منذ بدء المشروع الاستعماري الصهيوني على أرض فلسطين شكلت سلوان مركز أطماعه الدينية في القدس باعتبارها "مدينة داوود" المزعومة، فكانت المركز الأهم للحفريات ولعمليات الاستيلاء على العقارات.
بعد احتلال القدس عام 1967 تحرك مركز مشروع التهويد نحو حائط البراق، فدمَّرَ حارة المغاربة الملاصقة له لاستحداث ساحةٍ لصلاة اليهود، وبات باب المغاربة في سور المدينة المدخل الأساس للمستوطنين إلى القدس القديمة.
في الحالتين كانت سلوان الصخرة العصية على الحل، فهي تقوم وفق الرؤية التوراتية فوق مدينة داوود المزعومة، وهي الحي الرابض في مواجهة باب المغاربة الذي يشكل المدخل الوحيد تقريباً إلى ساحة صلاة المستوطنين أمام حائط البراق. منذ عام 1884 بداية الوجود اليهودي في سلوان وحتى عام 2019 مرت 135 عاماً، بينها 51 عاماً وسلوان تحت الاحتلال المباشر، أما ميزان السكان فيها فهو 97% من المقدسيين أصحاب الأرض مقابل 3% من المستوطنين، جزء كبير منهم من المتطرفين المتفرغين للسكن في بيت يوناثان وبؤر الاستيطان مقابل رواتب.
يغدو مفسراً ومفهوماً والحال هذه بحثُ الآلة الاستعمارية الصهيونية في بدائل تحت الأرض وفي السماء، فالمطلوب هو أن يمر الزائر إلى رواية أورشليم اليهودية المزعومة دون أن يمر بالقدس العربية الماثلة أمامه حقيقة، فيدخل من نفق بركة سلوان حتى يصل ساحة البراق وهو تحت الأرض، دون أن يمر بسلوان ودون أن يشاهد أهلها أو يسمع لغتهم، والمطلوب أيضاً أن يركب التلفريك في المركز اليهودي غربي القدس من المحطة التي ستقام على أنقاض حي البقعة العربي المهجّر، ليصل إلى مركز كيدم التوراتي الذي تديره جمعية إلعاد والمقام فوق أرض مصادرة ويدخل من هناك إلى البلدة القديمة عبر باب المغاربة إلى ساحة "المبكى" والأنفاق التي تتفرع منها، عوض أن يدخل من باب العامود أو باب الخليل ويمر بأزقتها وأحيائها فيعايش عروبتها والحضور الإسلامي والمسيحي فيها؛ المطلوب أن يتحول هذا الوجود الإسلامي والمسيحي الغامر والعصي على الاقتلاع إلى مجرّد مشهدٍ للاستمتاع، لا يعايشه الزائر ولا يمرّ به، لكنه يعايش الحديث عن تاريخ يهودي في الأنفاق تحت الأرض، أو في الساحة المبلطة الخالية من أي حضور أو شهودٍ تاريخي.
التلفريك المقترح يتكون من مرحلتين، المرحلة الأولى يراد لها أن تسير بموازاة السور الجنوبي للقدس، أما الثانية فتسير بموازاة سوره الشرقي حتى منتصفه. الجزء الذي أقرته "اللجنة القطرية للبنى التحتية" يشمل المرحلة الأولى فقط، على أمل تخفيف مستوى الجدل والاعتراضات على المشروع، ليصار لاحقاً إلى طرح مرحلته الثانية.
طول المرحلة الأولى 1400 مترٍ، تشمل 41 عربة، بسعة تقديرية تصل إلى 10 أشخاص لكل واحدةٍ من العربات، بلغةٍ أخرى، يتوقع أن يكون وزن العربة حوالي طن، وعندما يعمل الخط بكامل طاقته التشغيلية فإن الوزن المحمول على الأسلاك سيكون 41 طناً، تتحرك بسرعة 21 كيلومتر في الساعة، ولكي تتحمل الكوابل هذا المستوى من الوزن والسرعة فستحتاج إلى 26 عموداً معدنياً، متوسط ارتفاع الواحد منها 10 أمتار، وإذا ما قسمناها على الطول الإجمالي للخط فهذا يعني وجود عمود لكل 50 مترٍ تقريباً، إضافة للأربعين عربة المتحركة التي سيكون طول الواحدة منها نحو 4 أمتار وعرضها يزيد عن المترين، ما يجعلها أقرب إلى سيارات كبيرة معلقة في الجو.
