خلال الأيام السابقة طفت قضية الخلاف بين د. سليم حاج يحيى وإدارة مستشفى جامعة النجاح إلى السطح، ومعها طفت سلطتان وعقدتان. وإن لم يكن هذا النزاع بينهما جديدا، إلا أن هذا المقال ليس لمناقشة تفصيلاته وبيان من على "حق". وإنما ننطلق في هذه المقال من فرضية أن هذا الحدث كان نزاعاً بين سلطتين، لكل منهما أدواتها.
وحفّز هذا الصراع شعبيا عقدتين عند جمهور المتابعين تجلت عند مؤيدي كل طرف. هذا المقال هدفه تسليط الضوء على هاتين السلطتين والعقدتين، ذاكرين التفاصيل التي تخدم إيضاحها متجنبين تلك التي لا تساهم في توضيح هذه الفكرة وإن كانت أكثر أهمية.
أما السلطة الأولى فهي سلطة الاستبداد التقليدية النابعة من المال والقوة والعلاقات والمصالح. تمثلت بإدارة مستشفى جامعة النجاح ووجهها د. رامي الحمد الله. مثل أي سلطة استبدادية، تمتلك ناصية الكثير من الناس عبر شبكات المصالح وهيمنتها على مصادر المنفعة لفئات واسعة من المجتمع. وتتمتع بمراكز قوة ضخمة: مالية ولوجستية وإعلامية وبشرية. فالنجاح الآن مؤسسة من عشرات المباني، حَرَمان جامعيان في نابلس وكلية تقنية، وكلية زراعة، ومراكز خدمة مجتمعية ومراكز أخرى متفرقة، إضافة إلى إذاعة وتلفزيون ومواقع إخبارية وصفحات، ومستشفى جامعي ضخم وعلاقات ممتدة. وبوصول الحمد لله لرئاسة الوزراء أضاف لذلك موارد حكومة كاملة، ومع كل ما ينبني على ذلك من مغريات ومناصب يوزعها، وأدوات قمع يسخرها لمصلحته.
السلطة الأولى انعكست شعبيا على شكل عقدة العبودية، أو متلازمة الذل. فالسلطة التي تتحكم في أرزاق الناس سيدعمها كثرٌ خوفا من خسران لقمة العيش، والسلطة التي تمتلك التوظيف والفصل سيؤيدها كل من يطمح لمنصب أو يخاف فقدان وظيفته وعدم ترقيته، والسلطة التي تمتلك أدوات قمعية عنيفة سيؤيدها كثر خوفا من العقوبة، أو على الأقل سيمتنعون عن معارضتها. ومع الوقت تتسع رقعة الهيمنة لهذه السلطة وتمتد متلازمة الذل لتشمل جوانب كثيرة من الحياة.
المشكلة أن هذه العلاقة بين سلطة العنف ومتلازمة العبودية تنتج حلقة مفرغة. فكلما ازدادت شبكات قوة السلطة ازداد الناس عبودية، وكلما سلَّم الناس أكثر ازدادت هيمنة السلطة على مصالح جديدة ومراكز قوة جديدة. هي حلقة لا نهائية من زيادة الهيمنة نتيجة لزيادة الذل والعبودية نتيجة لمزيد من العنف. ومع كل دورة في هذه الحلقة، مع كل زيادة في السيطرة، تصبح السلطة أقل حاجة لاستخدام أدوات القمع العنيفة في مقابل توسع استخدامها للهيمنة الناعمة، أو الأقل عنفا كالترغيب بمناصب وأموال والتحشيد أو التضليل الإعلامي وتهديد بفصل ضمنيا أو صراحة، مع توفير بدائل مرضي عنها للسلوكات المرفوضة لإسكات الجماهير. بمراجعة بسيطة لتاريخ د. الحمد الله خلال عمله في الجامعة والحكومة ترى الكثير من الامثلة. بدءا من عدد الحراس في جامعاته وحجم الصلاحيات المُعطى لها، ولا يُستبعد تطاول حارس على بروفيسور قدير أو طالب خارج أسوار الجامعة حتى -وقد حصل-. وآلية تعامل الإدارة مع الكتل الطلابية، أو مع الطلبة الذين اعترضوا على فتح الزاوية الأمريكية، والطالب الذي مُنع من دخول الجامعة لمنشور. مع الوقت أصبحت الحاجة للعنف أقل مع زيادة التسليم للسلطة، بجولة سريعة على حسابات مؤيدي الحمد الله على الفيسبوك تكتشف وسائل هيمنتها: انظر مثلا أين يعمل أبناء عائلته و"ألتراس الحمد الله" الذي كان يحيطه في الجامعة، أين وصل أعضاء مجالس الطلبة السابقين الذين خدموه وما هي مناصبهم. كل فلسطيني في محيطه يعرف جزءا من صور هيمنته. مع الوقت باتت متلازمة العبودية ثقافة سائدة لا تحتاج لبذل كثير من الجهد، وأنتجت لنا جماهير "ملكية أكثر من الملك"، وتدافع عن السلطة بغير إيعاز ولا توجيه حتى.
