أتابع اجتماعات المجلسين الوطني والمركزي منذ عشرات السنين، ولم تكن الصورة غامضة ولا النتائج غير معروفة لما يمكن أن يتمخض عنها كما هي عليه الآن، وذلك ما لمسته وغيري من خلال ما قاله قادة في حركة فتح ومنظمة التحرير وأعضاء بارزون مفترض أنهم مشاركون في القيادة واتخاذ القرارات.
فمنهم من قال بصراحة وتواضع زائف أو حقيقي، لا أعرف ماذا سيصدر عن الاجتماع! ومنهم من قال أن رأيه أو أوحى بأن المجلس سيكتفي بإصدار قرار بمتابعة تنفيذ ما سبق أن قرره المجلسان الوطني والمركزي في اجتماعاتهما السابقة. ولعل الاقتراح المقدم من قيادي بارز في جلسة النصاب بالاكتفاء بمناقشة بند واحد بدلًا من جدول الأعمال، وهو وضع خطة لتنفيذ القرارات السابقة، يوضح أن الاجتماع لا يحمل جديدًا ولا مخرجًا من حالة التوهان المستمرة.
ويظهر الغموض على أشده من خلال تباين التوقعات حول النتائج، فهناك من قال إن "فتح" واللجنة التنفيذية لستا في وارد حل المجلس التشريعي واتخاذ إجراءات جديدة ضد قطاع غزة. ومنهم من قال إن الرواتب التي تصرف سترتفع إلى 70%، ومنهم من قال إنّ المجلس التشريعي سيُحل وإنّ هناك عقوبات جديدة (عفوًا إجراءات) ستتخذ، وهذا ما يمكن أن يستشف من خطاب الرئيس محمود عباس في الجلستين العلنية والسرية، فقال إن هناك قرارات ستتخذ بخصوص الولايات المتحدة وإسرائيل وحركة حماس، وأن موضوع الأخيرة انتهى، وأنها تستفيد من الجباية وفروق الأسعار، وتنفذ الدولة ذات الحدود المؤقتة.
ومنهم على العكس كرر ما أكده الرئيس مرارًا وتكرارًا، بأن على "حماس" أن تشيل كل شيء، أو تدعنا نشيل كل شيء".
وهناك من صرح لصحيفة "الحياة اللندنية"، بأن المجلس المركزي سيفوض الرئيس بمتابعة تنفيذ القرارات، في المقابل هناك من رد عليه بأن الرئيس بصفته رئيسًا للجنة التنفيذية مفوض أصلًا وليس بحاجة إلى تفويض جديد، في حين أن المطروح هذه المرة الأخذ بالاقتراح الذي قدمه الرئيس بتشكيل لجنة من تنفيذية المنظمة ومركزية "فتح " والحكومة وشخصيات مستقلة وتفويضها بوضع خطة لتنفيذ القرارات المتخذة سابقًا، أي تكرار لظاهرة الإحالة لتنفيذ القرارات المستمرة منذ سنوات عدة عندما اتخذ المجلس المركزي قرارات في آذار 2015، التي أحيل تنفيذها إلى لجان سياسية، أو للجنة التنفيذية، أو إلى لجنة منبثقة عنها، ثم إلى المجلس الوطني، ثم إلى المجلس المركزي مرة ثانية وثالثة.
وهكذا ما يعكس عدم وجود نية لتنفيذها، وبدلًا من مصارحة أعضاء المجلس المركزي والشعب بالأسباب التي تحول دون كذلك، وضرورة تغييرها أو كيفية توفير القدرة لتنفيذها، يتم الاستمرار في هذه الدوامة من الإحالات التي لا تنتهي.
الأمر المؤكد أنه من دون إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة لا يمكن خوض معركة مفتوحة مع إسرائيل والولايات المتحدة، التي ستندلع إذا نُفذت هذه القرارات، وإذا فُتحت لا يمكن في أوضاع الانقسام والتوهان الانتصار فيها. وهذا كان يوجب إعطاء الأولوية لإنجاز الوحدة وتوفير متطلباتها، بما في ذلك البحث في الأسباب التي أدت إلى عدم مشاركة فصائل وشخصيات أساسية في المنظمة، وعدم النجاح في التوصل إلى اتفاق لضم فصائل أساسية بقيت خارج المنظمة.
