تحاول هذه الورقة البحثية تسليط الضوء على آثار الجريمة التي أكملت سلطات الاحتلال الإسرائيلي فصولها بإعلانها عن فرض المزيد من العقوبات على القطاع الذي أنهكته سنين الحصار والمعاناة الـ11، والتي كان للسلطة الفلسطينية دورا فيها بفرضها العديد من الإجراءات العقابية ضد أهالي القطاع من أجل تشكيل حركة من الضغط في الشارع الفلسطيني على حركة حماس المسيطرة على القطاع للتنازل عن الحكم وتسليمه للحكومة الفلسطينية وفق الشروط التي وضعها الرئيس محمود عباس.
وستبحث هذه المادة في الوضع القانوني لقطاع غزة المترتب عن هذه العقوبات، والآثار التي سيتركها قرار سلطات الاحتلال إغلاق معبر "كريم أبو سالم" المخصص لنقل البضائع والمواد التموينية للقطاع، وتقليص مساحة الصيد، على حياة الناس، كما ستحاول المادة الإجابة عن السؤال الذي تطرحه العديد من الأوساط السياسية في الوقت الحالي، والذي يبحث فيما إذا كان الوضع الاقتصادي المتفاقم في قطاع غزة سيعرِّض نظام حركة حماس للخطر، أم أنه سيؤدي في النهاية لانهيار حالة الحفاظ على الوضع القائم بين المقاومة والاحتلال الإسرائيلي وانهيار التهدئة؟، بالإضافة إلى أثر هذه العقوبات على نسق وزخم مسيرات العودة التي دشنها أهالي قطاع غزة المحاصرون وما يرافقها من عمليات إطلاق للبالونات والطائرات الورقية الحارقة التي ألحقت خسائر فادحة بالاقتصاد الإسرائيلي؟.
ولتناول القضية من جميع جوانبها، لابد من الإشارة إلى العقوبات التي تفرضها السلطة الفلسطينية هي الأخرى على قطاع غزة، من تقليص لرواتب الموظفين، وتقليص الحوالات الطبية للحالات المستعصية من مرضى قطاع غزة للخارج، بالإضافة إلى إحالة المئات من الموظفين للتقاعد المبكر، وتقليص المبلغ المدفوع لسلطات الاحتلال لتغطية فاتورة الكهرباء الذي يزود بها قطاع غزة لتصل ساعات قطع التيار الكهربائي عن القطاع لأكثر من 18 ساعة، ما دفع معظم سكان القطاع للعيش على الكفاف، وتأتي هذه العقوبات الإسرائيلي لتكمل فصول الكارثة لتضع مصير حوالي مليوني نسمة في تهديد حقيقي.
عن الجريمة
فرضت قوات الاحتلال خلال الأعوام العشرة الماضية سلسلةَ من العقوبات بحق أهالي قطاع غزة بالإضافة لقيام السلطات المصرية بإغلاق معبر رفح الحدودي ما حرم أهالي قطاع غزة من العديد من السلع الاستهلاكية بالإضافة لحرمان القطاع من الكهرباء، وخلال تلك السنوات شنت قوات الاحتلال 3 حروب عنيفة على القطاع كان آخرها في صيف العام 2014 وأسفرت تلك الحروب عن استشهاد آلاف الفلسطينيين وجرح الآلاف بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية للقطاع بشكل شبه كامل، خصوصا المؤسسات الحكومية (الصحية والتعليمية) ما وضع كافة مرافق الحياة في القطاع في حالة شبه انهيار، مما دفع الأمم المتحدة لإعلان القطاع منطقة غير قابلة للحياة.
هذه القرارات وضعت الوضع القانوني للقطاع مسار بحث مرة أخرى، في ظل انعدام وجود نية صادقة لدى المجتمع الدولي لحل مشكلة غزة، وفي ظل استمرار ضرب الاحتلال الإسرائيلي للقوانين والأعراف الدولية في عرض الحائط، فعلى من تقع مسؤولية تردي الاوضاع الإنسانية للقطاع في ظل هذه القرارات غير الشرعية من قبل الاحتلال الإسرائيلي؟.