لن يكون صعباً الآن أن نتخيل الشكل النهائي للقدس القديمة لو أردنا تصويرها من الجنوب إذا ما بني هذا القطار الهوائي، سيكون السور مطرزاً بـ26 عمودٍ معدني وبـ41 عربة زجاجية داكنة اللون تفصلها عن السور مسافة لا تزيد عن 20 مترٍ؛ لن يعود من الممكن التقاط صورةٍ لأفق المدينة وقبة الأقصى الرصاصية من جديد، والعملية ستتكرر على طول السور الشرقي حتى نقطة قريبة من باب الأسباط.
ترى هل هي مصادفة أن يركز المشروع على زوايا الأفق التي يظهر منها المسجد الأقصى تحديداً؟ المسجد الأقصى يقع في الجنوب الشرقي للبلدة القديمة، ومع اكتمال المشروع ستطوق هذه الزاوية تحديداً بحزامٍ من الأعمدة والكوابل والعربات التي تحجب الأفق، وتمنع التقاط صورةٍ واحدةٍ للأقصى بشكله التاريخي... نحن فعلياً أمام طمسٍ متعمدٍ لمشهد الأقصى يقصد خفض هيمنته على حيّز المدينة، ويقصد دفع الزوار والصحفيين لتصوير القدس من زوايا أخرى بعيدة عنه كي يتجنبوا هذا التخريب المعدني الرمادي المتعمد لأفق المسجد، ليشار للقدس بصورٍ أخرى غير تلك المشهورة عنها التي تؤخذ من جبل المكبر جنوباً أو من جبل الزيتون شرقاً. في القدس مشهد الأفق هو إعلان الهوية الحضارية ورمز الأحقية في السيادة، ودفع الزائر لتهميش الأقصى في صورته ليس عملاً جمالياً صغيراً، ونخطئ كثيراً إذا ما قزمناه إلى هذا المستوى من الفهم.
ثلاثة أهدافٍ إذن يبحث عنها هذا المشروع:
أولاً القفز فوق سلوان وخنقها وتعزيز الضغوط على أهلها، إذ تسير العربات الزجاجية الشفافة على ارتفاعٍ يتراوح بين 4-9 أمتار فوق بيوتهم فتشكل مصدر إزعاجٍ لهم وكشفاً شاملاً لخصوصياتهم، ثانياً المجيء بزوار المدينة إلى مركز اختلاق الرواية الصهيونية بشكلٍ يضمن أن لا يمروا بالقدس الحقيقية الماثلة أمامهم ودون أن يعايشوا أزقتها وحاراتها، وثالثاً تخريب مشهد أفق المسجد الأقصى تحديداً، وتخريب حضوره وهيمنته على أفق البلدة القديمةً.
من الضروري أن ندرك أن هذا القطار الهوائي ليس "أحد مشروعات التهويد" بالطريقة الكمية التي تنتشر اليوم لتعداد مشروعات الاحتلال وكأنها جملة محفوظاتٍ للتسميع؛ هناك أدوات مركزية وأخرى هامشية، وهنا نحن أمام مشروعٍ مركزي يراد له أن ينهي شكل القدس كما نعرفه اليوم. في الوقت عينه فهذا المشروع ليس قدراً، فالقدس مدينة تراث إنساني عالمي، ولم يسبق لأي موقع تراثي إنساني أن خُرب بهذا الحضور المدمر للآلة الحديثة، وهناك مساحة واسعة لعزل هذا المشروع ومحاربته دولياً وصولاً إلى فرض تراجع صهيوني عنه، كما أن تركيب الأعمدة في معظمه سيتم في محيط سلوان من وادي الربابة إلى وادي حلوة، ما يعزز كون سلوان جبهة المواجهة الأولى، ومنع أعمال البنى التحتية لهذا المشروع يجب أن يكون هدفاً وطنياً جامعاً ويمكن لأدوات المقاومة الشعبية أن تحققه إذا ما حضرت بشكلٍ فاعل.