطيّة"
المشهد شديد الغرائبيّة...
في "الجولة السّابقة" من مسرحيّة انتخابات الكنيست، في التّاسع من نيسان من هذا العام، كانت حركة المقاطعة في قمّتها وقد أثارت جنون شبكات التواصل وملأت الجدران، بالضبط تحت نوافذ إسرائيل، بالشعارات الجداريّة. في تلك الجولة (التي، بالمناسبة، نفّذت في ذكرى مجزرة دير ياسين هي الأخرى)، كانت أحزاب الكنيست العربيّة منقسمة، وقد تحوّلت إلى هدف لغضب الجماهير بسبب من سوء أدائها.
الغريب في هذه الجولة أنّ المشهد يبدو وكأنه قد انقلب رأسًا على عقب، وبدا وكأنّ حركة المقاطعة غارقة في سباتها العميق، مقابل مشهد عودة أحزاب الكنيست إلى "المشتركة"، في مثل هكذا ظروف من الممكن أن نتوقع أن تتحسن حظوظ وأداء المشتركة. لكن ما نراه الآن أن أحزاب الكنيست قد نكصت مجددا إلى حالة اليأس، والمذهل أنها باتت تصب الجزء الأهم من مواردها الدعائيّة لكي تحارب فكر المقاطعة في ظل ما يبدو غيابًا لحركة المقاطعة عن الأرض، من دون يتخلى الداعون للمشاركة، قيد أنملة، عن أساليب التخويف والتخوين.
الأمور تبدو وكأنها أكبر من مجرد منافسة بين تيارين على قلوب الجماهير، إذ أن وعي المقاطعة قد رسخ بين الناس. ولم يكن سبب الأمر أن المقاطعة هي رسالة سياسيّة قد تم تسويقها بذكاء، كما هو حال بعض الحملات السياسيّة المدفوعة، بل لإنها نتاج إدراك للواقع المؤلم الذي نعيشه جميعا.
منذ زمن، أردت أن أقترح على رفاقي السعي إلى تطوير فكر المقاطعة من مجرد حالة امتناع عن التصويت إلى عدم الاهتمام بالانتخابات الإسرائيليّة كليا، لأنه لا يوجد فرق فعلي، من حيث الجوهر والدمويّة، بين اليمين الصريح، وبين أحزاب "الوسط" و"اليسار"، في نطاق المؤسسة العنصريّة الاستعمارية.
ولكننا، إن كنّا نسعى إلى بناء المشروع البديل الذي يكفل انعتاقنا من هذه المنظومة الظالمة، فإننا لن نستطيع أن نتجاهل أضرار الانصهار في المشروع الصهيونيّ وفي مؤسساته. ولا بد من تشخيص اغتراب بعض القيادات الفلسطينيّة في الداخل، كما هو الحال في الأراضي المحتلة منذ 1967، للعثور على موضع لها في النظام الاستعماريّ، وهذا الموضع بالضّرورة يستوجب الوقوف عائقا أمام الذاكرة المغموسة بالدّم، أمام وحدة الشعب الفلسطينيّ وأمام إعادة صياغة رؤية تحرريّة شاملة.
الدليل الأفضل على ذلك نشهده في المعركة الانتخابيّة الحاليّة: حملة واسعة ممولة إسرائيليًا وأميركيًا تهدف إلى تشجيع العرب على ممارسة "حقّهم" في التصويت... و"لا يهمّ لمن".
بالفعل، ليس من مهما لصالح من يصوّت العرب، فالمعركة محسومة سلفا.