للحديث عن هذا، لا بد من التنويه إلى أن قطاع غزة ينسحب عليه ما ينسحب على غيره من المناطق الفلسطينية المحتلة في الرابع من حزيران في العام 1967، (القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة)، في العرف الدولي الذي يجبر الاحتلال على تحمل مسؤولياته تجاه المناطق التي يحتلها، وحتى عندما انسحب رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق "أريئيل شارون" في 15/8/2005 من بعض مستوطنات قطاع غزة، لم ينسحب عمليا ولم يعط الفلسطينيين السيادة وحرية التصرف وفق قواعد القانون الدولي، بل فرض عليهم حصارا جويا وبحريا وبريا، وأبقى على الغلاف الشرقي للقطاع مسيطرا عليه من قبل جيش الاحتلال، وبالتالي لا يزال يعتبر قطاع غزة أرضا محتلة، وتطبق عليه اتفاقية "لاهاي" لسنة 1907، واتفاقية "جنيف" الرابعة لسنة 1949، والتي وضعت بالأساس لضبط تصرفات الاحتلال وتنظيم تواجد قواته، وحماية السكان المدنيين الذين وقع عليهم الاحتلال وخدمتهم، فأي تصرف تقوم به قوات الاحتلال كإغلاق معبر كرم أبو سالم، أو المعابر الأخرى، أو من خلال تقليص مساحة الصيد، أو من خلال العدوان المسلح على القطاع كما حصل في الحروب السابقة على القطاع، يتناقض مع الوضع القانوني للحصار المفروض على غزة منذ 11 عاما، لأن الدولة المحاصرة يجب عليها أن تتقدم بشرح مستفيض عن الحصار، مدته وكيفيته وتاريخ انتهائه، ولكن هذا لم يحصل من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي فإنه يتجاوز جميع الخطوط الحمراء المتعلقة بنقض المادة الخامسة من "نظام روما" لسنة 1998، بارتكابه الجرائم العديدة أهمها: جرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب، وجرائم الإبادة الجماعية، وجرائم العدوان، وهذه الجرائم الأربعة، تحاسب عليها دولة الاحتلال بتصرفاتها غير القانونية وغير الشرعية مع قطاع غزة.
وإذا ما استمر غياب الرادع الدولي، واستمرت الإدارات الأمريكية بتحيزها الدائم لإسرائيل باستخدامها "الفيتو" ضد أية قرارات تصدر ضد الانتهاكات الإسرائيلية، والتي كان آخرها عندما طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتوفير الحماية للسكان المدنيين في قطاع غزة، فإن "إسرائيل" سوف تستمر في عنجهيتها وانتهاكاتها المستمرة بحق الشعب الفلسطيني والتي تخالف روح الأعراف والاتفاقيات الدولية.(1)
تنفيس الضغط الداخلي
ما يجري على الأرض يكشف عن وجود خطط سياسية تتبلور في أروقة السياسة الدولية والإقليمية من أجل الوصول إلى صيغة تفضي إلى حل للأزمة الإنسانية في قطاع غزة، لكن بمقاسات ترسمها الرغبات الإسرائيلية بمصادقة من الإدارة الأمريكية، ولعل ما يذاع حول وجود مبادرات مالية تتشارك فيها العديد من الدول العربية والغربية تجاه قطاع غزة، لتمهيد الأجواء حتى يتسنى للرئيس الأمريكي "دونالد ترمب" طرح رؤيته للسلام مع "إسرائيل" في الشرق الأوسط، على علاقة بما اقترفته سلطات الاحتلال مؤخرا، من أجل ممارسة المزيد من التضييق والضغط على قطاع غزة للقبول بما يطرح عليهم من مبادرات على حساب تمسكهم بخيار المقاومة المسلحة الذي لطالما ظلوا يتبنوه ويشكلون له ركنا شديدا من ظهورهم لحمايته، فمن غير المستبع أن يكون لهذا القرار الإسرائيلي علاقة بما سبق ذكره.
