يتشبث الاحتلال بكل فرصة تتاح له، ليظهر مدى الأخلاقية التي يتمتع بها جيشه في تعامله مع الفلسطينيين، فمنذ اندلاع “انتفاضة القدس” أواخر عام 2015، عمد الاحتلال إلى الزج بمصطلح “تحييد المنفذ” في خطابه الإعلامي كناية عن إحباطه لعملية فدائية.
في واقع الأمر فإن المعنى اللغوي للكلمة، تشير إلى إقعاد المتحرك عن فعل أي شيء، ولكن لا يصل الأمر إلى درجة القتل، ولكن الاحتلال كعادته يطوع المفاهيم ويُشكلها وفقاً لأهداف، حيث استخدم هذا المصطلح في كل مرة كان يطلق فيها النار تجاه فلسطينيين، قد يكونون من المنفذين للعمليات الفدائية، أو اشتبه الاحتلال بهم، ولكن المحصلة كانت في غالبيتها “قتلهم”.
والأمثلة التي تطرح مقابل ذلك كثيرة، آخرها استشهاد الشاب وائل عبد الفتاح الجعبري، والذي ارتقى إثر إطلاق الاحتلال الرصاص عليه بزعم نيته تنفيذ عملية طعن قرب مستوطنة “كريات أربع”، ليكون المصطلح حاضراً على لسان جيش الاحتلال في إعلامه “بأن مهاجماً تم تحييده”، وكان المثال الأكثر وضوحاً في هذه القضية، وجرى توثيقه بالتصوير من قبل متطوع في مؤسسة “بيتسيلم” الحقوقية.
إعدام الاحتلال للشهيد عبد الفتاح الشريف في الخليل أيضاً، في الرابع والعشرين من آذار عام 2016 في منطقة تل ارميدة، حيث أطلق عليه الاحتلال الرصاص ما أدى إلى سقوطه أرضاً، مع إبقائه ينزف دون إسعافه، ثم وصل إليه الجندي “أليئور أزاريا” وأطلق عليه الرصاص من مسافة صفر، ما أدى إلى استشهاده على مرأى العالم، ليخرج جيش الاحتلال ويتحدث عن تحييده، ما يعني أنه جرى إعدامه بتعبير لائق!
وكذلك ما جرى في حادثة استشهاد الفتى محمود محمد شعلان من قرية دير دبوان، والذي أطلق جيش الاحتلال عليه الرصاص خلال مروره على حاجز “بيت ايل” شمال رام الله، دون أن يتسبب بالأذى لجيش الاحتلال، علماً أنه يحمل الجنسية الأمريكية، وكان متوجهاً لزيارة أقاربه في البيرة شمالاً، وبدأت عائلته تحقيقاً في الحادثة، وأصرّ الاحتلال على عدم الإفراج عن ما التقطته كاميرات المراقبة على الحاجز من دلائل مؤكدة تشير إلى إعدامه بشكل متعمد.
ووفقاً للباحث اللغوي الإسرائيلي وصاحب “الموقع الدائري” ruvik.co.il، فإنه يرى بأن كلمة “نيترول” أي التحييد، تعطي انطباعًا بأن الجيش في هذا الحدث لا يقتل، ولا يغتال، ولا يؤذي، مشيراً إلى أن الاحتلال وعبر أجهزته الأمنية كافة –والشرطة باتت هي الجيش الإسرائيلي الجديد- أنهم يشعرون بمزايا هذه الكلمة عن سواها، على اعتبارها تعني “تنظيف”، وليس إعدام بلا سبب، علماً أنه في عالم الهندسة القتالية تستخدم “التحييد” في وصف إيقاف القنابل عن الانفجار.