ما دمنا نتحدث عن الذّاكرة، دعونا نعود بالذاكرة إلى الخلف: لقد قام الكيان الصهيونيّ أساسا على طرد غالبيّة "أصحاب حق الاقتراع"، من أبناء وبنات هذه الأرض الفلسطينيّين من وطنهم، وقد استكملت المهمة، إما على يديه مباشرة، أو على يد أعوانه في العواصم العربيّة، من خلال ملاحقتهم على مدار عقود طويلة (كما رأينا في صبرا وشاتيلا، أو في أيلول الأسود)
نضيف إلى التاريخ عامل الجغرافيا الديمغرافيّة: إذ أنّ غالبيّة السكان الفلسطينيّين الباقين على الأرض المحتلة (الضفة الغربيّة وغزة) ممنوعون من التصويت على من يتحكم في مصائرهم. هكذا، حُسمت المعركة الانتخابيّة الإسرائيليّة بقوة السلاح، لا بقوة الاقتراع، لصالح الجنرالات والمستوطنين (الموزّعين على الطيف السياسي الصهيونيّ، بيساره ويمينه)، وليس المطلوب الآن من الناخبين العرب سوى إسباغ شرعيّة ديمقراطيّة مزيفة على هذا الواقع المحسوم سلفا، من خلال المشاركة الصوريّة في التصويت.
أكاذيب دعاية المشاركة: لا 20% ولا مليون مصوّت ولا يسار صهيونيّ
أسباب ذاتيّة مختلفة تدفع الأحزاب العربيّة إلى المشاركة في الكنيست، من أهمّها مسألة التمويل الذي يُضمن للأحزاب المشاركة، وهذا التمويل قد بات المصدر الأساسي لضمان وجود هذه الأحزاب المادّي.
بعد الانتخابات، في باقي أيام السنة، تشارك هذه الأحزاب في النضالات الشعبيّة (بشكل أو بآخر، بطريقة ترضي أعضاء الأحزاب ولا ترضي الناس)، ضد هدم البيوت ومصادرة الأراضي والتمييز والعنصريّة والاحتلال والحرب.
تفرض علينا هذه الحالة السعي لتثبيت الوحدة الوطنيّة من أجل صد هجمات النظام وفي سبيل الدفاع عن حق المواطنين اليومي، بغض النظر عن الاختلاف في العقيدة والرؤية، ونحن نرى، في تيار المقاطعة، أنه علينا المحافظة على ألا يخلق الجدل حول انتخابات الكنيست حواجز تمنعنا من صيانة الوحدة الوطنيّة، التي تعدّ حجر الأساس في النضالات اليوميّة، من أجل التصدي لما يحيكه النظام الصهيونيّ، وحكوماته القادمة.
في الوقت ذاته، فإن علينا أن نحذر من منطق المشاركة الذي يبرر الخطأ بخطايا أكبر وأخطر منه.
صيغت دعاية المشاركة بالقول بأننا نمثّل 20% من المواطنين. الخلل الأساسي في مثل هذه المقولة يتمثل في أنها تقبل وتعزز بالتعريف المشوّه للمواطنة في نظام التمييز العنصريّ الصهيونيّ. إذ يمتد الحكم الصهيونيّ على الأرض الفلسطينية من نهرها إلى بحرها، ولكنه يمنع غالبيّة سكانها الأصليين من حق المواطنة، ويمنحه لكل من هو يهودي.
البعض، في التيارات المؤمنة بحل الدولتين، تدّعي أن هنالك تمييزا جغرافيا بين طرفي الخط الأخضر: ديمقراطيّة هنا، ينبغي السعي إلى توسعة هامشها، واحتلال هناك، ينبغي العمل على إنهائه، باستخدام مكائن الديمقراطيّة التي هنا. لكن هذا وهم: فالانتخابات الإسرائيليّة تدار من على طرفي الخط الأخضر، وهي تشمل مستوطني "كريات أربع" وأمثالهم، ولكنها لا تتسع لجيرانهم العرب. المحصلة النهائيّة؟ أغلبيّة فلسطينيّة تعيش تحت حكم الأبارتهايد الصهيونيّ ما بين النهر والبحر، ومثلهم من أصحاب الحق الأصليين الذين تم تهجيرهم بشكل منهجي من خلال الحروب والملاحقات والمجازر.