إن مقاطعة المجلس لها أسباب كثيرة يجب التوقف عندها، أوردها المقاطعون ويمكن تلخيصها بما يأتي:
- استمرار سياسة التفرد والاستفراد، وازديادها تعقيدًا، لدرجة تحويل المؤسسات الشرعية التقريرية إلى هيئات استشارية وإغراقها بالموالين والمحسوبين، وفتح عضويتها كما ظهر بضم عضوين للمجلس المركزي قبيل اجتماعه الحالي بعيدًا عن اعتماد أسس موضوعية للتمثيل.
- عدم تنفيذ الكثير من القرارات الجوهرية المتخذة سابقًا.
- عدم الالتزام بالتقليد المتبع منذ تأسيس المنظمة بإجراء مشاورات جدية تسبق الاجتماعات المصيرية تنسجم مع مبادئ الشراكة الوطنية.
- استمرار الإجراءات العقابية على قطاع غزة، والتهديد بفرض إجراءات جديدة من شأنها القضاء على أي فرص لتحقيق الوحدة.
- وضع شروط تعجيزية لإنجاز الوحدة، ما يدل على أنّ الجميع عليه أن يكون ملحقًا بقيادة الرئيس، أو لتذهب غزة إلى الجحيم، حتى إلى تطبيق خطة الفصل بين الضفة والقطاع.
- استمرار اعتماد السياسة الانتظارية التي تراهن على إمكانية استئناف ما يسمى عملية السلام التي ماتت منذ زمن بعيد كما يظهر في طرح رؤية الرئيس أمام مجلس الأمن في شباط 2018، وتشجيع الوساطات الفرنسية والروسية والعُمانية، فضلًا عن الإغراق في اللقاءات مع الإسرائيليين على اختلافهم، وتأكيد الالتزام بالمفاوضات وكأنها هدف بحد ذاته.
- عدم توظيف المشاركة للتغطية على استمرار هذا الوضع البائس، أو اتخاذ قرارات جديدة تزيده بؤسًا، أو البقاء من دون قرارات واستمرار حالة الانتظارية القاتلة.
طبعًا، هناك أسباب تستدعي المشاركة، أهمها: الحفاظ على وحدة ما تبقى من مؤسسات المنظمة، والبناء على الموقف الرافض لصفقة القرن، الذي أكده الرئيس بوضوح أمام المركزي.
تأسيسًا على ما سبق، فإن الأمر الحاسم يبقى ليس المقاطعة رغم الأسباب الوجيهة التي تستوجبها، وليس المشاركة رغم الأسباب الضعيفة التي تستدعيها، وإنما كيف أن تكون المشاركة أو المقاطعة فاعلة في سياق جهد حقيقي للضغط المتراكم على طرفي الانقسام لإجبارهما على الاستجابة لإرادة الشعب، ووقف دوامة التدمير الذاتي الجهنمية التي تهدد بالإطاحة بكل شيء.
في هذا السياق، لا يكفي مطالبة الرئيس بتشكيل محكمة للبت في النزاعات بين الفصائل، وإنما المطلوب الغوص عميقًا في أسباب وجذور الانقسام الذي ينتشر ويهدد بالانتشار إلى مواقع ومجالات جديدة.
انتقاد سياسة الرئيس عباس وحركة فتح ضروري جدًا، لأن الرئيس يجمع بين يديه كل السلطات والصلاحيات والإمكانيات، التي تجمع بصورة لم يسبق لها مثيل جراء الانقسام وتداعياته، وجراء عدم مواجهة التفرد والاستئثار.
هذا الانتقاد لا يعفي "حماس" من المسؤولية، فهي تعطي الأولوية لاستمرار سيطرتها الانفرادية على غزة على أي شيء آخر، وما يعطيها ذلك من مزايا سياسية ومالية، وقدرة على التنازع على الشرعية والتمثيل، وتتعامل مع الوحدة كخيار من ضمن الخيارات وليس كأولوية، لذلك تفضل الوصول إلى التهدئة المنفردة قبل المصالحة، وتهدد باستخدام الصواريخ والمسيرات لضمان تدفق الوقود والأموال القطرية، وتعطي لمسألة رواتب موظيفها أهمية أكثر مما تستحق، ما يشي بأنها تبحث عن محاصصة بينها وبين "فتح"، وليس بناء مؤسسات وطنية تمثل الجميع على أسس موضوعية ومشاركة حقيقية كاملة.
