فلسطين المحتلة – خاص قدس الإخبارية: لم تنتقل عدوى مسيرات العودة -حتى الآن – من غزة إلى الضفة المحتلة، ولا بادرة قريبة تلوح بالأفق، في ظل اشتداد الخناق المفروض من قبل الاحتلال من جهة، والسلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية من جهة أخرى. فلا تُقرأ الأسباب التي حالت دون أن تعمّ مسيرات العودة في كل فلسطين المحتلة، بعيداً عن تحليل الظروف الموضوعية التي هيأت انطلاقها في غزة، فيما تعيق الظروف الأخرى امتدادها على كل الأرض المحتلة.
عودة إلى الثامن من كانون أول 1987، سال الدم ليروي انتفاضة شعبية غاضبة ستنطلق من مخيم جباليا في قطاع غزة وتمتد إلى كل الأرض الفلسطينية المحتلة، وذلك بعد استشهاد أربعة فلسطينيين وإصابة تسعة آخرين بعد أن دهستهم شاحنة يقودها أحد المستوطنين متعمداً.
مجزرة كانت الشرارة لمجموعة ظروف شكلت أرضية انطلاق انتفاضة غاضبة رداً على تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية في الساحة العربية، وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان وإبعاد القيادة والثورة الفلسطينية، إضافة لممارسات الاحتلال ضد الفلسطينيين وتصعيد اعتداءاته.
ورغم التشابه بين اليوم والأمس، إلا أن المختلف بين قراءة مشهد انتفاضة الحجارة ومسيرات العودة، أن الأولى كانت قبل قدوم السلطة الفلسطينية وفق اتفاقية أوسلو 1993 والتي تنص بنودها على وأد المقاومة بكافة أشكالها، عبر تنسيق أمني يضم حفظ أمن الاحتلال، فأصبح اليوم العائق الأكبر أمام المقاومة في الضفة، والتي فُرض فيها ظروف اجتماعية واقتصادية وأمنية باتت تكبل أي تحرك شعبي واسع، وإن ما زالت محاولات كسره مستمرة ومتصاعدة عبر عمليات المقاومة الفردية.
وفي غزة، فمن جهة اشتداد الحصار منذ 12 عاماً، إغلاق المعابر، توقف المساعدات الإنسانية، تصعيد الاحتلال عدوانه بغارات متكررة، ومن جهة أخرى، الصراع المستمر على السلطة بين الضفة وغزة وفرض السلطة العقوبات على أهالي غزة من بينها قطع الرواتب والتحويلات الطبية، أسباب كلها شكلت أرضية صلبة لتوحيد الغضب الشعبي بوجه الاحتلال والانطلاق بمسيرات العودة وكسر الحصار في 30 آذار 2018.
"لم يعد للناس في غزة تخوف من خسران شيء، أما السلطة السياسية في غزة فكانت مستعدة للذهاب مع الجماهير لمسيرات العودة بهدف تخفيف الضغط الملقى علي عاتقها"، تقول الأستاذة الجامعية، رلى أبو دحو لـ"قدس الإخبارية".
إلا أنه ووسط ما تعانيه غزة والذي هيأها لتكون في حالة انتفاضة يومية والتفاف دائم حول المقاومة، سعت السلطة الفلسطينية في الضفة المحتلة لمواصلة دفع الرواتب لموظفين بلغ عددهم نحو 170 ألف موظف، بقيت المعابر مفتوحة أمام الفلسطينيين، ومنحت السلطة الفلسطينية من خلال التنسيق الاقتصادي مع الاحتلال مزيد من التسهيلات، كالتصاريح، فيما تواصل المؤسسات الدولية تقديم المساعدات الإنسانية وتوفير فرص العمل، إضافة لتفتيت الاحتلال الضفة المحتلة عبر الحواجز، تعلق رلى، "لقد تم تدجين الضفة المحتلة خلال السنوات الماضية، وأصبح يُمارس بشكل مستمر تفريغ الاحتقان الاقتصادي، والحرص على عدم وجود ضغوطات اقتصادية معيشية يومية.. فيما بسطت الأجهزة الأمنية سيطرتها وباتت تحاصر المقاومة وتلاحق المقاومين والمعارضين السياسيين".
