بعد شهور من المحاولات المترددة التي شكلت بالونات استطلاع؛ هاجمت سلطات الاحتلال مقبرة الرحمة لتبدأ عملية القضم المخطط لها منذ زمن، هذه المقبرة التي تضم رفات اثنين من الصحابة الكرام هما شداد بن أوس وعبادة بن الصامت، وقبور سادةٍ من المجاهدين والعلماء والمعلمين وأهل الله والأولياء ووجوه المدينة على تعاقب القرون والسنين. والأهداف الصهيونية على المدى البعيد تجاه المقبرة واضحة ويمكن قراءتها في ثلاثة سياقاتٍ أساسية:
أولها وأخطرها هو التقسيم المكاني للمسجد الأقصى المبارك: فالشواهد المتواترة تدل على أن الجزء الشرقي من ساحة الأقصى هو المستهدف بمشروع التقسيم المكاني للأقصى: فالخرائط التي تداولتها أوساط حزب الليكود في عام 2013 أشارت بوضوح إلى محاولة انتزاع الساحة المقابلة لبابي الرحمة والتوبة لتصبح مكاناً دائماً لصلاة اليهود مع إمكانية توسيعها في الأعياد والمناسبات، والمقتحمون الصهاينة يركزون اليوم على التوجه إلى شرق ساحة الأقصى فور دخولهم إليه من باب المغاربة، ليقضوا معظم وقتهم ويحاولوا ممارسة طقوسهم هناك قبل أن يغادروا، علاوة على تمسحهم بالردم المكدس فيها فوق المصاطب وبين الأشجار، والذي تمنع سلطات الاحتلال إخراجه من المسجد منذ فتح البوابات الكبيرة للمصلى المرواني عام 1999. الشاهد الأحدث على هذا الاستهداف كان أعمال الحفر التي نفذتها سلطات الاحتلال خلال سيطرتها على المسجد في هبة باب الأسباط، إذ حفرت الحجارة التي تسد بابي الرحمة والتوبة من الداخل حتى اخترقته من الخارج، وهذا يدل على استكشاف خيار فتح تلك البوابات بعد دراسة الحجارة التي تسدها ونوعها وتاريخها، على اعتبار أن باب الرحمة وشقيقه التوبة يدخلان إلى الأقصى من سور المدينة الشرقي مباشرة دون المرور بأي كثافة سكانية عربية، وهو ما لا يوفره أي باب آخر للمسجد. تعزَّزَ هذا الاتجاه في الشهور التالية لهبة باب الأسباط بطلب مدعي عام الاحتلال إغلاق القاعات المسقوفة المطلة على باب الرحمة زاعماً بأنها كانت مقراً لجهة محظورة ؛ هي لجنة التراث عام 2003.
مقبرة الرحمة هي المعلم الإسلامي المطل مباشرة على هذين البابين، وفتحهما كمدخل للمقتحمين اليهود لا يمكن أن يتم إلا بإزالة مقبرة باب الرحمة أو أجزاء منها، وعليه فلا يمكن أن يقرأ العدوان على مقبرة باب الرحمة منفصلاً عن العدوان على المسجد الأقصى ومحاولة تقسيمه، وحماية مقبرة باب الرحمة هي متطلب أساسي للوقوف في وجه التقسيم المكاني للأقصى، فمقبرة الصحابة تقع اليوم في قلب المعركة على هوية المسجد الأقصى، لا أقل من ذلك.
السياق الثاني للهجوم على مقبرة باب الرحمة هو استخدامها للمشاريع التهويدية لمحيط الأقصى: وأبرزها مشروع التلفريك الذي سيصل جبل الزيتون بسلوان واقترح مخططه الأولي أن يمر من فوق مقبرة الرحمة، بينما اقترح مخطط القدس القديمة عام 2007 أن تكون محطته الرئيسية فوق مقبرتي الرحمة واليوسفية على جهتي باب الأسباط، واقترح أن تكون تلك المحطة مركز زوارٍ متكامل من ثلاثة طوابق وبمساحة إجمالية تزيد عن 15,000 مترٍ مربع، وعدم طرحه مع مخطط التلفريك لا يعني إلغاءه، بل هو في الغالب تكتيك مرحلي لتمرير المخططات واحداً بعد الآخر.
