شبكة قدس الإخبارية

حول الحلقة المركزية

20181406112936
هاني المصري

كتبت منشورًا على حسابي على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أتساءل فيه عن القضية أو الحلقة المركزية التي لها أولوية، ويجب التركيز عليها فلسطينيًا، وطرحت 11 قضية مقترحة ليتم الاختيار بينها، وفتحت الباب لاقتراح قضايا أخرى، لوجود قضايا لم يتضمنها المنشور، مثل تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو قضية اللاجئين، أو التركيز على مقاومة المشروع الأميركي الإسرائيلي لتصفية القضية، أو رفع الحصار عن قطاع غزة، أو التصدي للعدوان الاستعماري الاستيطاني العنصري في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس، أو مواجهة العنف أو العنصرية في الداخل الفلسطيني، وطمس الهوية الوطنية، أو انتهاك الحقوق المدنية للاجئين ودفعهم للهجرة، وغيرها من القضايا.

كما هو متوقع جاءت الأجوبة عن السؤال متباينة، إذ رأى 39 شخصًا من المشاركين في الاستطلاع أن الأولوية لإنهاء الانقسام، بينما صوت 14 شخصًا لإعادة بناء مؤسسات منظّمة التحرير، و13 لبلورة رؤية شاملة وإستراتيجيّة سياسيّة ونضاليّة، و12 لإجراء الانتخابات، و8 لمقاومة الاحتلال، في حين حصلت بقية الموضعات على 5 أصوات.

 سأحاول، بدوري، المساهمة في الإجابة عن هذا السؤال الصعب جدًا والمعقد.

في البداية، أطرح تساؤلًا لتبسيط الاجابة عن هذا السؤال. هل المقصود الحلقة المركزية للشعب الفلسطيني، أم للضفة الغربية وقطاع غزة، أم لأحدهما، أم لشعبنا في أراضي 48، أم في أماكن اللجوء والشتات؟

أقصد بالسؤال الشعب الفلسطيني، لأنني أؤمن بأننا شعب واحد، وما يجمعه أكثر مما يفرقه، مع ضرورة أخذ الخصائص والظروف المتباينة والأولويات لكل تجمع بالحسبان، خصوصًا عند وضع الخطط والإستراتيجيات وأشكال وأدوات العمل والنضال.

وما دام المقصود تحديد الحلقة المركزية للشعب الفلسطيني، لا بد من تحديد أين يقف الشعب وقضيته الآن، وإلى أين يريد أن يصل، وما هو مشروعه الوطني الجامع؟

في إحدى المرات طلبت مشاركة الشخصية الوطنية المخضرمة سلمان أبو ستة في أحد مؤتمرات مركز مسارات، وكان المؤتمر يتمحور حول المشروع الوطني، فقال لي وجهة نظر جديرة بالاهتمام، وهي استغرابه من القيادة والقوى والكثير من النخبة الفلسطينية التي لا تزال تبحث رغم مرور أكثر من سبعين عامًا على النكبة عن ماهية المشروع الوطني، وكأن المشروع الوطني المبني على الحقوق الطبيعية والتاريخية مفتوح للتغيير والتبديل، فالمشروع الوطني لا يتغير، وما يجب أن يتغير الخطط والمراحل والإستراتيجيات المطلوبة لتحقيقه.

أصاب أبو ستة كبد الحقيقة، فقد انزلقت قيادات وفصائل ونخبة في مزاد تغيير المشروع الوطني، صعودًا ونزولًا، خضوعًا للهزائم وموازين القوى والمتغيرات والفشل المتكرر وعدم الوعي العميق وضعف الإرادة، إذ جرى تغيير المشروع الوطني من تحقيق العودة والتحرير، إلى الدولة الديمقراطية التي يعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود على قدم المساواة، إلى برنامج إقامة السلطة على أي شبر يتم تحريره، إلى إقامة الدولة وتقرير المصير والعودة والاستقلال، إلى اقامة الدولة على حدود 67 عبر المفاوضات وإثبات الجدارة وبناء المؤسسات، ومن ثم دولة ضمن حدود 67 مع تبادل للأراضي، وما يعنيه ذلك من تشريع الاستيطان عبر الموافقة على ضم الكتل الاستيطانية الكبيرة، وحل عادل و"متفق عليه" لقضية اللاجئين.

يمر الشعب الفلسطيني بمرحلة تحرر وطني، وهو شعب شُرِّدَ نصفه إلى خارج الوطن، ويعيش نصفه الثاني إما محتلًا أو خاضعًا لنظام استعماري عنصري. وأي مشروع وطني يجب أن يستند إلى الحقوق والرواية التاريخية، ويستهدف إيجاد حل جذري للصراع، أساسه هزيمة وتفكيك المشروع الصهيوني الاستعماري العنصري، وإقامة دولة ديمقراطية على كل أرض فلسطين. وإذا كان هذا الهدف غير قابل للتحقيق في هذه المرحلة، يجب أن يبقى الهدف النهائي ووضع هدف أو أهداف مركزية يمكن تحقيقها في هذه المرحلة وصولًا إلى تحقيق الحل التاريخي.

في هذا السياق، لا يتعلق الجواب على تحديد الحلقة المركزية بتحديد الأهداف، وإنما بوضع الخطط والإستراتيجيات الكفيلة بتحقيقها بأسرع وقت وأفضل شكل، وبأقل الخسائر والتضحيات.