الخلاصة أن الانقسام يتواصل ويتسع ويمتد إلى داخل المنظمة، ومرشح للتعمق والتحول إلى انفصال، خصوصًا في ظل عدم تبلور تيار ثالث، لأن القوى والمؤسسات والشخصيات المفترض أن تشكله وعقدت في الأشهر الأخيرة اجتماعات لتشكيله لا تزال مترددة وتسير ببطء السلحفاة، وكأن لديها الوقت الكافي، ما يعكس ضعف الوعي والإرادة واستمرار تأثير أوهام ومراهنات ومصالح فئوية وشخصية.
كان بمقدور هذه القوى أن تسبق المجلس المركزي بعقد مؤتمر يشارك فيه الآلاف، ممن يتفقون على تصور شامل بعيدًا عن طرفي الانقسام، يتضمن رؤية شاملة لجذور المأزق الحالي وأسبابه، وكيفية تجاوزه، ووضع خارطة طريق تحدد المسؤوليات على كل طرف بالدقة والتفصيل، والآليات والخطط الكفيلة باستعادة الوحدة ومواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية، وتوظيف الفرص المتاحة.
ولكنها أضاعت الوقت في اجتماعات لا تنتهي وخلافات حول تفاصيل، وحول تضخيم خطورة المشاركة أو المقاطعة لاجتماعات المركزي، مع أن الأمر الحاسم هو الاتفاق على الرؤية والخطوات واضحة المعالم بعيدًا عن دائرة هذا الطرف أو ذاك، التي يجب أن تطرح بعد ذلك على طرفي الانقسام، والتعامل مع كل واحد منها وفق تجاوبه معها.
القضية في خطر والوقت من دم والتاريخ لا يرحم، والنظام السياسي بمختلف مؤسساته ومكوناته يتآكل وينهار، والهوة بينه وبين الشعب واسعة منذ زمن حتى قبل المقاطعة للمجلسين الوطني والمركزي، وتتسع، ومرشحة للمزيد من الاتساع.
كما أن التفرد والاستئثار يصبح أكثر وأكثر هو سيد الموقف، إذ لم يعد مهمًا ما هي القرارات التي تتخذ ما دامت لا تنفذ أو تنفذ بصورة انتقائية، ما يحول المجلس المركري وبقية المؤسسات وكأنها منبرًا أو مؤتمرًا أو مركزًا للأبحاث والحوار، كما لاحظنا من خلال دعوة الرئيس للمقاطعين للمشاركة والإداء بدلوهم، في حين أن المطلوب التعامل مع هذه المؤسسات كمؤسسات قيادية تقريرية، تقوم بالتقييم والمحاسبة واستخلاص الدروس والعبر، وإقرر السياسات واتخاذ القرارات، وتوفير متطلبات تنفيذها.
أصبحت حتى اللجنة التنفيذية صاحبة أعلى سلطة لجنة استشارية، بدليل أن الرئيس لا يحضر معظم الاجتماعات، وإذا حضر يحضر لمدة قصيرة غالبًا ما تكون نصف ساعة، وفي غيابه يفقد الاجتماع سلطته التقريرية ويصبح استشاريًا، وتنقل التوصيات له ليقر تنفيذ ما يراه مناسبًا. فالمهم ما يقرره الرئيس وليس ما تقرره المؤسسة، وإذا أراد الرئيس حل المجلس التشريعي يُحل، وإذا أراد رفع الإجراءات عن قطاع غزة تُرفع، وإذا أراد فرض المزيد تُفرض.
إن المسؤولية عن المصير الذي وصلنا إليه تقع على الجميع، كل بحجم سلطاته وصلاحياته وإمكانياته، فلا يمكن تعويم المسؤولية بتكرار الحديث أن الكل مسؤول، فمسؤولية الرئيس أكبر من مسؤولية الجميع، ومسؤولية "فتح" و"حماس" أكبر من مسؤولية بقية الفصائل والمؤسسات والأشخاص. وهناك مسؤولية خاصة كما أسلفنا على القوى خارج طرفي الانقسام للتحرك وبلورة تصور ووضع خارطة للتصدي للمخاطر والتحديات وتوظيف الفرص، تبدأ بإنهاء الانقسام.