شبكة قدس الإخبارية

ثلاثون عاماً.. الطريق إلى ليماسول

عمر ابحيص

ثلاثون عاماً بالتمام والكمال، هو الوقت الذي استغرقني للوصول إلى هذه الجزيرة المتوسطية التي لا يعرف لها صاحبٌ نهائيٌ بعد، والتي لا تبعد إلا دقائق بالطائرة عن لبنان أو فلسطين، وتحديداً إلى مدينة ليماسول الأشبه بقرية اضطرت للتوسع لتصبح مدينة. ثلاثون عاماً و أعياد حبٍ كثيرةٍ لم يحتفل بها قادتني أسفاري فيها إلى عشرات الدول ومئات الرحلات وظللت أحاول لجزء كبير من الوقت أن أصل إلى هذه البقعة دون جدوى، خانتني شجاعتي أحياناً وخنتها أنا أحياناً أخرى لكن من المؤكد أن رقم ثلاثون أتى بالصدفة المحضة.

وها أنا ذا في الذكرى الثلاثين لإستشهاد أبي وإثنين من رفاقه بتفجير سيارةٍ مفخخة، أقف في نفس اللحظة في نفس المكان وقد مر الوقت فقط لكن اللحظة باقية في بعد آخر. شجاعتي المستجدة لم تأت الآن عبثاً هي أتت في الوقت الذي يبدو فيه هذا العالم مختلاً تماماً، ولكن البقعة التي تصر منذ مئات السنين على الإحتفاظ بكأس العالم للجنون المطلق هي منطقتنا العربية التي مرت بربيعٍ قصير لم يبقى حتى يزهر أعقبه خريف تساقطت فيه المبادئ والأفراد والأفكار والجماعات بالجملة، ما لبث أن تحول إلى شتاء عاصف مكفهر دون مطر لم يبلغ أوجه بعد سيعقبه بتقديري صيفٌ حارق جاف لن يبقي ولن يذر.

في وقت الغيوم الملبدة احتجت أن آتي إلى هذه البقعة بالتحديد، لأتذكر وأرجع إلى القصة من بدايتها بالنسبة لي على الأقل. ولدت قبل هذه اللحظة من عام ١٩٨٨ بإثنتي عشرة سنة وستة أشهر وثلاثة عشر يوماً في برج البراجنة في ضاحية بيروت الجنوبية في عز الحرب الأهلية، هذا مجموع الوقت الذي كان لي مع أبي على هذه الأرض.

إذا استثنينا منها سنين الطفولة الأولى التي لا تتكون فيها ذكريات الأطفال بعد، يبقى لنا ثماني سنوات أو أكثر قليلاً، لكن الغريب في الأمر أن أول ذكرياتي عن أبي تبدأ من عمر السابعة لا الرابعة كما يفترض، وذلك ليس لخلل في ذاكرتي التي يقول عنها البعض أنها خارقة بقدر ما يتعلق بطبيعة الحياة التي كان يعيشها أبي متنقلاً بين الجنوب وبيروت ومواقع أخرى للثورة الفلسطينينة داخل لبنان، لكن الأكيد أن بيتنا لم يكن أحد هذه المواقع، لأني أبحث عن صورته في ذلك المنزل جاهداً ولا أجدها، أذكر غرفة نومي وسريري الأزرق والأبيض الذي ما زلت أحتفظ به إلى اليوم بعدما نام فيه أطفال كثر من عائلتنا.

أذكر الساعة التي تعبأ باليد التي أهداني إياها جدي في عيد ميلادي، أذكر غرفة الجلوس البيضاء والزرقاء وغرفة السفرة، والمطبخ الذي كانت تغني منه أحياناً وردة الجزائرية مطربة أمي المفضلة، وشرفة المطبخ التي كنت ألقي منها البصل وملاقط الغسيل على الجيران. أذكر الكوريدور الملاصق للباب الذي كنا نجلس فيه أثناء القصف للإعتقاد السائد بأنه أأمن نقطة في المنزل، أذكر سناء وجدولتيها، أذكر دنيا التي كانت تعيش في الإمارات وفستانها الأخضر المشجر، وأم أسامة وسكين المطبخ الكبير ولسعات الكهرباء لجرسهم المعطوب، وأذكر لعبة غرندايزر ولحظات السعادة الغامرة عندما حصلت عليها.. أذكر كل ذلك دون أن أرى صورة أبي في هذا المنزل أبداً.