أمام هذه القرارات من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، تبرز ثلاثة احتمالات في إطار الأسباب الحقيقية التي تقف خلف هذه القرارات، أولها: الضغط على حركة حماس فيما يتعلق بملف الجنود الأسرى لديها، وثانيها، أن هذا القرار الإسرائيلي مرتبط بما يذاع حول مشروع التصفية الأمريكية وما يعرف بـ"صفقة القرن" لتشكيل ضغوطات من أجل إجبار غزة على الانخراط في هذه الصفقة، حيث أن غزة ظلت ترفض التعاطي مع مثل هذه الصفقات، رغم أنها لم تتضح معالها بشكل جلي حتى اليوم، غير ان الجميع يدرك في غزة انها مشروع تصفية للقضية الفلسطينية، والاحتمال الأخير، هو أن هذا القرار تنفيس من قبل سلطات الاحتلال للتعبير عن غضبها مما يطلقه نشطاء المقاومة الشعبية في قطاع غزة المرابطين على طول الحدود من بالونات حارقة أتت على معظم المحاصيل الزراعية في المستوطنات المحاذية لقطاع غزة وما نجم عنه من خسائر فادحة للاقتصاد الإسرائيلي بالإضافة إلى محاولة من قبل حكومة الاحتلال لقتل التفاعل الكبير الذي شهدته مسيرات العودة التي لا تزال مستمرة منذ عدة أش هر على طول الحدود والتي لا تزال تبقي قوات الاحتلال في حالة استنفار مستمر وهذا أمر مكلف بالنسبة لجيش الاحتلال.
يبدو أن هذا السبب هو السبب المرجح لدى قرار حكومة الاحتلال، حيث يبقى الاحتلال الإسرائيلي أمام ثلاثة خيارات أهمها، الإبقاء على الوضع القائم واستمرار إطلاق البالونات الحارقة وهذا غير مرغوب في ظل استمرار الضغط الداخلي على حكومة الاحتلال الإسرائيلي لحل هذه المعضلة، والخيار الثاني، هو الذهاب إلى مواجهة شاملة مع قطاع غزة، وهو الخيار الذي يبدو أن حكومة الاحتلال لا ترغب على الأقل في هذا الوقت الذهاب له وتنأى بنفسها عن الوصول لهذه المرحلة، والخيار الثالث، هو الذهاب إلى العقوبات الاقتصادية، من خلال تقليص مساحات الصيد وتقليص كمية ونوعية البضائع الواردة لقطاع غزة.
تترافق هذه القرارات التي لاقت ترحيبا كبيرا داخل حكومة الاحتلال، في الوقت ذاته، وجود قناعة لدى العديد من المستويات الإسرائيلية بأن هذه العقوبات لن تؤتي أوكلها بشكل واضح، فالمعادلة القائمة في غزة ستبقى قريبة من المعادلة الحالية، وإن كان هناك تغيير من قواعد اللعبة فلن يكون تغييرا جوهريا إنما سيكون تغييرا طفيفا، فحماس سوف تبقى محافظة على سيطرتها في القطاع، لأن القضية أكثر تعقيدا، حيث لا يمكن لبعض العقوبات أن تفرض تغييرا للواقع الذي يتصف بالتعقيد والتشابك، فالموضوع لا يدخل في إطار النزاع على شيء معين حتى يتنازل طرف للطرف الآخر، فالقضية قضية وجود للشعب الفلسطيني.