أما السلطة الثانية التي ظهرت في هذا الصراع كانت سلطة "المغترب". وإن استطعنا التعبير عن السلطة الاولى بشكل منفصل عن العقدة التي نتجت عنها أو أنتجتها، إلا أن إيضاح هذه السلطة بغير ربطها مباشرة بمتلازمتها الشعبية صعب، وتلك "عقدة الخواجا". فهذه السلطة وعقدتها متلازمتان بشكل قريب جدا، ولو شئنا تحليلهما بشكل مستقل سنحتاج تنقيبا طويلا. هذه السلطة تتمثل في شخوص/ مؤسسات قادمة علينا من غيرنا. اكتسبت كثيرا من بريقها فقط لأنها من عند غيرنا، لا لشيء مميز فيها ولا لجهد إضافي ولا لنفعها للمجتمع. أدوات هيمنتها نابعة من صفات غير منتجة، غير مرتبطة بعملها أو مهارتها أوعلمها. سلطتها مكتسبة من غربتها، مخالفتها لنا، دراسة في الخارج، نجاح عند غيرنا، مكانة في غير مجتمعنا. لكن أدوات هيمنتها لم تكن لتعمل لو لم تصادف عقد النقص المتجذرة: من كره الذات، وفقدان الثقة في البلد وأهلها ومؤسساتها، وخجل بهويتها. لتتعاض سلطة الغريب مع عقدة الخواجا.
كره الهوية يجعلك تجد الخلاص في كل من كان ذا هوية مخالفة من غيرك. والسخط على البلد وأهله يولد احتراما لكل ما جاء من خارج حدودها. وفقدان الثقة في مؤسسات البلد يعطي قيمة لكل مؤسسة أجنبة. لا نعني بحديثنا أن المؤسسات المحلية أفضل من الأجنبية، ولا أن خبرات المغتربين سيئة، بل نعني أن ما أتى من خارجنا يكتسب مكانة بغض النظر عن منفعته لنا، مكانة نابعة من اغترابه فقط، ولو جاء مثيله بغير سلطة الاغتراب لما نال هذا الحظ من التقدير. وصل الحد بهذه العفدة إلى الاشمئزاز من اللغة، فمبقدار تأتأتك في لغتك الأصيلة ورطنك في لغة غريبة يزداد احترام الناس لك، وتصل قمة التأثير بشيء من الشقار وزراق العيون.. فوق ما شاطر "سيكسي"!
بذلك تتكامل سلطة المغترب مع عقدة الخواجا، لتنتج جمهورا يقدس كل خواجا وينقاد "طوعاً" لسلطة خفية، على عكس السلطة الأولى الجلية. في حالة الحاج يحيى مثلا، هو "خريج بريطانيا"، وحقق نجاحات "عالمية" واعترف به الأغيار "بروفيسورا"، وله الكثير من الإسهامات العلمية عالميا، والأهم من كل ذلك يحدثك بنطق أجنبي لحروف عربية، لا ندري سبب ذلك وهو قد أنهى كل تخصصه في "إسرائيل"، أي لم يغادر البلاد إلا وهو فوق الثلاثين ربما. بتضافر هذه "المؤهلات" مع عقدة الخواجا في الشعب ستنتج الصورة التي رأيناها. حشود من المعجبين به والمدافعين عنه والمادحين بمهارته وإنجازاته الطبية والإدارية، وهم لا يعرفون شيئا عن بحوثه ولا جراحاته ولا إدارته.
وإن كانت السلطة الأولى متجلية بالعنف أكثر، إلا أن سلطة المغترب تهيمن برقّة. وإن كانت السلطة الأولى يتبعها الناس خوفا ومكرهين ربما، إلا أن السلطة الثانية يؤمن بها كثر طوعا مبهورين، ما يجعلها أشد خطرا وأعمق أثرا. فمن السهل أن تقنع الناس أن فلانا موالٍ للموقف السلطوي خوفا من عقاب أو طمعا في منفعة. لكن كيف ستقنع من انساق وراء سلطة المغترب بأنه تحت هيمنة تامة ولا يدرك الحقيقة كاملة؟ حين تتحدث ضد سلطة المغترب يظنك الناس من "أعداء النجاح" ومجرد حسود أو فاشل أو رجعي. وحين تذكر الحقائق ستخاطر بتحطيم أحلام كثر من الناس الذين يسعون إلى الوصول لما وصل له هذا "المبدع" ويتخذونه قدوة لهم، وكأنك تحطم الأمل في قلوبهم. أنت تقف في مواجهة "معبود الجماهير". وتخاف التضحية ببريق من أمل عند كثر ممن رأوه قدوة لهم ومخلّصا. ولا أشد على الناس من سرقة أرزاقهم إلا تحطيم آمالهم.