الشيء الوحيد الذي يخطر ببالي، هو صوته عندما سألته عن أصوات الرصاص الكثيف الذي كنا نسمعه ونشاهد بعضاً منه في الهواء من شرفة المنزل، قال لي صوته حينها هؤلاء فرقة ال١٧ زعران أبو عمار يطلقون النار في الهواء، ومنذ تلك اللحظة بقيت نظرتي إلى فرقة ال١٧ سلبية حتى يومنا هذا، واعتبرت كل من ينتسب اليهم أزعر بالضرورة، وبقيت نظرتي إلى أبو عمار سلبية كذلك حتى حوصر في المقاطعة أثناء الإنتفاضة الثانية وتغيرت تماماً، فلماذا يحتاج أبو عمار زعراناً؟

الذكرى الوحيدة التي تمتلك صورةً لأبي في هذا البيت كانت عند ذهابه للحج، وكان عمري عندها سبع سنوات وسألني ماذا تريد أن أحضر لك من السعودية؟ فأجبت بدون تردد دراجةً حمراء، لم أكن أعلم وقتها أن لا أحد يعود من الحج بدراجة وعن صعوبة شحن الدراجة بالطائرة، وما إلى ذلك قال لي حاضر وعندما عاد سألته عن الدراجة قال هي في الشحن ستأتي بعد يومين وبالفعل أتت دراجةٌ حمراء رائعة لم يعدل حصولي عليها حصولي على أي شيء بعدها. كبرت وظللت لسنوات طويلة جداً معتقداً بصدق أن الدراجة أتت من السعودية حتى قالت لي أمي وقد كنت شاباً يومها أنه إشترى الدراجة بعد عودته من  بيروت وليس من السعودية وليتها لم تقل.

لكن الحقيقة، أن لي ذكريات طفولة كثيرة مع أبي ولكنها ليست في المنزل هي في قلعة الشقيف في الجنوب حينما كانت مقراً للكتيبة الطلابية وفي النبطية أيام عاشوراء التي كنا نشاهد المسيرات فيها وفي الجبل في بيصور وعيتات وفي السيارة الفولكس فاغن، وفي زيارة قبور الشهداء في العيد والمرور على عائلاتهم بعد ذلك وفي مكاتب لفتح في دمشق، وفي مواقع عسكرية على إمتداد الجنوب فوالدي كان كأي أبٍ محب يريد أن يرى أولاده ويقضي وقتاً جيداً معهم، لكن هذا الوقت لا يمكن أن يأتي على حساب القضية التي حفظت قصتها قبل تعلمي الكلام وطبعت وجودي على هذه الأرض حتى آخر يوم فلسطين.

في أحد هذه الجولات إلتقينا أبو عمار في الجنوب، وكانت يده مكسورة وقتها ساهم منظر الجبيرة ولم أكن قد رأيته من قبل وقصة زعرانه السابقة في رفضي القاطع للسلام عليه والتقاط صورة معه وبكيت محتجاً عندما قام بتقبيلي وأصر على الصورة.

إفترقنا عن أبي في الإجتياح الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢، ذهبنا إلى عاليه في الجبل مع عائلة أمي الكبيرة وبقي هو في بيروت أثناء الحصار، ثم لم نلبث أن ودعنا عائلة أمي وذهبنا وأخي زياد برفقتها إلى عمان بسبب لساني الطويل، حيث أتى الإسرائيليون لتفتيش منزلنا في عاليه بعد انتشارهم في الجبل وكنت ألعب قرب المنزل، فلما رأيت الجنود بأسلحتهم وكان الفدائي الفلسطيني هو الرمز المسلح بالنسبة لي ومن غير المتخيل وصول جنود إسرائيليين إلى قلب لبنان، ركضت إلى المنزل منادياً بأعلى صوتي إجوا الفدائية إجوا يخلصونا من الإسرائيلية وقد كان العكس. قالت جدتي يومها لأمي أبنك هذا لسانه طويل ورح يضيعنا، خديه وعلى عمان وفعلاً لم يأت عصر ذلك اليوم إلا وكنا في السيارة في طريقنا إلى عمان، لا زلت أتسائل حتى هذا اليوم: هل كان قدرنا سيختلف لو أن لساني أقصر قليلاً!!!