حماس في العديد من المرات التي فرضت فيها سلطات الاحتلال العقوبات على قطاع غزة، كانت تسعى لتطوير وتغيير طريقة إدارتها لقطاع غزة، ومنذ تولي القيادي يحيى السنوار لمقاليد حكم الحركة في القطاع، سعت الحركة للتقرب من حركة فتح وإنهاء ملف الانقسام بأي ثمن، وقدمت العديد من التنازلات لتسهيل تحقيق المصالحة، وبالتالي فإن هذا يعكس رغبة من الحركة في المحافظة على ديناميكية الحكم والتأقلم مع الظروف، لتنفيس الضغط الواقع على الشعب والذي يهدف في المحصلة لخلق حالة من التمرد والانقلاب على حكم الحركة في غزة، وهي أمر لا ترغب حماس في حصوله لحرصها على المحافظة على الحاضنة الشعبية لذراعها العسكري وغيره من أذرع المقاومة، غير أن هذه الديناميكية لا تعني الوصول لحالة الرضوخ والخنوع للضغوطات الممارسة عليها.(2)
خيارات غزة
الاحتلال الإسرائيلي لا يتعض بتجاربه السابقة مع قطاع غزة وأهل غزة، فخلال سنوات الصراع الدامية، وهي لا تزال مستمرة في سياستها التي أثبتت عدم نجاعتها مع غزة، فالعديد من الأوساط السياسية الإسرائيلية شددت في أكثر من مناسبة أن الحل العسكري أو ممارسة المزيد من الضغط على قطاع غزة لن يولد إلا المزيد من النار والمزيد من التوقد، ففرض المزيد مع العقوبات على غزة ستؤدي بالحتمية إلى تفاقم وتصاعد وتيرة الأحداث لتصل في نهاية المطاف إلى تصاعد وتيرة المسيرات غير المتوقفة في غزة وما يرافقها من أعمال مقاومة ينفذها نشطاء المقاومة الشعبية المشاركين في تلك المسيرات، وهو ما حذرت منه العديد من الجهات الأمنية والسياسية لدى الاحتلال.
ولا يمكن إغفال أن أهالي غزة بالأصل يعيشون في حصار ضاغط منذ أكثر من عقد من الزمن، وبالتالي فإن ردات الفعل على المزيد من العقوبات ستكون أكثر شراسة من قبل، وسيستخدم فيه النشطاء كافة أشكال المقاومة الشعبية، حتى يصل الأمر إلى دخول تصعيد نسق وزخم مسيرات العودة، وستدخل فصائل المقاومة على خط المواجهة لتنفلت الأمور من أيدي جيش الاحتلال ويدخل في مواجهة غير مرغوبة مع قطاع غزة.
أمام هذه المحاولة الإسرائيلية للضغط على غزة ستجد "إسرائيل" نفسها أمام ضغوطات فرضتها عليها غزة والجماهير الغاضبة في غزة، فالاحتلال لا يريد أن تصل الأوضاع إلى هذه الدرجة، وهو عندما يشعر بخطورة ما ستؤول إليه الأمور على الأرض، سيعمل على تغيير سلوكه الميداني، فهو لا يستطيع تحمل استمرار التوتر لعدة أشهر، لذا سوف يلجأ إلى دفع بعض الأطراف للتدخل من أجل الإبقاء على حالة الاستقرار والعودة إلى الوضع الذي كان قائما قبل مسيرات العودة.(2)
العقوبات الإسرائيلية الأخيرة تبقي الخيارات الفلسطينية مفتوحة أمام الحياة البائسة التي يحياها أهالي القطاع منذ 11 عاما، فهم يدركون أن هذا الفصل من فصول التعنت الإسرائيلي إنما تأتي نتيجة الاحتقان الداخلي الإسرائيلي الذي بات يرغب أكثر من أي وقت مضى في حل الأوضاع في قطاع غزة لإدراكهم أن ممارسة المزيد من الضغط على أهالي غزة الذي ظلوا لعقود يشكلون هاجسا للمؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية يعني مضاعفة قوة الانفجار في وجه الإسرائيليين، خصوصا الذي يعيشون على بعد بضعه كيلومترات عن قطاع غزة.
_______________________________________
الهوامش:
1- لقاء خاص مع الباحث والخبير بالقانون الدولي الدكتور حنا عيسى
2- لقاء خاص مع مدير معهد فلسطين للدراسات الإستراتيجية في قطاع غزة إياد الشوربجي