بالمحصلة، تضافرت سلطة المغترب وعقدة الخواجا لتدعم موقف الحاج يحيى، وفوق ذلك أيدهم كثر من أعداء الحمد الله، أتباع مقولة "إذا وقع الجمل كثرن ذباحينه". فكثر ممن وقفوا مع الحاج يحيى ربما لا يعلمون شيئا عن كل النزاع الحاصل، لكنهم وجدوها فرصة لتدمير ما تبقى من سمعة أو مكانة الحمد الله. ليعزلوه تماماً ويمنعوا عودته لأي منصب. فكان الفائز الأكبر هو الحاج يحيى.
لذلك نرى أن هذا الحدث لم يكن صراعا بين "خير" و"شر". بل بدأ بتآزر سلطتين، كل واحدة منهما لها أهدافها الخاصة التي تقاطعت لمدة، ولما اختلفت الرؤى ظهر الصراع. من المهم أن نذكر أن الحاج يحيى جاء متحالفا مع إدارة النجاح. وأنه استقوى بهذه السلطة ليحقق أهدافه، بل ليعادي ويهمش أطباء آخرين. وأنه استغل سلطته بشكل غير أخلاقي، للترويج لإنجازات مبالغ فيها، وإعطاء نفسه ألقاب لم يستحقها، وتعميم رسائل بما مُنح له من "ألقاب عالمية"، وخلق هالة إعلامية حوله ليعزز من سلطته بين الجماهير. ولا ننسى حجم الدعم الذي مُنح له من الجهات الطبية التي لم تجرؤ على مواجهته لتحالفه مع الحمد الله، ومن تفضيل مستشفى النجاح بالتحويلات الطبية والدعم لأن الحمد الله هو رئيس الوزراء والمتحكم في المستشفى. مما حرم مستشفيات أخرى كثيرا من الموارد. في المحصلة، ليس الحاج يحيى مظلوما ولا مستضعَفا، وإنما جاء متحالفا مع مستبد واستبد. وإن لم يستخدم الحاج يحيى وسائل الاستبداد مباشرة، إلا أنه سخرها لخدمته. وهذا بالمناسبة كان أسلوب الحمد الله قبل دخوله الحكومة، إذ كان يعطي "العمل القذر" لأطراف أخرى تقوم به نيابة عنه ليظل هو محافظا على صورته ونظافة يده. وكأن الزمن دار ليأتي من يوظف الحمد الله ليقوم له بعمله القذر ويحافظ هو على بياض يديه.
من المهم أن نوضح أننا لا نعني أن كل مغترب يعود يكون غير أخلاقي أو يكون سلطويا. لا فعل أكثر أخلاقية من عودتك مضحيا بامتيازاتك السابقة في المهجر. لكن أن تعود بشعور الاستعلاء على شعبك وأنك المخلص وأن من هم في البلد دونك، وشعورك أن على شعبك أن يكرمك ويقدرك بسبب "تضحيتك" بالعودة، ورفضك العمل إلا إن كان بشروطك، كل هذا لا يجعل منك مضحيا ولا قدوة. لو شئت خدمة شعبك أول ما يجب أن تدركه أنك من الشعب لا فوقه، وأن تتحالف مع الشعب لا مع جلاديه، وأن تعمل لتحقق أولويات الشعب لا "رؤاك" وأهدافك. وإن كان الفرق بينهما ظاهريا بسيط، إلا أنه جوهري.
كان حريا بالبروفيسور أن يدرك أنه لن يحقق خيرا للبلد بتحالفه مع هذه السلطة. والدرس الذي يجب أن نتعلمه أن هذه السلطة -ومثيلاتها- لا تريدك لتخدم البلد، بل لتحقق لها مصلحة ما وهدفا واضحا. وبمجرد انتهاء هذا الهدف ستقوم بحرق ورقتك. لم يكن الحاج يحيى الأول، ولكن البلبلة حصلت للسلطة التي اكتسبها الحاج يحيى وفصلها هذا المقال.فعلى مدار سنوات الحمد الله، كانت النجاح تأتي بأصحاب العلاقات والقدرات لتحقق منفعة ما، وبعد تحقق هذه المنفعة تحرق ورقتهم، لتحضر بدلا منهم الطيّعين. ربما تسمح لهم بتحقيق شيء مما يريدونه بشكل محدود مؤقتا لإرضائهم، لكن جل دعمها يذهب لتحقيق هدفها الذي تريده هي.
في النهاية، هذا الوطن لن يَصلُح بمن يمن عليه بعمله، ولا بمن يعمل لاسمه أو مجده الشخصي، ولا بمن يهتف "قدّسوني! مجّدوني!"، ولا بمن يظن أن الرب خلقه وكسر القالب. لن يكون لكل جهدك ثمرة ما لم تعمل ليلخد عملك بعدك، عرفك الناس أم جهلوك. أما التحالف مع من شيّد قصوره من عرق الشعب ودمائهم لتحقيق مجد شخصي فلن يكون مصيره إلا الوبال.