لم أكن أعلم وقتها أكان نهارا أم ليلا ذاك الذي استجلبت فيه من زنزانة التحقيق في مركز تحقيق "بيتح تكڤا" عام 2005 معصوب العينين مقيد اليدين والرجلين بعد جولات تحقيق متعاقبة وقاسية، كنت أحس بعدد الموجودين في الغرفة التي اقتادني إليها اثنان من "بغال الشاباك" عبر ممرات حفظتها بقدمي من أنفاسهم وتململهم في مكانهم وكنت غارقا بتوقع الاتجاه الذي ستأتيني منه صفعة ما أو لكمة سريعة مدفوعة بكل الارتجاف الذي يلف يد جبان مرتعد يصفع شخصا هزيلا شاحب الوجه بجسد مملوء بالجروح وهو مقيد لكرسي قصير في وسط الجمهرة المتحفزة والمنتظرة لتكمل ما كانت تقوم به على طول الأيام السابقة من ضرب وتنكيل وإهانة لكسر الجسد الضعيف المتمسك بتياسة العقل الفلسطيني الذي يزداد تياسة كلما ازداد الكرب وعظمت الواقعة..
كنت أتحسس خلسة مدى طول السلاسل التي كانت تغل يدي اليمنى للمقعد في وسط الغرفة بيدي اليسرى المصابة التي لم تقيد هي الأخرى هذة المرة لسبب كنت أجهله محاولا فحص قدرتي على حماية وجهي من أي ضربة كنت بانتظار اندفاعها نحوي في أية لحظة.
كنت استمع لكل ما كان يجري في الغرفة المكتظة بتوجس وترقب لما هو آت.
كان صوت أصابع المحقق المنتشرة فوق "الكيبورد" متواصلا دون انقطاع، وكنت أعلم أن توقف هذا الصوت يعني بداية ما جلبت من زنزانة التحقيق لأجله، وما إن توقف الصوت متبوعا بتنهدات وتأفف المحقق حتى أزاح الأخير كرسيه ونهض ليخطو نحوي بتثاقل مصطنع ويدور حولي ليرفع "العصبة" عن عيني ويشد على كتفي بقبضته دون أن ينطق بكلمة مكتفيا بإرسال تلك الابتسامة الصفراء، وهم عائدا إلى مقعده واجتذب الهاتف لطرف الطاولة حيث كان الكرسي الذي قيدت إليه جثتي المتهالكة وبدأ "بضرب" الأرقام التي ما إن تتبعت حركة يده فوقها حتى عرفت الجهة التي كان يتصل بها وأقسم أن قلبي لم ينحلع من مكانه طيلة أيام التحقيق السابقة المضنية والقاسية جزعا وخوفا قبل هذي اللحظة .. لكني جهدت لئلا تظهر على وجهي آثار تلك اللوعة وانتفاضة قلبي الذي كاد يقفز من ضلوعي...
كان الرقم الذي اتصل به المحقق هو رقم والدتي .. وكنت أحس بعيني تدوران في محجريهما بعنف وصوت الهاتف الذي كان يرن في الجانب الآخر يغوص في أذني كانه نص سكين .. كنت أتنمى ألا تجيب لكني بنفس الوقت كنت أتهدج تحت جلدي شوقا لسماع صوتها ..
وحين اندلع صوتها داخل الغرفة التي اختفت منها كل تفاصيل القمع والجثث الضخمة المتململة أغمضت عيناي على الزلزال الذي اجتث روحي من بين ضلوعي ..
لا زلت أذكر كل حرف في تلك المحادثة المقتضبة .. حين عرف ضابط الشاباك بنفسه وأخبرها بأنه يقبض على فلذة كبدها في قبضته وأن بإمكانها الحديث معي وأنني أستطيع سماعها، لم تقل شيئا وقتها .. وكنت اتداعى تحت موجات صوتها التي كانت ترفعني وتلقي بي إلى عمق ذاكرتي ورائحتها .. لم تقل شيئا
- سعد يما .. انت منيح؟ - اه يما أنا منيح - بدك إشي لازمك إشي - لا يما كلشي تمام - طيب ديربالك ع حالك.. سلام - سلام يما ....
عم الصمت للحظات بين تنهدي ومحاولتي ابتلاع غصتي وألمي .. وبين دهشة المحقق الذي سألني بجدية - هذي أمك؟ - اه أمي - أمك بتحبكش .. أنا لو محبوس ويطلعلها تحكي معي بتضل تحكي لبكرة الصبح .. بس أمك كلمتين وسكرت الخط... -عشان عارفة إني مش عامل إشي ورح روح قريبا.. -تروح؟؟!! هاها بدك تروح؟. -أكيد أنا مش عامل إشي لليش حابسني؟!! - انت عامل كتيير ورح تحكي كلشي غصب عنك ولا بجيب أمك لهون عالزنزانة عند الجنود - كيف بتهددني بأمي وانت بتقلي إنها ما بتحبني عالعموم جيبها بنروح مع بعض ..
لم يستطع المحقق تمالك نفسه من شدة الغضب وانهال علي صراخا وشتما وأخذ يهزني من كتفي بشدة ..
تلك الشدة أخفت تحت جلدي شوقي ولوعة قلبي وسريان الخوف والقلق الذي كان يسري في قلب أمي بعد أن أغلقت سماعة الهاتف.
أذكر أنني بعد ساعات طويله من التحقيق والتنكيل بعد تلك المكالمة بقيت صامتا .. بقيت في تلك الغرفة لساعات وساعات حتى بعد أن نال التعب والانهاك من المحقق الذي قال لي إني ساتعفن في هذه الغرفة ولن يكلمني أحد ولن أرى أحدا وأنني سأرجوه أن اعترف فقط كي يكلمني أحد .. ولم يعلم أن صوت أمي كان يتخفى في جدران تلك الغرفة وبين شقوقها ويطوف حولي حالا عني وثاقي مضمدا في جسدي جراحي .. لم يعلم أني بقيت صامتا فقط كي لا يزاحم صدى صوتها في تلك الغرفة صوت آخر ..
في ذلك اليوم أنقذني صوتها من الانكسار ورفع هامتي عالية في وجه الريح ..
أنقدتني حين لم تستمر في تلك المحادثة لأكثر من دقيقة ونصف كانت تساوي عندي دهرا بأكمله... أنقذتني حين حملت إلي بصوتها رائحة فلسطين رائحة الحرية .. تنقذني أمي كل يوم بصدى صوتها وتغطي نحول جسمي وقله حيلتي .. ترفعني فوق نفسي وتحيني ..
إلى أمي العالية إلى أمهات الشهداء وأمهات الأسرى .. صبرا .. فإن موعدنا فلسطين .. كل فلسطين ..وطابت مستقرا ومقاما .. لا تنسوا أمهات الأسرى والشهداء من الزيارة والتفقد فإنه يضمد بعض المهن وعمق المصاب..