إذًا، عزز تعريف الـ 20% الانتماء إلى جماعة "مواطني دولة الأبارتهايد" (لا إلى "مواطني البلاد")، وقد جاءت مقولة الـ"مليون مصوّت" لكي تستكمل هذه الورشة. هذه المقولة التي أراد المروجين لفكرة المشاركة في الانتخابات أن يخلقوا من خلالها إحساسا بالاعتزاز خطيرة بخطورة القبول بتجزئة الشعب الفلسطينيّ. وقد يصح أن نسائل هؤلاء: أليست مقولة "أننا شعب يبلغ تعداده أكثر من عشرة ملايين حقوقه مسلوبة" أبلغ وأصدق تعبيرا؟
في حال قبلنا بانحسار أفق حراكنا السياسي في إطار الإدلاء بـ"مليون صوت" للكنيست، فعلينا ألا نلوم أنفسنا حينما تتجلى قمّة التأثير المنشود في دعم حكومة جنرالات حزب "كاحول لافان" والمجرم باراك الذين ينتقدون الحكومة الحاليّة يوميًا بسبب عدم هجومها على قطاع غزة المحاصَر!
أي تغيير ممكن؟ وما هي اشتراطاته؟
نتيجة الانتخابات معروفة – انتصار حزب صهيونيّ، بهذه التسمية أو تلك، وعلى رأسها جنرالات الحرب والمستوطنين. ولسنا بحاجة إلى تحليل ذكي لندرك ما الذي سيحدث تاليا ستبقى إسرائيل. ستمعن حكوماتها وجيشها في سياسات الاحتلال والحرب والتمييز والقهر والاضطهاد... آه، وملاحظة هامشيّة: لا تحبسوا أنفاسكم بانتظار فرز أصوات الجنود.
حين أقول إن علينا ألا نتوقّع شيئا من نتائج هذه الانتخابات، فالأمر لا يعني عدم الاهتمام بتفاصيل العمليّة السياسيّة داخل الكيان لكي نتعلم منها عن حالته. لا يخفي عن أحد أن هذا الكيان مريض وغير قادر على حسم المعارك الخارجيّة بالرغم من كارثيّة الوضع العربي والإقليمي. ما من أفق سياسي عند هذا الكيان يتجاوز المزيد من التقارب مع أنظمة الرجعيّة العربيّة التي تشاركه الخوف من شعوب المنطقة والاصطفاف في حماية الامبرياليّة الأميركيّة. كما أن الكيان، في الوقت ذاته، يغرق في تناقضاته الداخليّة وفساده، ويواجه فشلا في العثور، في داخله، على أي تيار يطرح البديل أو الأمل أو تغييرًا ما، نظام لا تسعى أحزابه إلا إلى المشاركة في اقتسام الكعكة المنهوبة.
هذا النظام الذي يعتمد على تفوقه العسكري بفضل الدعم الأميركي وعلى مكانته في صلب نظام الهيمنة الامبريالي، بالاعتماد على هذه الحقيقة ذاتها، متزعزع، وهو غير قادر على الاستمرار. نحن نشهد بأعيننا كيف تخسر أميركا مكانتها كقوة اقتصاديّة أولى لصالح الصين، وهي قد اعتادت مؤخرا على الخروج، من دون مكاسب ملحوظة، من حربين مكلفتين في العراق وأفغانستان وتعاني من أزمة اقتصاديّة وأخرى سياسيّة وأخلاقيّة...
وإنْ كان رجالات الأمس يلهثون خلف أمريكا وقياداتنا قصيرة النظر تنتظر (دون جدوى) إلى قبولهم كشركاء في نظام الأبارتهايد المحلي، فعلى الجيل الشاب أن يحلم وينتظر ويخطط لصناعة الغد على يد شعوب المنطقة ومن خارج نظام الهيمنة والظلم.