إجتمعنا مجدداً بأبي بعد إنتهاء حصار بيروت وخروج الثورة الفلسطينية من لبنان إلى منفاها الأخير تونس، وكان إجتماعنا في طرطوس في سوريا، الإجازة الأولى لنا كعائلة مع أبي وأمي وأخي زياد والأخيرة. إنتقلنا بعدها إلى عمان وعشنا حوالي أربع سنوات حياة أشبه ما تكون بالطبيعية، وكان نتيجة فترة الإستقرار الطويلة نسبياً أخي حسن عام ١٩٨٤ وأخي الأصغر عبدالله عام ١٩٨٦.

بعد شهور قليلة لولادة أخي إختفى أبي دون أثر، وقالت لي أمي أنه سافر ولم يكن متاحاً الحديث معه عبر الهاتف أو بأي طريقةٍ أخرى حتى الهمسات التي كنت ألتقطها وتتوقف فور ملاحظة وجودي من حديث أمي على الهاتف وزيارات أعمامي وبعض أصدقاء أبي كانت تزيد الموضوع غموضاً. إذا كان مسافراً لماذا لا يتصل أو يرسل رسالة ومتى يعود من السفر على الأقل لماذا لا نسافر نحن لرؤيته؟

أعياني جدار الصمت هذا طويلاً، فلا أنا مقتنع أنه مسافر ولا أنا قادرٌ وعمري أحد عشر عاماً وقتها على أخذ زمام المبادرة وفعل شيء للإتصال به ورؤيته لعامً ويزيد قليلاً تناسيت القصة حتى أتى اليوم الموعود في صيف عام ١٩٨٧، قالت لي أمي أبوك طلع ثم استدركت فقالت رجع من السفر ويريد رؤيتكم ،لم تكن الأرض تسع فرحي ذلك اليوم فتغاضيت عامداً عن كلمة طلع وعن السؤال الذي كان يلح علي كل يوم في تلك الفترة ما هو المكان الذي تحتاج عاماً ويزيد من السفر المتواصل لتصل إليه؟!!! لتكون المفاجأة أن هذا المكان هو دمشق التي تبعد ساعتين بالسيارة عن عمان ولو ذهبت إليها ماشياً من عمان لإستغرقت أسبوع على الأكثر.

ذهبنا إلى دمشق، أخي زياد وأنا برفقة أحد أقارب أبي ووجدناه يقيم برفقة صديق له يقيم في شقة واسعة وجميلة في المزة ودعنا قريب والدي بعدها بيومين وبقينا زياد وأنا حوالي الأسبوعين في دمشق. عرفت هناك أنه لم يكن مسافراً بل كان معتقلاً لدى النظام السوري في سجن المزة بتهمة الإنتماء لحركة فتح! ويا لها من تهمة. لم يتغير شكل والدي كثيراً بعد خروجه من السجن لكن شيئاً في العمق تغير، عصبيته الزائدة وضيق خلقه الواضح، كانا كافيين لإفهام طفل صغير مثلي معنى سجن المزة. للحقيقة لم تكن فترة لطيفة ورغم الشوق ومدة البعد كانا أسبوعان عصيبين علي وأظن الآن أنهما كانا عليه كذلك.

عدنا بعدها إلى عمان مع بدء الدراسة تواصلنا عبر الهاتف، ثم سافرنا في إجازة نصف السنة حسن وزياد وأنا إلى تونس وبقي عبدالله برفقة أمي في المنزل. كان هذا اللقاء مختلفاً جداً عن اللقاء السابق كان أبي مرحاً وودوداً فوق العادة وكان متفرغاً بالكامل لنا ذهبنا في رحلات كثيرة وتكلمنا عن الماضي وعن المستقبل حدثته بجرأة وقلت أنني لا أريد الحياة في عمان بعيداً عنه وأنني أريد أن ننتقل إلى تونس لنكون برفقته تناقشنا في صعوبة الإنتقال في منتصف العام الدراسي أصررت على موقفي حتى قبل، قال لي أعطيني شهرين لترتيب أمور السكن والإنتقال إلى تونس وبعدها تأتون ذهبنا إلى المطار على هذا الوعد وهذه الفكرة السعيدة وفي مطار قرطاج بتونس تودعنا على لقاءٍ  قريب جداً …وبكيت …ودعت أبي وودعني عشرات المرات قبلها ولا أذكر أني ذرفت دمعةً واحدة لماذا إذاً في المرة التي فيها وعدٌ بلقاءٍ قريب ونهايةٍ سعيدة بكيت لم أدري! ودعته أول مرة ومشيت بإتجاه بوابات الصعود إلى الطائرة …خطوات قليلة وركضت عائداً وعانقته وزاد بكائي قال لي لماذا البكاء ونحن سنلتقي قريباً أقنعني كلامه فمشيت إلى الطائرة وإنفجرت بالبكاء حتى إني لأظن أني بكيت طوال الرحلة من تونس إلى عمان وهو شيء لم يحدث من قبل ولا من بعد! تحدثنا على الهاتف بعد عودتنا إلى عمان وكان مسافراً إلى ألمانيا فأوصيته على طلبات كثيرة وتم تجديد الوعد وقرب اللقاء!