ولم يكن هذا المصطلح الأول الذي يحاول الاحتلال من خلاله تبرير عمليات الاعدام التي ينفذها ضد الفلسطينيين فقط لكونه اشتبه بهم، إنما استخدم سابقاً ولفترة طويلة مصطلح (וידוי הריגה) -فيدوي هريجه- بمعنى "التأكد من الموت"، المصطلح الذي حاول الاحتلال الاستعاضة به بدلاً من كلمة الإعدام، في محاولة لتخفيف وقع الكلمة على المتلقي، والتي وقعت غالبية دول العالم على تجريمها وعدم استخدام حكمها ضد أيّ كان، فيما كانت استعاضته بمصطلح “سيكول مِموكاد” بدلاً من الإغتيال أو التصفية، لذات الغرض.
وفي كل مرة يحاول الاحتلال فيها تخليص نفسه من دائرة المساءلة القانونية يلجأ الى استخدام المصطلحات الضبابية لعدم توثيق إجرامه، وليست سياسة قتل الفلسطيينيين رغم إمكانية إبقائهم على قيد الحياة واعتقالهم، ابتدعت خلال الآونة الأخيرة، إنما هي سياسة قديمة متجددة، حيث كانت أكثر الجرائم وضوحاً وإثباتاً على قيام حكومات الاحتلال وجنودها وضباطها بإعدام الأسرى والمعتقلين بدمٍ بارد بعد إلقاء القبض عليهم.
ففي 12 نيسان 1984 قام أربعة فلسطينيين من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين باختطاف الباص رقم 300 المتجه من “تل أبيب” إلى عسقلان، وكان يحمل 41 راكبًا، حيث تم إجباره على التوجه إلى غزة، وفي دير البلح على بعد 15 كم جنوب مدينة غزة أجبر الباص على التوقف، وأحاط به وحدات من الجيش وشرطة الحدود الإسرائيلية، وكانت مطالب الخاطفين هي إطلاق سراح 500 من أعضاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين المعتلقين لدى “إسرئيل”، لكن قبيل الفجر قامت وحدة النخبة من جيش الاحتلال بقيادة ييتسحاق موردخاي بمهاجمة الباص، حيث أصيب جندي واحد وسبعة من الركاب خلال العملية، واستشهد اثنان من المسلحين داخل الباص.
وأفادت تقارير صحفية أن الاثنين الآخرين جُرحا وفارقا الحياة في الطريق إلى المشفى إثر جروحهما، لكن ما أثار الجدل هو أنه في حين صرح جيش الاحتلال أن المختطفين الأربعة قتلوا أو جرحوا أثناء عملية “تحرير الرهائن” وماتوا داخل الباص، قامت الرقابة في الجيش الإسرائيلي بحظر صور التقطها مصور إسرائيلي تظهر أن واحداً من المنفذين الجرحى مشى على رجليه بعد العملية خارج الباص وأنه كان على قيد الحياة، لكن تبين أن الاثنين الجرحى أطلق عليهما الرصاص بعد إنهاء عملية تحرير الرهائن واعتقالهما، وأجبر "أفراهام شالوم" رئيس الشاباك آنذاك على الاستقالة، وقد صرح أحد الجنود وهو "إيهود ياتوم" الذين أحيل إلى التقاعد لصحيفة يديعون أحرونوت وذلك خلال مقابلة صحفية عام 1996 قائلاً: (لقد هشمت جماجمهم بأمر من الرئيس أفراهام شالوم وإنني فخور بكل ما فعلت).
وفي مثل حالة الشهيد محمد نوارة التي يعمل والده على مقاضاة الاحتلال لقتلهم نجله خلال مسيرات العودة عام 2015، دون أن يشكل خطراً على جيش الاحتلال، وكذلك مقاضاة الاحتلال على قتلهم.
ختاماً، على أي حال فإن اختلاف المسميات والمصطلحات التى يستخدمها الاحتلال في خطابه الإعلامي تثبت في كل مرة حقيقة أمره، تكشف منهجه في القتل المتعمد الفلسطينين وتهجيرهم من أرضهم.