السياق الثالث للهجوم على المقبرة هو محو ما يثبت الأقدمية التاريخية العربية والإسلامية: فعادة الناس أن تبني المقابر على أطراف المدن، ووجود مقبرة الرحمة واليوسفية والشهداء ومأمن الله على أطراف البلدة القديمة للقدس من جهاتها المختلفة يؤكد الهوية العربية والإسلامية في المدينة، فمن يسكن المدينة هو من يدفن موتاه فيها، ومحو قبور موتاه وإرثهم ضرورة لمحو هويته عن هذا المكان. ولا بد هنا من التنبه إلى أن مقبرة الرحمة مقابلة تماماً للمقبرة اليهودية المختلقة على السفح الجنوبي الغربي لجبل الزيتون، وما يطمح إليه الاحتلال حتى في المقابر هي عملية إحلالٍ تام، أن تزال قبورنا وشواهد وجودنا التاريخي وتستحدث في جوارها وعلى أنقاضها مقابر وهمية وشواهد مزعومة لوجود يهودي، لمحاولة القول بأن اليهود المزعومين الذين سكنوا المدينة على مرّ التاريخ دفنوا موتاهم بجوارهم على سفح جبل الزيتون.
هذا على المستوى بعيد الأمد، أما على المستوى قريب الأمد فقد بدأ الاحتلال بمدافن عائلات سلوان في أقصى جنوب المقبرة لأن هدفه أن يوقف الدفن في المقبرة، وأن يغلق إمكانيته تماماً أمام الناس، وأن يوقف تواصل جماهير القدس مع المقبرة بتسييجها بعوارض حديدية بشكل يجعل زيارتهم لقبور أحبائهم أمراً صعباً، ما يعزز عزلة المقبرة ويسهّل قضمها والقضاء عليها.
أمام هذا التشخيص لأهداف العدوان الصهيوني على مقبرة الرحمة تمهيداً للتقسيم المكاني للأقصى، وإنفاذاً لمشاريع تهويد محيط البلدة القديمة ومحواً للهوية العربية والإسلامية للمدينة، فإن حماية مقبرة باب الرحمة تمسي موضوعاً مركزياً للمواجهة، عنصر النجاح الأول فيه هو إفشال عزل جماهير سلوان عن المقبرة، وهذه المسؤولية تقع اليوم على عائلات سلوان التي هوجمت مدافنها، فالصورة أمام مدفن محمد العباسي ينبغي أن تستنفر العائلة في شتى أماكن تواجدها في سلوان والأردن والمهاجر، وأن تقف إلى جانبها كل عائلات سلوان المهددة بمصادرة وهدم قبور أجدادها، ليتأسس بذلك حراك يمكن البناء عليه، ولا بد من إشهار سير أصحاب تلك القبور وسيرهم، وهم في معظمهم من سادة القدس وقادتها ووجهائها، فهذه المقبرة للمقدسيين كانت أشبه بالبقيع لأهل المدينة، فهي إذ تضم رفات صحابيين جليلين فقد تطلع الناس إلى جوارهما على مر التاريخ، فهي بقيع القدس ومقبرة الصحابة ولا بد من إحياء ذكر وسير أهل تلك القبور عربياً وإسلامياً فيصبح العدوان عليها عدواناً على كل مسلم، ويمسي من الممكن أن يعزز دفاع عائلات سلوان عن مقابرها بحراكٍ عربي وإسلامي.
أما على الجانب الرسمي فهذه المقبرة جزء لا يتجزأ من مسؤوليات الأوقاف الإسلامية الأردنية، والأردن هو الدولة التي تتبع لها تلك الأوقاف تبعية مباشرة، والموقف الرسمي الأردني حتى الآن لم يتعامل بما ستناسب مع العدوان الصهيوني على هذه المقبرة ولو من الناحية الدبلوماسية، والمعادلة التي أثبتتها هبة باب الأسباط ناصعة الوضوح: فالحامي الأول للمقدسات هي جماهير المقدسيين وشعب فلسطين عموماً، والدور الرسمي لا بد أن يبني على هذه المعادلة وأن يحتمي بقوة الجماهير ومدّها وأن يدعمها ويعزز صمودها في المواجهة، لا أن يسير في اتجاهٍ مخالف، وهذا الطريق بات اليوم الطريق الوحيد لأداء أمانة تلك المقدسات في وجه استهداف الحكومة الصهيونية لها تحت غطاءٍ أمريكي غير مسبوق، ومن يظن أن لديه طريقاً آخر فهو واهم.
أخيراً لا بد من التأكيد على أن معضلتنا في مقبرة باب الرحمة ليس أن "أموات القدس مستهدفون"، ولا أن "موتى القدس لا بواكي لهم"، وهذه الديباجات الإعلامية التي نستخدمها "لإظهار بشاعة" المحتل الصهيوني تمسي عبئاً على الفهم يغلق الأفق أمام إدراك المخططات والسعي لإفشالها، فمهمتنا الأولى بعد 70 عامٍ من الاحتلال الصهيوني لا يمكن لها أن تكون "كشف بشاعة" المحتل، بل نحن معنيون بفهمٍ دقيق لأهدافه ولكيفية مواجهتها وإفشالها مستثمرين في نقاط قوتنا ومستغلين نقاط ضعفه، فإن نحن لم نبني فهماً واضحاً لنقاط قوتنا ونقاط ضعفه بعد 70 عاماً من الصراع معه فما نفع وجودنا؟