وتضيف أبو دحو، أن الظروف الموضوعية في الضفة المحتلة ما زالت غير متكاملة لتلحق بمسير غزة، رغم ما تقوم به من هبات غاضبة بين الحين والآخر، في ظل مواصلة الأجهزة الأمنية الفلسطينية عبر تقاسم وظفي بينها والاحتلال قتل أي بؤرة مقاومة في مهدها، وهو ما جرى على سبيل المثال على الحواجز الرئيسة ونقاط الاشتباك كمدخل البيرة الشمالي.
إذاً، فعدم انتقال مسيرات العودة إلى الضفة المحتلة له صلة بالعامل الذاتي الفلسطيني، فقد شكلت البيئة الداخلية الفلسطينية في الضفة المحتلة بيئة طاردة لأي عمل شعبي وطني، حسبما يوضح الكاتب خالد بركات لـ قدس الإخبارية، مضيفاً "أصبح في حالة عزوف الغالبية الشعبية عن المشاركة الوطنية والتي جاءت نتاج سياسية العزل من جهة، وسياسية السلطة الفلسطينية من جهة أخرى ومحاولة تدجين المقاومة الشعبية وتحويلها إلى حالة شكلية وموسمية".
وبين بركات أن الهجمة الصهيونية المتواصلة على الضفة وغياب جزء من المحرك الأساسي من كوادر وشباب العمل الثوري داخل سجون الاحتلال والسلطة الفلسطينية في ظل التنسيق الأمني و"الباب الدوار"، شكلت سبباً بغياب أو تأخر انطلاق انتفاضة شعبية جديدة.
وتعتبر الاتفاقيات الموقعة بين السلطة الفلسطينية والاحتلال العائق الأساسي أمام المقاومة أيضاً، المحلل السياسي عبد الستار قاسم يبين لـ قدس الإخبارية، أن اتفاقية أوسلو سعت لتطويع المجتمع الفلسطيني ليصبح متعايشاً مع الاحتلال، متقبلاً وجوده، ومطبعاً معه، وذلك من خلال العمل على عدة مستويات أهمها تعزيز الفردانية، نافساً ما تم بنائه في انتفاضة الحجارة من مقاومة شعبية ينخرط فيها كل فئات المجتمع الفلسطيني، وفي مختلف القطاعات.
فالهم الشخصي طغى على الهم الوطني، إذ أصبح الانسان مشغول بتكاليف معيشته فقط، كما يبين قاسم، مضيفاً أنه "حتى لو لا تعمل السلطة الفلسطينية بشكل مباشر على منع أي عمل مقاومة شعبية، فإن البيئة المفروضة لم تعد تشجع ذلك".
وضمن محاولات المستمرة الساعية للقضاء على المقاومة الشعبية بمفهومها ومضمونها الحقيقيين، حاولت السلطة الفلسطينية تعزيز ما أطلقت عليها عام 2012 بـ "المقاومة السلمية"، والتي تجردها من الأسلحة الشعبية بشكل كامل. وتهدف "المقاومة السلمية" للعمل على بناء "الدولة" وليس كجزء من أي عمل تحرري. ففي المؤتمر الثاني للمقاومة الشعبية ضد الجدار والاستيطان في مدينة رام الله عام 2012، قال رئيس الوزراء السابق، سلام فياض، إن "المقاومة السلمية تمثل تعزيز وتعميق الجاهزية الوطنية لإقامة دولة فلسطين".
قاسم يبين أن استخدام الرئيس محمود عباس مصطلح "مقاومة شعبية" على المسيرات التي انطلقت لتعزيز "المقاومة السلمية"، ناتج عن غير وعي لما يحمله المصطلح الأول، "محمود عباس ليس لديه تعريف للمقاومة الشعبية التي لا تطبق إلا بتنفيذ 17 بنداً مثل مقاطعة الاحتلال والتخلي عن الهوية الإسرائيلية وإعلان العصيان المدني.. إلخ".
