{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}. لقدْ حملَ آدمُ عليه السلام ما لمْ تطقْهُ السماواتُ والأرضُ والجبال إذْ أبتْ ألَّا تكونَ إلَّا مسخرةً بأمرِ الله، ودافعةً الخِيرةَ من أمرِها، وخاشعةً منْ أنْ تُجزى إنْ أحسنتْ، ومنْ أنْ تُعاقبَ إنْ ضيَّعتْ، فقبِلها آدم عليه السلام وقال: أي ربِّ حمَلْتُها بما فيها. ولكنَّ الحِمْلَ كانَ ثقيلًا ومتعبًا وشاقًّا، فكلُّ ما أودعه الله في البشر وما خلقهم عليه أمانة، فالفَرْجُ أمانة، والأذنُ أمانة، والعينُ أمانة، واللسانُ أمانة، والبطنُ أمانة، واليدُ أمانة، والرِّجْلُ أمانة، ولا إيمانَ لمِنْ لا أمانةَ له! وكذلك حال المشاعرِ والأحاسيس والتكاليف، ولكنْ غلَبَ على نوعِ الإنسانِ أنْ يكونَ ظلومًا جهولًا، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، فكان من الناسِ شقيٌّ بتلك الأمانة ولو فرحَ بدنياه، وسعيدٌ بها ولو نزل به كل ضروب البلاء، فالشقوة والسعادة لا تكون بمقاييس الدنيا أبدًا، بل بخواتيم الأعمال وبنيتها الخالصة لله.
كنتُ أقرأُ خبرَ إعلانِ إضراب الكرامة الثاني لتحضرني تلك الآية وتتشكَّل الصورةُ أمامي كما لو أنَّها رُسمتْ بيدٍ نحَّاتٍ فأبدعها، واسمُ منحوتتِه: الكرامةُ أمانة، حملها أسرانا البواسل وهم يعلمونَ ثقلها وكلفتها يعلمون أنَّ كل ما أودعه الله فيهم سيذوقُ مرارتَها، يعلمون حجمَ الألم، فليسوا أصلًا عنه بغرباء، ولا هي بمحدثات الأمور، فقد سقطَ منهم الشهيدُ تلو الشهيدِ مذْ بدأتْ حكايةُ الكرامة في سجن الرملة ومعتقل كفار يونا بتاريخ 1969/2/18 رفضًا لضروب الذلِّ التي أراد السجَّانُ أنْ يذيقهَم إيَّاها، رافضينَ ذلَّ النداء والاستجداء (حاضر سيدي) فلا سيَّدَ لهم استعلاءً وذلًّا فهم الأسيادُ في زمن العبيد والطواغيت، فكانَ شهيدُهم الأول عبد القادر أبو الفحم الذي استشهد بتاريخ 11/7/1970، خلال إضراب سجن عسقلان، لتستمرَّ قافلة الشهداء بالشهيدين راسم حلاوة وعلي الجعفري اللذين اسْتُشهدا بتاريخ 24/7/1980 خلال إضراب سجن نفحة، والشهيد محمود فريتخ الذي استشهد على أثر إضراب سجن جنيد عام 1984، والشهيد حسين نمر عبيدات والذي استشهد بتاريخ 14/10/1992 في إضراب سجن عسقلان.
"لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى!"
إنَّ حياةَ الذلِّ رخيصةٌ جدًّا، لأنَّ الأمانةَ فيها مُضيَّعة، ولو كساها الذهبُ والعاج، واحتضنتها القصورُ الفارهة والمباني الشاهقة والأموالُ الكثيرة، فإنَّها لا تعدلُ عندَ الله جناحَ بعوضة، وأولئك الذين اختاروا طريقَهم ليحفظوا عهدَ الأمانة في أعناقِهم عرفوا أنَّهم سيذوقون المُرَّ ويتجرَّعونَ علقمَه، أدركوا أنَّ الأمانة إنْ سمقتْ فهم مطاولوها، فسلكوا كلَّ السُّبلِ إليها رافضين الخنوع، ولو على حساب الجوعِ والزهدِ في حياتهم الدنيا، وما فعلوا ما فعلوا إلا ليجعلوا لتلك الحياةِ ثمنًا نفيسًا، ولو كانت أمعاؤهم خاوية تصرخُ أنْ أبيتُ الهوانَ واحتملتُ الألم ومهما علا صُراخي فإنني قدْ عرفتُ طريقي، وإليها أمضي ولا أرجو منجاةً إلا من الله، فلم يعدْ خفيًّا على أحدٍ ماذا يحدثُ للأسرى جسديًّا ونفسيًّا في رحلةٍ مجهولة المصير محددة الهدف، فاقتْ رحلة الصيام والقيام صعوبةً، وكأنَّها طلعةُ الجنود الأوفياء في غُرَّة المعارك يتقدمون الصفوف والجموع وصدورهم مُشرعةٌ في وجه الطعنات والتخاذلات والبيعِ والتنازل وتحول البوصلة، أبصارهم شاخصة يحكمون النظراتِ ويسددون سهامَها بدقة، ليصيبوا تلك القلوب الخربة ويقطعوا إمداد دمها الفاسد، فيطهروها أو يصيبوها بمقتل، وهم ينشدون: فإمَّا حياة تسرُّ الصديق وإما مماتٌ يغيظ العدا.