إن الحلقة المركزية قضية مهمة وعاجلة جدًا وواقعية، ويمكن تحقيقها في زمن محدد، وتحقيقها مرتبط بتحقيق يؤثر بشكل مباشر على القضايا الأخرى.

إذا أخذنا الانتخابات على سبيل المثال، فهي قضية مهمة، ولكن هناك ما يمنع أو يتدخل للتشجيع على حدوثها أو منع إجرائها. فالاحتلال يستطيع أن يمنع إجراءها إذا لم تأت في سياق تحقيق مصالحه وأهدافه مثلما وافق على إجرائها بعد توقيع اتفاق أوسلو الذي حققت إسرائيل من خلاله فوائد كبرى، أهمها منح الشرعية الشعبية للسلطة التي أسست بعد الاتفاق. كما سمحت بانتخابات 2006 لإدماج "حماس" في السلطة، وجعلها تعمل تحت سقف اتفاق أوسلو، بما يمكن أن يساعد على تدجينها وتأهيلها لتدخل ملعب المسيرة السياسية وتتخلى عن المقاومة، وخصوصًا المسلحة.

وعندما جاءت نتائج الانتخابات خلافًا للتوقعات، قامت بمقاطعة الحكومة التي شكلتها "حماس" وحكومة الوحدة الوطنية، واعتقلت أكثر من ثلث النواب، الأمر الذي ساهم بقوة في تعطيل المجلس التشريعي المنتخب.

كما أن الانقسام عقبة كبيرة أمام إجراء انتخابات شاملة وحرة ونزيهة وتحترم نتائجها، وتوظف في سياق المعركة ضد الاحتلال.

أما إعادة بناء مؤسسات المنظمة، فلا يمكن تكون الحلقة المركزية، كونها لا يمكن أن تتحقق من دون إنهاء الانقسام. وكذلك الأمر بالنسبة لتفعيل الإطار المؤقت لمنظمة التحرير، فالرئيس محمود عباس وحركة وفتح يرفضانه ولديهما حجة لا تخلوا من الوجاهة، وهي كيف تدخل "حماس" إلى المنظمة وتكون جزءًا من قيادتها، وهي لا تزال تسيطر منفردة على القطاع، أي أن استمرار الانقسام يحول دون تفعيل الإطار القيادي الموحد.

أما فيما يتعلق ببلورة رؤية وإستراتيجية، فهي لن تكون فاعلة وليست الأولوية ما لم يتم إنهاء الانقسام، مع أن وجودها ضروري للمساعدة على إنهائه. وكذلك القضايا الأخرى وضمنها الإكتفاء بتشكيل حكومة وحدة وطنية  ينطبق عليها نفس الشيء، كما لا يمكن أن أن تكون المقاومة هي الأولوية لأنه لا يمكن تنظيم مقاومة شاملة تستنفر كل طاقات الشعب الفلسطيني في ظل الانقسام.

كما لا يمكن الأخذ بفكرة ترحيل السلطة إلى قطاع غزة و/أو إقامة الدولة في غزة، لأن هذا وقوع في الفخ الأميركي الإسرائيلي الرامي إلى الفصل بين الضفة والقطاع بما يحقق "صفقة ترامب"، فضلًا عن أن القطاع محاصر ومهدد بالعدوان الدائم ولا ينفع أن يكون الحلقة المركزية أو الرافعة للنهوض الوطني الفلسطيني.

إعلان الدولة مرة أخرى أو تجسيدها على أرض الواقع أو تحويل السلطة إلى دولة يثير خلافات جديدة، لأن الغاية المنشودة لا تتحقق بإعلان جديد. فالاحتلال والاختلال في موازين القوى والانقسام هي الأسباب التي منعت وتمنع تجسيد الدولة التي أُعلِن عنها في "إعلان الاستقلال" في العام 1988، واعترفت بها الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2012.

أما القضايا الاقتصادية والاجتماعية والحياتية، فلا تنفع لتكون الحلقة المركزية لأن فلسطين تحت الاحتلال، ولا يمكن تحقيق تنمية مستدامة أو ديمقراطية حقيقية تحت الاحتلال، الذي يتحكم بهذه القضايا، وإزالته تستوجب إنهاء الانقسام.

كما أن تغيير وظائف السلطة لتكون سلطة تخدم البرنامج الوطني وأداة في يد المنظمة، على أهميتها ليست الأولوية، لأن تغيير وظائفها سيقود إلى مواجهة مع الاحتلال، ما يؤدي إلى انهيار السلطة أو حلها، الأمر الذي يقتضي التفكير ببلورة وبناء البديل، وهذا يحتاج إلى رؤية وإلى إنهاء الانقسام.

في الختام، كل ما سبق يدعم فكرة أن الحلقة المركزية هي لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية على أساس رزمة شاملة تتضمن بلورة رؤية شاملة وإستراتيجية وشراكة حقيقية وديمقراطية توافقية. وهذا الرأي يتفق مع استطلاع أجرته وكالة وطن للأنباء في أواخر كانون الثاني الماضي، أشار إلى أن أكثر من نصف المصوتين يرون أن إنهاء الانقسام وإنجاز الوحدة الوطنية هي الأولوية التي يجب على التجمع الديمقراطي العمل عليها.