وخلاف ما تسعى لتعزيزه السلطة الفلسطينية من تطويع للمقاومة الشعبية، فقد حرصت غزة على أن تواكب المقاومة المسلحة مسيرات العودة، يقول بركات لـ"قدس الإخبارية"، "ما يجري في قطاع غزة من مسيرات العودة لم يأت على حساب المقاومة بشموليتها وخاصة المسلحة، لأن حالة القطاع وخصوصيته المعروفة جعلت من مسيرات العودة بطابعها الشعبي أولوية وطنية لجبهة داخلية موحدة أكثر مما هي عليه في الضفة".
ولأن المقاومة الشعبية لا تحل مكان المقاومة المسلحة، فجاءت الأولى ممثلة بمسيرات العودة لتقوم بدور تكاملي مع الثانية في غزة، يقول بركات، إن "المقاومة المسلحة مارست وعلى مدار العام الماضي تزامناً مع مسيرات العودة دوراً هاماً وتكاملاً في حماية أهداف مسيرات العودة والتأكيد على ثوابت شعبنا، بالإضافة إلى أنها شكلت جدار حماية للمدنيين المعتصمين"
المقاومة المسلحة، كما مسيرات العودة على مدار العام، حملت عناوين وطنية تجاوزت خصوصية غزة، كما يبين بركات، فقد أكدت على ترابط العناوين السياسية مع ما يجري في الضفة والقدس والداخل المحتل وداخل المعتقلات، "المسيرات هي اجتراح ملحمة شعبية بطولية تتكامل مع المقاومة المسلحة التي لها طابعها المحدد الخاص".
ورغم محاولات كي الوعي الوطني والثوري في الضفة المحتلة عبر "رشاوي صغيرة" ناتجة عن اتفاقيات السلام بين السلطة الفلسطينية وكيان الاحتلال تحت حجة "بناء الدولة والمؤسسات" والتي لا تهدف إلا لتكريس منظومة الحكم الاداري الذاتي المحدود تحت الاحتلال، كما يوضح بركات، إلا أن ذلك لا يعني النجاح بتصفية المقاومة، "حالة ومستوى المقاومة في الضفة والقدس والداخل المحتل 48 ستبقى على حالها، ستتقدم وتتراجع تبعا لظروفنا الداخلية وظروف العدو أيضا، إلا أن العامل الذاتي الفلسطيني سيظل العامل المقرر والحاسم".
ويشكل ما تشهده سجون الاحتلال من تصعيد ضد الأسرى وفرض رزمة من العقوبات عليهم من بينها تركيب أجهزة التشويش، بادرة جديدة لانطلاق هبة شعبية غاضبة جديدة في الضفة إسناداً لأي خطوات نضالية سيسرع الأسرى في اتباعها.
تقول أبو دحو، إنه ربما تكون وتيرة هبة جديدة مساندة للأسرى أعلى من سابقاتها من خطوات شعبية مساندة للحركة الأسيرة، وذلك لعدة أسباب، منها تجربة مسيرات العودة الماثلة أمام الفلسطينيين والذين باتوا متحمسين لها، وتصعيد المقاومة خطابها دعماً للأسرى، تصاعد عمليات المقاومة الفردية النوعية وتوجيهها ضربة قوية للاحتلال، إضافة لتراجع الأوضاع المعيشية في الضفة وتقليص رواتب الموظفين بسبب اقتطاع الاحتلال أموال المقاصة، وعدم وجود ظروف موائمة لإجراء مفاوضات بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الذي تصعد حكوماته اليمينة من معاداتها للفلسطينيين، "كلها عوامل مستمرة بالتراكم لتشكل أرضية لغضب فلسطيني جديد، إلا أنها لم تصل ذروتها بعد".