"هل يصير دمي -بين عينيك- ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ
تلبس -فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ
ولا تتوخَّ الهرب!"
"يا ظلام السجنِ خيِّمْ! إنَّنا نهوى الظلامَ"، وما أحبوه ولا عشقوه، ولكنهم ابتغوه ليقتلوه في حين اختاره من اختاره من القومِ ليعبدوه ويقدسوه، فهل يستوي الأعمى والبصير، أم هل تستوي الظلمات والنور، أم هل يستوي الأحياء والأموات؟! وهل يستوي منْ باعَ آخرةً بدنيا غيره، بهوى نفسٍ ومتاعٍ زائل، بمن قاتلَ وثبتَ وأخلصَ لله ولدينه ولقضيتِه؟! وهل يستوي من اعترفَ بعجزه وذلِّه وبات ضعيفًا تتلقفه الشياطين ووساوسه ومخاوفه في الأرضِ حيرانًا، ومن عرفَ طريقَه فاهتزَّتْ حنجرتُه تعلنُ صرخة الكرامة وكسرَ القيدِ ولو كانَ مكبَّلًا؟! إنَّ الأسرى المضربين لا يضربون جذور رفعتهم وعزتهم في أرضِ فلسطين فحسب، بل إنَّهم يقضون مضجع الضمير المغيب، النائم عن حقه، والمؤتمن على عِرضه وشرفه المُضيِّع لهما، يرسلون رسالة لعجزنا لذلنا لهواننا لدنيا استحلتنا وأغوتنا، لمن اختاروا أنْ يرضخوا لذلِّ المال والجاه والسلطان، همْ لا يأسفون على الإزعاج، وأسباب الأعذارِ لدينا قبضوها بأيديهم وعصروها لتفنى، لتتضح الصورةُ جليًّةً: ولا بُدَّ لليلِ أنْ ينجلي، ولا بُدَّ للقيدِ أنْ ينكسر!
"سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم..
جئناك. كن -يا أمير- الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم.
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك"
إنَّه نداءُ الأحرار، ونهضةُ الثوار، وانتفاضة البواسل، إنَّها الرسالةُ الصريحة إلى منْ نسيَ أو تناسى، إنَّها معركةُ التموضع في ساحة حربٍ مكشوفة، إنَّها صرخةُ ما تبقى في هذه الأمَّة منْ شرف، إنَّه المتمرِّدُ الذي يجهض كل جهدٍ لاغتصاب القضية، إنَّها عقاقير العقمِ لتكون فلسطين عاقرةً أمام محاولات تغيير هويتها، أمام اجتثاثها من جذع الأرض العربية الإسلامية، إنها اليدُ القابضةُ على الجمر تكتوي لتصير قبضة من لهب في وجه من اغتصب أو اقتضب أو عن القضية قد رغب، إنها الفاضحة الكاشفة، حيث المعادنُ الحقيقيةُ لا تصدأ ولا يكلُّ لها عزمٌ، حيثُ الشجاعةُ والإقدام، فلا يرهقنا البعضُ بفتاوي التثبيط وبأهوائهم المفضوحة، فالأمرُ قدْ رُفِعَ والحساباتُ قدْ جردتْ والصحائفُ قدْ خُتمتْ، والركبُ إلى الحريةِ مرتحل، فمنْ شاء ركب مع القوم، ومنْ شاءَ قعد، ولكن لا محالة أنَّ يوم الحسابِ قادم، والأسرى سيقفون في محكمة عادلة ليقضوا بالحق، بين من نصرَ ومنْ خذَل، ولن ترحمَ الوقائعُ أحدًا، ولنْ يُقبلَ التزويرُ وأنصافُ الحقائق، ولو كانت غَرفةً اغترفها بيده، فإنها النفوس المجرَّدة، والجباهُ التي لم يطبع عليها للذلِّ علامة، خلتْ منْ كل شيءٍ إلا الكرامة، ولله أعلنتها مدويَّةً: الأرضُ لنا والقدسُ لنا والله بقوته معنا وإنَّا ماضون حتى التحرير!
"لا تصالح!
ولو حرمتك الرقاد
صرخاتُ الندامة
لا تصالح!
فليس سوى أن تريد!
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد
وسواك المسوخ!
لا تصالحْ!
لا تصالحْ!"