إغتيل أبي في ١٤ شباط ١٩٨٨ هو وباسم التميمي ومروان كيالي رفاق النضال بتفجير سيارة مروان الغولف بعبوة زرعها الموساد الإسرائيلي في ليماسول قبرص، حيث كان يعيش مروان مع عائلته. كان يوم أحد أذكره ولا أنساه عدت بعد الظهر من اللعب في بيت أحد الأصدقاء لأجد حركة غير طبيعية ودفق من الناس يزوروننا في وقت واحد دخلت إلى البيت فأخذتني أمي وأخي زياد إلى غرفة النوم، وقالت أريدكم رجالاً أبوكم استشهد كان رد فعلي الأول الذي لازمني طويلاً ولا أظن أني تخففت منه تماماً حتى يومي هذا ….لكنه وعد!

احتجت ثلاثين سنةً وأعياد حبٍ كثيرة لم يحتفى بها وخيانة، حتى أستطيع رواية القصة اليوم من مكان حدوث الإنفجار وفي الوقت الذي يحاول البعض فيه تجميل صورة إسرائيل بالأعمال الخيرية حيناً وبمحاولة إظهارها أقل سؤاً من الأنظمة الديكتاتورية التي تحكم عالمنا من حولها، كان لا بد هذه المرة أن لا تخونني شجاعتي وأن آتي لأذكر أن أول من قام بعمليات الإغتيال السياسي في عالمنا الحديث هي الحركات الصهيونية، وأن إقتلاع شعب بكامله من أرضه وإنكار وجوده أصلاً ومحاولة طمس تاريخه وحصار حاضره والقضاء على مستقبله لا يساوي عمل أي نظام ديكتاتوري مهما بلغت وحشيته وعنفه؛ صراعنا مع الطغيان محق وعادل وصراعنا مع الأنظمة الديكتاتورية التي تحكم منطقتنا محق وعادل طالما لم تلمسه إسرائيل أو يلمسها من يذهب إلى إسرائيل ليقاتل وحشاً أنى كان هذا الوحش فالقتال مع الوحش ضد إسرائيل أولى وأحق.

على مدى ٧٠ عاماً من الصراع مع إسرائيل هزمنا كثيراً وإنتصرنا قليلاً ولكن المعركة الوحيدة التي لا نستطيع تحمل ثمن خسارتها هي معركة الرواية طالما بقيت روايتنا ثابتة ومتماسكة سيأتي وقت يوجد فيه من ينفذ الرواية ويحولها إلى حقيقة؛ بخسارة الرواية نكون قد خسرنا المعركة تماماً وفي الوقت الذي يرتد فيه حشدٌ من المهزومين داخلياً للإرتماء في حضن إسرائيل، وجعلها الشر الأهون والأقل ضرراً تمهيداً لتصبح الخير المطلق، كان لا بد لي من الإرتداد إلى الحد الأقصى في كراهيتها والتناقض معها ومعهم والمجيء إلى النقطة التي تجعل هذا الثأر شخصياً وشخصياً إلى أبعد حد. يبقى على المتساهلين والمتفهين والمفكرين راجحي العقل الذين يريدون التساهل مع  المتعاملين مع إسرائيل والمطبعين معها أن يتذكروا أن دماءاً غزيرة سالت قبل أن يبدأ كفاحهم وتكون لهم قضية غير السيران والشوي والمطالبة بالوقوف معهم في قضاياهم العادلة والمحقة تتطلب أن ينبذوا هؤلاء من بينهم قبل.